| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. كاظم حبيب

 

 

 

                                                                                  الجمعة 6/5/ 2011


 

مصر: الصراعات المريرة وإصرار الشعب على التغيير
(1)

كاظم حبيب 

التحرك الشعبي صوب التغيير
عاش الشعب المصري خلال الأشهر والأسابيع المنصرمة, كما يعيش هذه الأيام وسيعيش الأسابيع والأشهر المقبلة في أجواء من الحراك والزخم الثوريين المستمرين اللذين يجسدان الرغبة العارمة والإرادة الفاعلة والتصميم الصارم على مواصلة عملية التغيير الشامل. والنجاحات التي تتحقق يومياً على هذا الطريق تؤكد قدرة الشعب المنتفض, العائد إلى عمله اليومي الاعتيادي والمستعد للعودة إلى ميدان التحرير وغيرها من ميادين مصر في كل لحظة إن استدعت الضرورة, على تحقيق المهمات الكبيرة التي تواجه الدولة بسلطاتها الثلاث والمجتمع بكل مكوناته. ولم تكن هذه الانتفاضة الشبابية والشعبية عفوية بالمعنى المتداول والذي يتكرر كثيراً في هذه الأيام, سواء أكان ذلك في الصحف أم في وسائل الإعلام الأخرى أم في بعض أحاديث الناس, كما إنها لم تكن بفعل تخطيط مسبق من الأحزاب والكتل السياسية المعارضة للسلطة السياسية, سواء أكانت تلك التي قاطعت الانتخابات الأخيرة والمزيفة, أم التي شاركت بها بفعل مساومات سيئة عقدت مع الحزب الوطني الحاكم بأمل الحصول على عدة مقاعد في البرلمان كان من شأنها أن تفيد النظام بالادعاء بنزاهة الانتخابات وتساهم في تبرئة النظام من التزوير المفضوح والمخجل, كما حصل لحزب التجمع الوطني بقيادة الدكتور رفعت السعيد. لقد جاءت هذه الانتفاضة الاحتجاجية الشعبية التي فاجأت كل الأحزاب السياسية والقوى الحاكمة في آن واحد بعد سلسلة من:
** المظاهرات والإضرابات المهنية والاعتصامات العمالية وقوى النقابات والجمعيات والاحتجاجات الشديدة على صعيد مصر كلها منددة بالبطالة والفساد والفقر وظلم الأجهزة القمعية كلها وتزوير الانتخابات. ونشير هنا بشكل خاص إلى الحركات السياسية والاجتماعية التي بدأت بشكل خاص منذ العام 2004, ومنها حركة كفاية التي رفعت شعار "لا للتمديد..لا للتوريث" لرئاسة جمهورية مصر العربية, وكانت تطالب بتعديل مواد في الدستور لتغيير أسس وأسلوب انتخاب رئيس الجمهورية, وكانت تضم أعضاءً من مختلف الأحزاب السياسية ومن المستقلين, إضافة إلى حركة 6 أبريل/نيسان 2006 العمالية التي شملت كل عمال النسيج ثم أسست حركتها النقابية المستقلة عن الاتحاد العام للعمال الرسمي في العام 2008.
** المذكرات الاحتجاجية التي كانت ترفعها الأحزاب السياسية المعارضة إلى رئيس الدولة والحكومة حول الوضع السياسي السيئ والمتدهور القائم في البلاد.
** الكتب الكثيرة التي صدرت عن كُتَّاب وكاتبات في مصر والخارج كانت كلها تؤكد تدهور أوضاع الشعب والفجوة المتسعة باستمرار بين السلطة والشعب وعن السلبيات التي تميز النظام. كما يمكن متابعة ذلك من خلال مراجعة المجلات والصحف المصرية خلال السنوات العشر أو الخمس الأخيرة.
** تقارير المنظمات الدولية حول الأوضاع الاقتصادية المتدهورة والبطالة الواسعة والفقر الذي شمل مجموعات كبيرة من السكان والتي يمكن أن تشكل مؤشراً على رفض المجتمع للسياسة الاقتصادية والاجتماعية والفساد السياسي للنظام المصري.
** تقارير منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني على الصعيدين المحلي والإقليمي والدولي التي كانت تؤكد على مصادرة حقوق الإنسان والحريات العامة والديمقراطية وعلى الأساليب القمعية التي تمارس ضد الأفراد والمجتمع وضد السجناء السياسيين وسجناء الحق العام, إضافة إلى تفاقم مظاهر الفساد والارتشاء في أجهزة الدولة والغنى الفاحش والنهب والسلب لأموال الدولة وعقاراتها من جانب الفئة الحاكمة وكبار مالكي وسائل الإنتاج.

