موقع الناس     http://al-nnas.com/

بناء الدولة العراقية وتنازع بنيتها الدستورية
 


لطفي حاتم

الأحد 11 /9/ 2005

بداية وقبل الشروع في دراسة مضامين مسودة الدستور ورؤيتها لبناء الدولة العراقية الجديدة لابد من فحص بعض التجارب الاتحادية التي أسهمت في إثراء وتطور النموذج الفدرالي، لذلك سنتوقف عند شكلين أساسيين يتمثلان بـ:
أولاً:  ـ الفدرالية الأمريكية التي نشأت بعد اتحاد اثنا عشر ولاية عام 1787 وتطورت بعد الحرب الأهلية الأمريكية المندلعة في أعوام 1861 ـ 1864.
لقد تميزت هذه التجربة التاريخية بخصوصيات كثيرة أهمها: إن القوى الاجتماعية القائدة المتمثلة بمختلف شرائح الطبقة البرجوازية توصلت عبر التوافق السياسي إلى صيغة سياسية لتقاسم السلطة بهدف مد وحماية مصالحها الطبقية على عموم القارة الأمريكية.وبهذا المسار جرى بناء الدولة الأمريكية على أسس قانونية تجسدت في مفاهيم دستورية عامة منها: ـ
ـ وحدة السيادة الوطنية .
ـ وحدة الدفاع والسياسة الخارجية.
ـ وحدة السوق الوطنية، والعملة الوطنية.
ـ أخيراً ارتكاز البناء الفدرالي على منظومة الشرعية الديمقراطية التي أفرزتها البرجوازية الأمريكية.
لقد أغنت الفدرالية الأمريكية دول العالم ومدتها بشكل متطور من البناء السياسي الأمر الذي دفع بروسيا العسكرية إلى الاندفاع في تشكيل الاتحاد الألماني بعد ضمها سوابيا، فرانكفونيا، سكسونيا، بصيغة إجبارية/ توافقية .
خلاصة التجربة الفدرالية الأمريكية إذن المصالح الاقتصادية والهيمنة السياسية.
ثانياً : النموذج السوفيتي لحل المسألة القومية والذي اشترطته أسباب تاريخية يمكن التعرض إلى بعض منها: ـ
ـ بهدف الحفاظ على قوميات الإمبراطورية الروسية ابتدع الروس حلاً فدرالياً للمسألة القومية استند إلى حق تقرير المصير والاتحاد الاختياري الحر .
 ـ جرى بناء الدولة السوفيتية انطلاقاً من ثلاث مستويات سياسية.
أ ـ مستوى اتحادي تشكل من 15 جمهورية فدرالية لها حدود جغرافية وسلطات شرعية / تنفيذية / قضائية إضافة إلى تمتعها بحق الانفصال.
ب ـ جمهوريات ذات حكم ذاتي تدخل ضمن الجمهوريات الاتحادية تتمتع بسلطات / تشريعية / تنفيذية / قضائية لكنها لا تتمتع بحق الانفصال .
ج ـ أقاليم ذات حكم ذاتي.
لقد ارتكز نموذج الدولة السوفيتية وبناءه الفدرالي على: ـ
1 : ـ موضوعات أيديولوجية أهمها :
ـ وحدة الاقتصاد الوطني من خلال هيمنة الدولة على الأنشطة الاقتصادية / الخدمية وتطويرها عبر الخطط المركزية.
 ـ وحدة العملة الوطنية وحصر التجارة الخارجية بالدولة الاتحادية.
_ وحدة الأجهزة الدفاعية / الأمنية وتماثل عقيدتها العسكرية.
ـ وحدة السياسية الخارجية.
2 : ـ قواعد حزبية استندت إلى مبدأ المركزية الديمقراطية بعد تحويله من مبدأ ناظم للحياة الحزبية إلى قاعدة قانونية دستورية تتحكم في البناء الاداري / العسكري للدولة السوفيتية الاتحادية.
على أساس التجربتين الأمريكية / والروسية نحاول التوصل إلى بعض الدالات السياسية.
الدالة الأولى: ـ التطورات الاقتصادية ووحدة السوق الوطنية دفعت مفكري البرجوازية الأمريكية إلى ابتداع الشكل الفدرالي لبناء الدولة الأمريكية بهدف إدامة الهيمنة السياسية.
ـ بالضد من ذلك واستناداً إلى هيمنة الأيدولوجيا الاشتراكية ومنظومتها الاقتصادية المرتكزة إلى أولوية السياسة على الاقتصاد، تطور البناء الفدرالي للدولة السوفيتية.
الدالة الثانية:ـ بناء الشكل الفدرالي للدولتين الأمريكية والسوفيتية انطلق من وجود قوى اجتماعية شكلت كتلة تاريخية ومرجعية وطنية لقيادة وترسيخ الأبنية السياسية الجديدة.
