| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. كاظم حبيب

 

 

 

الأربعاء 5/11/ 2008



عدنان شينو : الفنان التشكيلي المتميز والإنسان المبدع
مع بعض أعماله الفنية

د. كاظم حبيب

كان ذلك قبل عشر سنوات حين وصلتني دعوة كريمة من الفنان التشكيلي السيد عدنان شينو للمشاركة في حفلة افتتاح معرضه التشكيلي ببرلين. كان الحضور واسعاً من الجنسين ومن العراقيين والألمان وجمهرة من الأجانب. كان المعرض مفاجأة سارة بالنسبة لي. فهذا الفنان الشاب القادم من ريف كُردستان العراق الذي تأبط منفى (استعارة من ديوان الشاعر عدنان الصائغ) وحمل أدوات رسمه وأفكاره وما اختزنه من ذكريات وصور الطبيعة والحياة والإنسان في العراق عموماً وكُردستان على وجه الخصوص ورحل مع عائلته من العراق إلى ألمانيا مستجيباً لنصيحة أستاذه في الرسم الفنان محمد مهر الدين. كان ذلك في العام 1985 حين انفرد به وهامساً في أذنه أن يغادر العراق إلى الخارج عن طريق كُردستان لتنمية مواهبه وسلامته لما وجده فيه من نبوغ مبكر وقدرة كبيرة على إتقان تقنيات الحرفة وامتلاك خيال خصب ووعي فلسفي ورؤية مسؤولة إزاء الفن والمجتمع.

فاجأتني بارتياح ألوانه الجميلة الزاهية المتناسقة والمتناغمة المعبرة عن طبيعة كُردستان وضرباته القوية الواثقة أحياناً والناعمة أحياناً أخرى وخياله الخصب المليء بالأفكار التي تدور حول الإنسان والحياة والموت والخلود والبحث في دواخل الإنسان وعما يتصارع في داخل النفس البشرية من أفكار وبين البشر على أرض الواقع.
حملت لوحاته ثلاثة عناصر أساسية:
1, الموهبة والصقل المستمر لها وإتقان الحرفة وتقنياتها والدأب على التعلم والعطاء والاستعداد للتلاقح الفكري والثقافي مع الأفكار والثقافات والفنون التشكيلية الأخرى.
2. الذكريات الزاخرة والحنين الخلاق للأرض التي ولد فيها والطبيعة التي هو جزء منها والناس الذين تربى في وسطهم والخيال الخصب الذي منحه له ريف وسهول وجبال وأنهار كًردستان وسمائها الزرقاء ونجومها الساطعة والأفق الممتد بعيداً وشمسها المشرقة دوماً.
3. هموم شعبه وآماله وتطلعاته وطموحاته ونضاله وتاريخه الطويل المليء بالعواصف والمحن والتضحيات , النجاحات والإخفاقات.

 

 

تجلى كل ذلك في لوحاته التشكيلية وتبلور في اللوحة الرائعة التي تتحدث عن تراجيديا حلبچة التي تجسد كل مآسي الإنسان الكردي والموت الجماعي في حلبچة والأنفال ابتداءً من الطفل الرضيع إلى الصبي والشيخ المسن والمريض والمرأة الحامل من جهة , والعهر العنصري والفاشي لنظام حكم فقد الذمة والضمير كما فقد قادته سمة الإنسان واستخدم السلاح الكيماوي ضد شعب كُردستان من جهة أخرى.

في لوحات عدنان شينو يعيش التناقض والصراع , الدعوة للحب ونبذ الكراهية والحقد , الحنين الخلاق للوطن وملاعب الصبا والذاكرة الإبداعية والتحدي. فالصخرة الجاثمة في مرتفعات أرض كُردستان بقوة وتماسك لا تزال في الذاكرة وتذكره بالعمادية حيث ولد وترعرع فيها وتحولت لديه إلى بقرة حلوب تستقر في ربوع كُردستان وتحيط بها الجبال الشامخة , فهي رمز الكرامة والحياة حيث تحيط بها الشعلة النوروزية.

لوحة أخرى له تصور عاشقين كرديين يحلمان بحياة أفضل ويطيران من السعادة في آفاق رحبة لا يحدها الظلم الاجتماعي والقهر السياسي لنظام مستبد ولى وإلى الأبد , رغم الظلمتين (استعارة من كتاب رفعة الجادرجي وبلقيس شرارة الموسوم بين ظلمتين) حيثما كان يعيش الإنسان العراقي في أرجاء الوطن , في أجوائها القاتمة والقاتلة.