إن كل ذلك وغيره لم يجلب انتباه السلطة الغارقة في فسادها وتسلطها وقمعها للشعب في كونها تمارس إهانة كبيرة ومتواصلة لكرامة الإنسان المصري والمجتمع في آن واحد. مما وفر مستلزمات الانتفاضة الشعبية ونجاحها من الناحيتين الذاتية والموضوعية.

فلو تتبعنا مسيرة الانتفاضة الشعبية لوجدنا إنها في البداية كانت قد توجهت ضد ممارسات وزير الداخلية حبيب العادلي وأجهزته القمعية والمطالبة بعزله ومحاسبته والتحقيق في قضية مقتل المواطن خالد سعيد في الإسكندرية, كما حصل قطع إذن المواطن المسيحي أيمن أنور لأسباب طائفية وفرض التنازل عن حقه بأساليب خبيثة وتحت التهديد بالقتل, ولكن كل ذلك وغيره قد تطور وتجلى بشكل أكثر وضوحاً وقوة في الشعارات الأساسية الثلاثة التي رفعها شباب الانتفاضة وهي:
"الحرية - العدالة الاجتماعية - الكرامة الإنسانية".

ولم يكن بينها أي شعار يدعو إلى إسقاط رأس النظام, محمد حسني مبارك, أو إلى إسقاط النظام, إذ كانت الخشية ما تزال تسيطر على أذهان الناس. ولكن السلوك المشين الذي انتهجه النظام في مواجهة مطالب الشبيبة والأساليب القمعية التي مارستها أجهزته بعد حمام الدم الذي أودى بحياة المئات من المواطنين العزل خاصة في يوم 28/يناير/2011 ارتفع بسرعة فائقة سقف مطالب المتظاهرين المحتجين الذين تجمعوا في ميدان التحرير للتوجه ضد ممارسات وزير الداخلية حبيب العادلي وأجهزته القمعية والمطالبة بعزله ومحاسبته والتحقيق في قضية مقتل المواطن خالد سعيد في الإسكندرية وسرعان ما اتجه الاحتجاج الشعبي ضد وجود رأس النظام, ومن ثْمَ النظام كله.
إن هذه الانتفاضة الشعبية العارمة استطاعت إسقاط حسني مبارك وحكومته, ولكنها لم تسقط النظام السياسي بكل مكوناته حتى الآن, إذ إن العملية ما تزال تسير ببطء واضح يعكس الصراع الدائر على مختلف المستويات. ولكن الثوار الذين سعوا وما زالوا يسعون إلى تحويلها إلى ثورة شعبية حقيقية, يخوضون اليوم صراعات مريرة لتغيير جاد وفعلي في موازين القوى لصالح أهداف الشعب وتغيير بنية النظام السياسي وأجهزته وشخوصه, وهي عملية معقدة وطويلة نسبياً وقابلة للمد والجزر, إذ إن القوى التي فقدت رئيسها ومجموعة مهمة من النخبة الحاكمة والمحيطين بها ما تزال تقاوم وتستعين بشتى القوى الداخلية والإقليمية والدولية لتأخير المسيرة الثورية للشعب المصري بأمل تغيير الوجهة والعمل على قاعدة خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء. ولكن المجتمع المصري يعيش اليوم حالة ثورية أخرى هي الدفع باتجاه السير خطوتان إلى الأمام, ومن ثم التصدي لمحاولات قوى الردة لتعطيل العملية السياسية ودفعها للمراوحة في مكانها والتباطؤ في تنفيذ مضمون الخطوتين بأمل إعادة العجلة بخطوة إلى الوراء.