الدالة الثالثة: ـ الشكل الفدرالي للدولة الاتحادية الأمريكية فرضته وحدة المصالح الطبقية للبرجوازية في الشمال والجنوب بعد أن رفعت مصالحها الطبقية إلى مصاف مصالح الأمة الأمريكية. بينما في الحالة الروسية فرضتها المصلحة الطبقية المتمثلة في وحدة العمال والفلاحين بقيادة الحزب البلشفي.
تأسيساً على ما أفرزته التجربة التاريخية من أشكال فدرالية يطالعنا السؤال التالي: ما هي المتغيرات الدولية / الوطنية المؤثرة على البناء الفدرالي لدولة العراق ؟ .
في مسعى للإجابة على التساؤل المثار نحاول التعرض إلى تلك المتغيرات بموضوعات مكثفة:ـ
أ: ـ يتميز الطور المعاصر من العولمة الرأسمالية بتناقض مساره التاريخي. بمعنى إن العولمة الرأسمالية تحمل في تطورها الراهن الإدماج والتفكك.
ب: ـ يتمثل الاندماج بظهور تكتلات اقتصادية كبرى / النافتا / الاتحاد الأوربي / التكتلات الإقليمية / نهوض الصين كقوة اقتصادية كبري.بينما يتمثل نقيضه بانهيار مبدأ السيادة الوطنية/ التدخل في الشؤون الداخلية / مشاركة الشركات الاقتصادية في الاقتصاديات الوطنية/ تفكيك التشكيلات الاجتماعية للدول الوطنية ونقلها من تشكيلات ذات سمات طبقية إلى كتل سكانية تضيع على تخومها الصراعات الاجتماعية.
ج: ـ يسعى الطور المعاصر من العولمة الرأسمالية إلى جعل الدولة مؤسسة لا تتحكم بتطور تشكيلاتها الوطنية وثرواتها الاقتصادية.  
انطلاقاً من تلك الموضوعات تعترضنا حزمة من الإشكالات الفكرية / السياسية منها:ـ
الإشكال الأول : ـ هل أن القوى الديمقراطية مع دولة اتحادية قوية اقتصادياً تحتل موقعاً هاماً ومؤثراً في التكتلات الاقتصادية الإقليمية ؟. أم أن تلك القوى مع دولة لا تمتلك القدرة على صيانة وتطوير ثرواتها الوطنية ؟. بكلام آخر هل نحن مع الوحدة والاندماج ؟ أم مع التفكك والانفصال ؟ .
الإشكال الثاني: ـ هل إن الديمقراطية السياسية هي نتاج تطور وطني/ تاريخي ؟ أم أنها تخلق بإرادة سياسية / خارجية ؟. بمعنى هل تعتبر الديمقراطية تعبير عن موازنة المصالح السياسية الوطنية ؟ أم أنها تعبير عن ديمقراطية الكتل الطائفية / العرقية ؟ .
الإشكال الثالث: ـ هل هناك علاقة بين الوطنية والديمقراطية ؟ . وإذا كان الجواب إيجابا فهل يساعد توزع التشكيلية العراقية على مؤسسات أهلية / المرجعية / العشيرة / الحزب الطائفي / الحزب القومي على بناء الوعي الوطني وبناء وحدة وطنية ؟ .
إزاء هذه الإشكالات ونتائجها أحاول التوقف عند سمات التشكيلة العراقية التي أفرزها الاحتلال الأمريكي وانهيار الدولة العراقية.
1: ـ من الملاحظ إن القوى السياسية العراقية السائدة تساهم مساهمة فاعلة في بناء الشرائح الطبقية الناهضة، حيث عمدت بعض التيارات السياسية إلى توسيع ملكيتها التجارية / الخدمية الأمر الذي وفر لها شروطاً جديدة لتحويل بعض أنشطتها الحزبية إلى فعاليات اقتصادية. بكلام آخر أن الأحزاب السياسية تتحول تدريجياً إلى حواضن اجتماعية لتفريخ الفئات الطبقية/ الطفيلية.
إن عملية استبدال المهمة التاريخية للدولة الوطنية المتمثلة ببناء وتطور نسيجها الاجتماعي بكتل حزبية قومية / طائفية يشكل تراجعاً تاريخياً في مسار تطور العراق الراهن.
2: ـ تتطور الشرائح الطبقية المستفيدة من انهيار الدولة العراقية تطوراً متفاوتاً. وهذا ما يشير إليه تطور الشريحة التجارية / العقارية في كردستان التي يسير نموها بشكل أسرع من مثيلاتها العربية وذلك بسبب تشابك فعاليتها الاقتصادية مع الأبنية البيروقراطية/ العشائرية / الحزبية.
( 1 )
إن التطور المتفاوت للشرائح الطبقية الجديدة يتسم بانعدام وحدتها الوطنية والقومية وهذا ما نراه واضحاً في منطقة كردستان حيث لم تستطع الحكومتان الإقليميتان من توحيد الشركات العاملة في قطاع الاتصالات