لوحاته تجسد الحب العذري الجميل للوطن والإنسان والطبيعة الأخاذة , وألوانه الهادئة والدافئة وانحناءات خطوطه المعبرة عن أنوثة حية متدفقة ونهود شامخة وصارخة ومثلثات محيطة بها ومتداخلة معها تجسد الرجل. كثرة من الأفكار المتداخلة والمتفاعلة والمتصارعة في لوحاته تعبر عن قلق الإنسان واستغراقه في التفكير وخشيته على الحياة والإنسان والمستقبل كلها مغروسة بتقنيات عالية ووعي متفتح نجدها في عمق لوحاته وفي فضاءاتها.

عدنان شينو رسام , ولكنه نحات أيضاً. يتسم بالجدية والمثابرة والدأب , يتعلم باستمرار ويطور أدواته وأساليبه وألوانه ويسعى إلى تشكيل تيار تشكيلي جديد يتسم بالشفافية العالية والألوان الباسمة المقترنة بالطبيعة والريف الكُردستاني رغم العتمة المحيطة بكل ذلك , إنها الرغبة في التمتع بالحياة رغم كل ما فيها من تعرجات ونكبات وانتكاسات ومصاعب يومية , فهي حياة تستحق العيش والتمتع بها وحمايتها من الأشرار. يجد كل ذلك تعبيره في المرأة والولادة والطفل النامي في بطن أمه أو في لوحة العاشقين اللذين يتواجهان ويتداخلان بانحناءات منعشة وجميلة ولكنها غير مثيرة. إنها تعبر عن الهدوء الذي يتسم به والدفء الذي يحمله في قلبه ويتجلى في لوحاته. إنه رسام حديث وغير تقليدي ومبدع يحتل موقعه المتميز بين الفنانين العراقيين والألمان والأجانب في برلين.

العمل الجديد الذي في طريقه إلى الإنجاز يتمثل في نصب الحرية الذي سيقام في قلب مدينة دهوك في كُردستان العراق. سينهض النصب على أرض واسعة تحيط بالنصب منتزهات جميلة وحدائق غناء ومتحف تحت الأرض. ونصب الحرية في مضامين أجزائه العديدة ومكوناته الكثيرة وصور حياة الإنسان والمجتمع التي يجسدها والمساحة التي يحتلها , يشكل ملحمة تشكيلية جديدة لفنان مبدع تحكي قصة الشعب الكردي في كُردستان العراق , تروي تاريخه الطويل على هذه الأرض الطيبة , إنسانه الطيب المنتج والراعي والعامل والكادح والعاشق , إنسانه الحالم والمتطلع إلى أمام , تروي قصة النضال الطويل من اجل غد كُردستان الأفضل , من اجل الحياة الحرة والكريمة , تروي كارثة حلبچة والأنفال في العام 1988 , والهروب الجماعي من القمع الفاشي صوب تركيا في العام 1991 , تروي الطفولة المعذبة وعيش الإنسان في المجمعات السكنية القسرية , تروي قصة الطفولة المعذبة والعائلات الكادحة والبائسة وحذاء الطفلة الذي لصق بالطين وهي تهرب إلى حدود تركيا من ضربات اقوات الجوية العراقية الظالمة , ولكنها تتحدث في الوقت نفسه عن بطولة هذا الإنسان وشغفه بالخلاص وإصراره على النضال لكسر قيود الظلم والطغيان والسير الحثيث نحو المستقبل ونحو مجتمع مدني ديمقراطي فيدرالي حديث.
إنها ملحمة جديدة واقعية تتجلى في نصب الحرية, تحمل الكثير من الأفكار وصور الحياة الواقعية , ولكنها تمنح الإنسان الحق في التطلع والثقة بالنفس والقدرة على تحقيق الآمال.
لقد سجل رؤيته لمستقبل كُردستان والإنسان , شعب يعيش في مجتمع مدني ديمقراطي حر وحديث , متقدم ومزدهر بعد طول عذاب ومرارة وحرمان وضحايا لا تعد ولا تحصى.
إن كل لوحة من لوحات النصب تعبر عن نوتة موسيقية ساحرة , ذات أبعاد عديدة وأنغام جميلة متشابكة , ولكنها بتفاعل ممتع تشنف الأسماع وتجسد الصراع الدائم بين الخير والشر , بين الولادة والموت , بين الفقر والغنى , بين الديمقراطية والاستبداد , بين الرفض والرضوخ , إنها الحياة بذاتها وتعبر عن مراحل الحياة النضالية في آن.
بهذا العمل الفني الجديد الذي سينهض في وسط مدينة دهوك لا يخلد نضال الشعب الكردي حسب , بل هو تخليد ومنذ الآن للفنان عدنان شينو أيضاً الذي أنجز نصب الحرية وساهم في إعداد المحيط والأجواء التي ستحيط بهذا النصب الكبير.


برلين في 4/9/2008


 

 

free web counter