إن الصراعات الجارية في مصر مريرة حقاً حيث تلعب الأجهزة الحكومية, رغم الضربات التي ألحقت بها, دوراً كبيراً فيها وتبذل جهوداً استثنائية لإعاقة المسيرة, وتجد لها صدى استحسان وتدخل غير مباشر من جانب قوى داخلية, مؤامرة حرق الكنيسة المسيحية في محاولة جادة لإثارة الصراع الديني في مصر من جديد, وقطع أذن المواطن المسيحي أيمن أنور متري لأسباب طائفية وفرض التنازل عن حقه بأساليب خبيثة وتحتد التهديد بالقتل وبحرب طائفية ضد المسيحيين في منطقة سكنه, وعربية من جانب المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة بشكل خاص, ودولية من جانب الولايات المتحدة الأمريكية بشكل ملموس بسبب التأثير المعروف للإدارة الأمريكية على القوات المسلحة في مصر منذ أيام السادات ومبارك. إن الدول الأكثر قلقا في المنطقة من التحول الديمقراطي في مصر هما السعودية ودولة الأمارات اللتان كانتا تلحان على الولايات المتحدة لكي تحول دون إسقاط مبارك. وتمارسان اليوم ضغوطا متزايداً على القيادة العسكرية المصرية للجم التطور الجاري نحو الديمقراطية. وتتراوح الضغوط بين التلويح تارة "باستخدام العصا وتارة أخرى بتقديم "الجزرة" وبالتحديد من التهديد بإجراءات ضد العمالة المصرية في تلك البلدان، التي تمثل تحويلاتها المالية احد المصادر الرئيسية للدخل القومي المصري، ومن جهة أخرى تلوحان بتقديم مساعدات مالية سخية في حالة الاستجابة لمطالبهما. وفي المقابل تواجه قوى الثورة المضادة صعوبات جمة في تغيير الدفة بسبب حركة وفعل الثوار الشباب المحصنون بمناعة جيدة قادرة على إحباط تلك الجهود ما لم تدخل عوامل سلبية إضافية على الوضع العام لتؤثر على وجهة المسيرة. فالمعطيات التي بين أيدينا متحركة ومتغيرة ولكنها تؤكد في المحصلة النهائية قدرة الثوار على كسب المعركة باتجاه التغيير وتحقيق النصر.

تواجه القوى الثورية مهمات كبيرة ناشئة عن المعاناة التي ما تزال موجودة, إذ إن الفعل الثوري لم يستطع حتى الآن تحقيق التغيير العميق والمنشود لإزالة العوامل التي كانت من أسباب الانفجار الثوري للشبيبة والشعب الكادح وفئات واسعة من البرجوازية الوطنية بقايا الفئات المتوسطة والصغيرة في المدينة على نحو خاص.