( 2 )
3: ـ تشكل الشركات الأمريكية اللاعب الأساس في التطورات الاقتصادية الجارية في العراق حيث تسيطر هذه الشركات على مفاصل الثروة الوطنية، من خلال حق الإشراف الذي تمارسه وزارة الدفاع الأمريكية على مشاريع إعادة الأعمار في العراق.
( 3 )
من هذا العرض السريع نصل إلى بعض الاستنتاجات المهمة والتي يمكن تلخيصها بالمؤشرات التالية: ـ
المؤشر الأول: ـ ليس هناك طبقة اجتماعية أو كتلة تاريخية قادرة على بناء الوحدة الوطنية. بمعنى غياب الطبقة ذات الأهداف العراقية القادرة على بناء الشكل الفدرالي للدولة العراقية.
المؤشر الثاني: ـ إن القوى الطبقية الناشئة تعتمد في بناء قوتها الاقتصادية / السياسية على لحظة النهب المتواصل لتركة الدولة العراقية وبقايا مؤسساتها الإنتاجية / الخدمية.
( 4 )
المؤشر الثالث: ـ إن القوى الطبقية الجديدة لا تمتلك الشرعية الوطنية والفعالية الاقتصادية للتفاوض مع الشركات الأجنبية الأمر الذي يوسم نشاطها بالطفيلية والتبعية للقوى الخارجية.
 لغرض أكساء شرعية فكرية على الاستنتاجات المشار إليها نحاول التعرض بشكل مكثف إلى سمات مسودة الدستور استناداً إلى مصادرها أولاً وتناقض بنيتها الداخلية ثانياً.
أولاً ـ يؤشر البناء الفكري / السياسي لمسودة الدستور العراقي إلى تجاور العديد من المصادر في بنيتها الحقوقية / السياسية منها :
 أ : ـ الشريعة الإسلامية.
ـ قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية.
 ـ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948.
 ب:ـ الاعتماد على دستور الولايات المتحدة في بناء الشكل الفدرالي للدولة العراقية.
ـ الاستناد إلى تقرير أمريكي يدعوا إلى تقسيم العراق إلى خمسة ولايات اتحادية.
( 5 )
 ج: ـ في مجال شكل الحكم جرى الأخذ بالنظام البرلماني المستند إلى أغلبية حزبية لتشكيل الحكومة الوطنية. هذا الشكل البرلماني يمكن ملاحظته في دول مثل تركيا, إسرائيل, وغالبية الدول الأوربية.
ثانياً: ـ تنازع البنية الداخلية للنصوص الدستورية ونجد ذلك في العديد من المواد الأساسية لكننا نكتفي بالإشارة إلى تشكيل المحكمة الاتحادية العليا التي تتوزع مصادرها القانونية بين الفقه القانوني والشريعة الإسلامية الأمر الذي يضفي على فعاليتها الدستورية سمة التنازع .
( 6)
ثالثاً: ـ تكريس الروح الانقلابية في مسودة الدستور المتمثلة في:ـ
أ: ـ التأكيد على نزع البعث وقاعدته الحزبية من التشكيلة العراقية المادة
( 7 ) وما ينتج عن ذلك من استبعاد القوى البيروقراطية/ العسكرية للدولة المنهارة وتواصل إقصاءها من الحياة الوظيفية/ السياسية.
ب: ـ تقاسم السلطة والثروة بين الكتلتين السائدتين، أحزاب الإسلام السياسي الشيعي / الأحزاب القومية الكردستانية.وما يحمله ذلك من فتح الأبواب للصراع بين الكتل السكانية.
ج: ـ عزل الدولة العراقية عن المستقبل العربي وتوزيع سياستها الخارجية على علاقات إقليمية مثل تركيا / إيران / إسرائيل.
رابعاً: ـ ارتقاء بنية مسودة الدستور القانونية إلى مستوى كونفدرالي وذلك لكثرة الضمانات والصلاحيات الدستورية الممنوحة للأقاليم والمحافظات وما يشترطه ذلك من تكريس النزعة الاستقلالية.
( 8 )
خامساًً: ـ النبرة الطائفية وتمجيد المؤسسات الأهلية كما جاء في مقدمة مسودة الدستور والمادة العاشرة التي تؤكد على ( الشخصية الحضارية للعتبات المقدسة والمقامات الدينية ). كما تمجد المسودة دور العشيرة بهدف تكريس أعرافها في الحياة الاجتماعية كما جاء في المادة 43.

خلاصة القول إن مسودة الدستور العراقي ورغم مضامينها المعبرة عن تقاسم السلطة بين الكتل القومية / والإسلام السياسي الشيعي إلا أنها ـ المسودة ـ تحمل حتمية إعادة صياغتها الذي تشترطه مبادئ التوافق السياسي وتوازن مصالح الكتل السكانية ومصالح العراق المستقبلية.


1: ـ نشرت الحياة بتاريخ 22 / 8 / 2005 تقريراً اقتصادياً تضمن معلومات عن توقيع حكومة السليمانية اتفاقية تجارية وفق اسلوب مشاركة الإنتاج ولمدة أربعين عاماً مع ( بت أويل بترو ليوم ) التركية في عام 2003. كما عقد اتفاق ثاني في 20 كانون الثاني 2004 بين حكومة كردستان والشركة التركية جيل للطاقة. 2: ذات المسار تم إبرام اتفاق مع شركة DNO  النرويجية في تموز عام 2004 على أساس مشاركة الإنتاج في منطقة زاخو وأربيل.في هذا السياق نشير إلى أن مسودة الدستور اقترحت في مادتها ( 137) على استمرار العمل بالقوانين التي تم تشريعها في إقليم كردستان منذ عام 1992 وتعد القرارات المتخذة من قبل حكومة إقليم كردستان بما فيها قرارات المحاكم والعقود نافذة المفعول ما لم يتم تعديلها أو إلغاؤها حسب قوانين إقليم كردستان من قبل الجهة المختصة فيها، ما لم تكن مخالفة للدستور.
 2: ـ تعمل شبكة أسيا سل في مناطق حكومة السليمانية ويمنع نشاطها في مناطق حكومة أربيل التي توجد لديها شركة أسمها كوريك للهاتف المحمول ومن الجدير ذكره إن المشتركين في كوريك لا يمكنهم من الاتصال بشبكة أسيا سل والعكس أيضاً.
انظر: البيان الإماراتية 15 / 8 / 2005
.
3تحتل شركتا هاليبرتون وبكتل الأمريكيتين على معظم العقود الكبيرة، حيث حصلت شركة هاليبرتون على عقد عملاق للتموين والإمداد بقيمة 9 مليار دولار أمريكي, وكذلك حصلت الشركة فلور الأمريكية وأميك البريطانية على عقد بقيمة مليار دولار في قطاع المياه والمجاري. انظر إيلاف بتاريخ 7 يوليو 2005 وكذلك الشرق الأوسط 25 مارس 2004.
4: ـ بلغت نسبة الفساد في الاداري في العراق 70% حسب ما أفاد به تقرير الأمم المتحدة المنشور في طريق الشعب بتاريخ 23 / أب / 2005.
5: ـ اقترح التقرير الوارد بعنوان ( تقاسم السلطة في العراق ) والذي كتبه ديفيد فيليبس الباحث في المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية تقسيم العراق إلى خمسة ولايات اتحادية. ويقترح الباحث تشكيل ولايتين أو ثلاث من تسع محافظات بجنوب ووسط العراق. وتشكيل ولاية أخرى من أربع محافظات بوسط وغرب العراق، كما تشكل ولاية أخرى من المحافظات الثلاث في شمال غرب العراق، إلى جانب ولاية مستقلة لبغداد.
 انظر جريدة الاتحاد الإماراتية بتاريخ 28 / 4 / 2005.

6: ـ انظر المادة 90 من مسودة الدستور.
7 : ـ انظر الباب الخامس الفصل الأول من مسودة الدستور العراقي خاصة المواد 117، 118 ، 119 .