العوامل الكامنة وراء الفعل الثوري للشعب المصري
إن المعاناة التي يجري الحديث عنها في مصر نشأت بفعل عوامل كثيرة جسدت المرارة الشديدة التي كان الشعب المصري في غالبيته يعيش تحت وطأتها يومياً وفي كل ساعة ولحظة وتتجلى في مزاجه اليومي, رغم خفة دم المصريين, والتي لا يمكن لكل إنسان عاقل أن لا يراها ويسمع شكواها في البيت والشارع وفي الأحاديث الغنية بمضامينها وتعدد وجهات النظر وعمق الكثير منها لسائقي سيارات الأجرة "التاكسيات" من مختلف الأعمار وفي الجامعات والكليات والمعاهد الفنية والمهنية وفي مواقع العمل في المدينة والريف وصغار الموظفين والعاملين في قطاع الخدمات والإنتاج الخاص والحكومي ... الخ. وكان الحكام الذين رفضوا الإصغاء إلى صوت العقل وإلى أحاديث المجتمع, لكي لا يخدشوا أذانهم بالنقد الصريح والصادق والمستمر, قد فقدوا البصيرة والبصر حقاً, إنهم الحكام المخلوعون في مصر الذين تجبروا وطغوا, فسدوا وأفسدوا, ونسوا أنهم من هذا الشعب ويتحملون مسؤولية الحكم لصالح الشعب وليس لصالحهم كأفراد وكفئة حاكمة أو لصالح الأغنياء المتخمين بالمال والسحت الحرام. فمن تسنى له الحديث مع جمهرة كبيرة من المصريين خلال الفترة التي سبقت الانتفاضة الشعبية في الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2011 يمكنه تلخيص العوامل التالية باعتبارها الأسباب المباشرة لما حصل وما سيحصل في مصر أيضاً:
1 . غياب الحريات العامة وحقوق الإنسان والديمقراطية وحرية المرأة وسيادة الرجل الواحد والحزب الواحد وأجهزة الأمن القمعية التي كانت تمارس الاعتقال الكيفي والتعذيب أثناء التحقيق وفي السجون ومصادرة فعلية تامة.
2 . استخدام قوانين جائرة, ومنها بشكل خاص قانون الطوارئ, المناهضة لحقوق الشعب وحقوق المواطنة والأفراد من خلال تطبيقها بتعسف شديد هيمنت على حياة الشعب المصري والحياة السياسية طيلة عشرات السنين.
3 . تراجع شديد في ممارسة الحياة الدستورية والمؤسساتية وتشويهها وإلحاق المزيد من الأضرار السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية بالمجتمع وتسيير شؤون الدولة في غير صالح المجتمع وتزوير الانتخابات العامة بشكل صارخ ودون حياء.
4 . الفقر الواسع الانتشار في الريف والمدينة والذي يشمل ما يقرب من نصف المجتمع المصري (48%), وهم الذين يعيشون تحت خط الفقر ونسبة أخرى على خط الفقر أو فوقه بقليل والذي يجده الإنسان في العشوائيات المحيطة بالمدن وفي المقابر التي تضم أكثر من 4 ملايين مواطنة ومواطن في القاهرة وحدها.
5 . غياب الطبقة الوسطى من الخارطة الاجتماعية في مصر, وهي تأكيد لما كتبه الصديق الفقيد الدكتور رمزي زكي في كتابه الموسوم "وداعاً للطبقة الوسطى" في مصر, والتي انحدر أفرادها إلى الفئات الاجتماعية الكادحة والفقيرة, كما انحدرت فئات أخرى في مستوى حياتها ومعيشتها إلى ما يطلق عليه بالبروليتاريا الرثة.
6 . الفجوة الكبيرة والمتسعة باستمرار بين مستوى معيشة وحياة الغالبية العظمى من السكان الفقراء المدقعين الذي لا يزيد دخلهم اليومي عن دولار أو دولارين والأغنياء المتخمين الذين يكدسون المليارات في حسابات محلية وخارجية.
7 . الفساد المنتشر كنظام معمول به في أوساط الفئة الحاكمة والكومبرادور والأغنياء وكبار أصحاب رؤوس الأموال بحيث أصبح ومنذ عقود يلتهم نسبة مهمة من الدخل القومي المنتج في مصر, كما يلتهم جزءاً مهماً من المعونة المالية التي كانت تقدم من الخارج لمصر سنوياً وكانت تستخدم لصالح الفئة الحاكمة ومن حولها. ولم يكن مخطئاً من قال أن السمكة تتعفن من رأسها وتنتهي إلى ذيلها أو الشاعر الذي قال:

إذا كان رب البيت بالدف ناقراً    فشيمة أهل البيت كلهم الرقص

8 . البطالة المكشوفة التي تشمل نسبة عالية من القادرين على العمل, وبشكل خاص وسط الشباب المصري والخريجين منهم على نحو خاص, إضافة إلى وجود بطالة مقنعة مجهدة للاقتصاد الوطني.
9 . التمييز الصارخ بين الناس على أساس الطبقة والفئة الاجتماعية وعلى أساس الحزبية لصالح الحزب الذي حكم مصر عقوداً عديدة رغم التغيرات التي طرأت على اسم هذا الحزب. وكذلك التمييز بين الناس على أساس الدين والمذهب أو الطائفة التي بدأت تجر المجتمع دون وعي بمخاطره الكبيرة على النسيج الوطني للمجتمع المصري.
10 . الاستغلال الفاحش المسلط على رقاب الناس منذ عقود وجور الفئة الحاكمة والجماعات المالكة لوسائل الإنتاج وإيغالها في إفقار المجتمع والدخل القومي لصالحها. لم تعرف مصر في ظل حكامها العدالة الاجتماعية, سواء أكان ذلك في عملية توزيع الدخل القومي أم في إعادة توزيعه أم في سبل ومضامين استخدامه.
11 . النضال الذي خاضته الجماعات المعارضة ساهم في تراكم النضال ضد المعاناة العامة والرغبة في الخلاص, بالرغم من مساوماتها الواضحة مع الحكم.
12 . ومما زاد في الطين بِلة استمرار حسنى مبارك ما يقرب من ثلاثة عقود من السنين العجاف في الحكم ثم أراد بكل السبل التمديد ومن ثم توريث الحكم لأبنه جمال مبارك مما أثار ليس غضب المعارضة السياسية المصرية فحسب, بل وكافة بنات وأبناء الشعب المصري. فالحكم الجمهوري أريد له أن يتحول إلى نظام "حكم جمهو-ملكي", كما حصل في سوريا وكما كان يراد أن يحصل في ليبيا واليمن على سبيل المثال لا الحصر.
13 . وقد تميزت السياسة الإقليمية والدولية لمصر بالمساومة والانتهازية الجارحة لكرامة شعب مصر في قضايا عربية وإقليمية ودولية لم تكن تعبر عن إرادة ومصالح الشعب المصري بل عن حسابات قصيرة المدى وضيقة الأفق ومؤذية للمجتمعات العربية.

إن كل ذلك قد تسبب في إصابة كرامة المصريات والمصريين بجروح عميقة وكبيرة لم يستطع الشعب تحملها. ومن هنا يمكن الاتفاق مع النص الوارد في تقرير لجنة تقصي الحقائق المصرية حول أحداث ثورة 25 يناير 2011 حين أكد ما يلي:
"إن ثورة 25 يناير 2011 ثورة اجتماعية كاملة بمعنى الكلمة إذ شكلت حدثاً فاصلاً بين عهدين ونقلة كبيرة بين نظامين. وكانت هناك عوامل بمثابة الوقود الذي أشعل هذه الثورة يمكن إيجازها في : الفساد السياسي وغياب شبه كامل للحريات العامة والأساسية وصنع ديمقراطية ديكورية فقط لم يتفاعل معها الشعب المصري, وغيبة العدالة الاجتماعية وبروز الفوارق الشاسعة بين الطبقات حتى صارت تقريباً طبقتين فقط وتخلي النظام السابق نهائياً عن مسئولياته السياسية والاجتماعية تجاه المواطنين وانتشار الرشوة والمحسوبية حتى أصبحت لغة وثقافة متعارف عليها يومياً في حياة المصريين والقمع الأمني الذي استخدمه النظام في تمرير مشاريعه وإسكات الأفواه المعارضة له, والتضليل الإعلامي وتفريغ الحقائق من مضمونها. ". (
راجع: سناء مصطفى, متابعة, جريدة الوفد, الأربعاء 20 أبريل 2011. القاهرة. ص5).
وفي لحظة من لحظات التاريخ المشرقة للشعب المصري التقى العامل الموضوعي بالعامل الذاتي وجاءت الشرارة المطلوبة عبر انتفاضة تونس لتحرك الشباب صوب التجمع والاحتجاج بمطالب اجتماعية عامة ومعروفة ومعبرة عن الحاجة الملحة وضد المظالم التي يعاني منها الشباب.

الشرارات التي فجرت الانتفاضة الشبابية
ويشير الكثير من المشاركين في مظاهرات الشباب المصري والقوى السياسية الأخرى إلى أحداث عدة باعتبارها كانت القشة التي قصمت ظهر البعير من بين كثرة من المحفزات المهمة الأخرى التي ساهمت في تفجير الوضع في مصر, وهي:
1) حادث تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية في صبيحة عيد رأس السنة الميلادية في الأول من كانون الثاني/يناير 2011 والتي أثارت الشباب من المسيحيين والمسلمين والكثير من نساء ورجال الشعب والتي أكدت عجز أجهزة الأمن والشرطة من حياة الناس ودور العبادة ومخاطر تفاقم المشاعر الطائفية والتمييز الديني. (
راجع: د. عمرو هاشم ربيع, ثورة 25 يناير (قراءة أولية ورؤية مستقبلية), مطابع الإهرام التجارية-قلوب- مصر. مارس 2011. الفصل الثالث. موقف الأحزاب السياسية. بقلم هاني الأعصر. ص 65-78).

2) قتل المواطن المصري خالد سعيد لتصويره بشكل سري أفلام فيديو تكشف بشكل موثق الفساد الفاحش المنتشر في أوساط أجهزة الشرطة, وخاصة المخدرات, من قبل جهاز الشرطة في الإسكندرية ثم وضع مخدرات في فمه بعد موته لاتهامه بالتعامل بها. وقد اعتبر المصريون أنفسهم مستهدفين من قبل النظام وأجهزته بشكل مباشر ونشأ بسبب ذلك الموقع الإلكتروني الذي أُطلق عليه "كلنا خالد سعيد".

3) عودة الدكتور محمد البرادعي إلى مصر وطرحه مسائل مهمة قبل الانتخابات وفي حملات الاحتجاج والتظاهرات المصرية التي شارك فيها منذ العام 2010 وعجز النظام عن اتخاذ إجراءات مباشرة ضده بسبب مكانته الدولية والتفاف الشبيبة حوله. لقد طلب البرادعي من الشبيبة المصرية العمل من أجل تعبئة عدد كبير من المتظاهرين يصل إلى مئة ألف إنسان, إذ عندها يمكن تحدي السلطة السياسية وأجهزتها الأمنية, إذ لا يمكن تحدي السلطة بمئات المتظاهرين, وبالتالي يمكَّن النظام البوليسي من إرسال المئات من قوات الأمن والشرطة لتطويق المتظاهرين وتفريق المظاهرات, في حين تعجز عن تحقيق ذلك حين تكون التعبئة واسعة. وهذا ما تحقق فعلاً. ولكن البرادعي كان متردداً وقلقاً وترك مصر, ولكنه عاد حين انطلقت الانتفاضة فعلياً.

4) الثورة التونسية التي أطاحت بسرعة فائقة بـرئيس الجمهورية التونسية الدكتاتور زين العابدين بن علي التي منحت المصريين الثقة بقدرتهم الفعلية على النهوض بالمهمة, فما حصل في تونس يمكن أن يحصل في مصر أيضاً. وهو الذي حصل فعلاً.

وكعادة النظم المستبدة لم يحتمل النظام المصري هذه التجمعات والمظاهرات فارتكب جريمة الاعتداء على المتظاهرين والمتجمعين في ميدان التحرير ككل المرات السابقة التي كان يمارس فيها القمع وبقية الأساليب الوحشية في مواجهة مطالب الشعب ولم يدرك حقيقة نضوج العوامل الذاتية والموضوعية التي يمكن أن تفجر مكامن الشعب وتطلقه كالبركان الثائر لتحرق ظالميه وسارقي قوته وحياته.

انتهت الحلقة الأولى وتليها الحلقة الثانية وهي بعنوان: "من هم الشباب الذين فجروا الانتفاضة الشعبية؟"


القاهرة في 18/4/2011
 

 

 

free web counter