موقع الناس     http://al-nnas.com/

جريدة الصباح البغدادية
من منظور مختلف


تصريحات بوش وبلير ومرارة الواقع العراقي الراهن!

 

كاظم حبيب

الجمعة 2/6/ 2006

جاءت تصريحات رئيس الولايات المتحدة جورج بوش ورئيس وزراء بريطانيا بلير في أعقاب زيارة قام بها الأخير إلى العراق ولقاءاته الواسعة مع المسؤولين وسعيه لاستطلاع الرأي حول وجود القوات الأجنبية, ومنها البريطانية, في العراق. وخرج برأي مفاده: لا يريد العراقيون خروج قوات التحالف الدولي من العراق حالياً, بل يمكن تنفيذ ذلك عند استكمال بناء القوات المسلحة العراقية وتسلم جميع الملفات الأمنية وقدرة العراق على الدفاع عن نفسه أمام قوى الإرهاب الدولي.
كما اعترف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ورئيس الوزراء البريطاني بالأخطاء الفادحة التي ارتكبت في العراق من خلال نشاطهما هناك. وإذ ركز الرئيس الأمريكي على موضوع التجاوزات الفظة على حقوق الإنسان والمعتقلين العزل التي ارتكبت في سجن "أبو غريب", أشار الآخر إلى الطريقة التي تعاملوا بها مع موضوع اجتثاث البعث.
وإذ أقدر صواب الملاحظات الثلاث المشار إليها في أعلاه, سواء أكانت في الموقف من وجود القوات الأجنبية في العراق أم بصدد الأخطاء المرتكبة, إذ تسنى لي في زيارتي الأخيرة إلى العراق أن ألتقي مع عدد كبير جداً من السياسيات والسياسيين والمثقفات والمثقفين العراقيين ومن العاملات والعاملين في مجال المجتمع المدني وحقوق الإنسان, فأن موقف الجميع كان يشير إلى أن الظرف الراهن لا يسمح بخروج القوات الأجنبية من العراق, إذ يمكن أن تشتعل نيران أخرى في الوطن وتقود إلى خراب ودمار وموت أكبر. ولهذا لا بد من العمل على عدة اتجاهات بالنسبة للقضية الأولى, وهي:
• تسريع بناء القوات المسلحة العراقية بكل صنوفها, الجيش والشرطة والأمن الداخلي, وتنظيفها ممن تسرب إليها من أتباع قوى إرهابية أو بعثية صدّامية أو طائفية سياسية ممعنة بالكراهية والحقد الطائفي في صفوف السنة والشيعة.
• تطويق السياسة الطائفية الممعنة في التمييز على مستوى الحكم والإعلام والقنوات الخاصة والحكومية, بما يسهم في خلق أجواء إيجابية سليمة ونظيفة وبعيدة عن الكراهية والحقد والعدوانية الطائفية السياسية.
• تعبئة كل الإمكانيات المتوفرة لمواجهة قوى الإرهاب بكافة أشكال النضال, وفي مجالات الإعلام والاقتصاد والسياسة, إضافة إلى مجالات العمل السلمي والحوار من جهة, والعمل العسكري والأمني من جهة أخرى.
• التدرج الواعي والمبرمج والمنظم لتسلم القوات العراقية لكافة الملفات الأمنية من القوات الأجنبية والتعامل المباشر مع تلك القضايا ووفق مصالح العراق المباشرة.
• توفير مستلزمات أن يصبح القرار السياسي العراقي قراراً مستقلاً معبراً عن الإرادة الحرة والصادقة في بناء المجتمع المدني الديمقراطي المستقل المستند إلى الدستور الديمقراطي الاتحادي مع العمل الجاد لتطويره وإلغاء المتناقضات في الدستور الجديد وفق ما اتفق عليه قبل التصويت الأخير في الاستفتاء على الدستور.
ولدي الإحساس بأن العراق قادر على تحقيق هذه المهمات خلال السنتين القادمتين, وبالتالي, فأن أي تسريع مخل دون الإمساك بزمام الأمور, سيدفع العراق ثمنه غالياً, وسيدفع بالعراق إلى مهاوي النزاع المسلح, أو إلى نقطة الصفر مجدداً, وهذا ما يسعى إليه البعض من السياسيين المسلحين في العراق, أي من السياسيين الذين يتحدثون بلغة سياسية, ولكن تقف خلفهم ميليشيات معلن عنها أو غير معلن عن وجودها رسمياً. وخلف أولئك وهؤلاء تقف بعض دول الجوار مستعدة للمساهمة في إشاعة الفوضى والاحتراب في العراق لتحقيق مصالحها على حساب مصالح ومستقبل شعب العراق.
فأنا لست إلى جانب استمرار القوات الأجنبية في العراق بأي حال بل العمل من أجل تعجيل خروجها, ولكن وفق ضوابط معينة, أي يفترض أن يخضع الموقف من وقت انسحاب القوات الأجنبية لقرار يصدر من مجلس الوزراء ويوافق عليه مجلس النواب ورئاسة الدولة العراقية, إذ أنهم يستطيعون معاً تقدير الوقت المناسب لهذا الانسحاب.
ومن المؤسف حقاً أن يتذكر كل من الرئيسيين خطأ واحداً فقط ارتكبته إدارتيهما وسياستيهما في العراق. ورغم فداحة الخطأين المرتكبين, إذ لا يعبران عن أي اعتراف واحترام حقوق الإنسان وحقوق المعتقلين من أكبر دولتين تؤكدان التزامهما بالمواثيق الدولية ومنها مواثيق حقوق الإنسان, نسيا معاً الكثير من الأخطاء الأخرى الفادحة التي لم تساهم في تقديم النموذج الذي يحتذى به في بناء مجتمع عراقي مدني, علماني وديمقراطي حر ومستقل, فهما لم يتصرفا في العراق كمحررين فعلاً, بل كمحتلين وفق قرار فرضوه على مجلس الأمن, ومن هنا تعقدت اللوحة السياسية في العراق وتفاقمت. وممارستهما لسياسة تستند إلى التقسيم الطائفي السياسي قد وفرت الأرضية الصالحة للصراع المكبوت طويلاً على الأرض العراقية والذي كان في الإمكان معالجته بطريقة أكثر حضارية وإنسانية وأقل خسارة. كما أن استنادهما إلى الطائفية السياسية قد نشطا في الواقع العراقي, الأرضية العشائرية التي حرثها صدام حسين خلال ما يقرب من ربع قرن من حكمه المباشر على العراق وأكثر من 35 سنة من حكم البعث والبكر وصدام حسين, ودعما دورها في حياة المجتمع على حساب المجتمع المدني.
صحيح جداً حين تحدث الدكتور سعد الدين إبراهيم عن دور غزو نابوليون لمصر في فتح نافذة على الحضارة الأوروبية الحديثة, وهذا صحيح أيضاً عندما كتبت عن نهاية الحرب العالمية الأولى واحتلال العراق من قبل بريطانيا وطرد المحتل العثماني البالي, إلى أن هذا الوجود البريطاني قد فتح للعراق نافذة على الحضارة الغربية الحديثة, بغض النظر عن إرادة المستعمر حينذاك, بل من الناحية الموضوعية ومصالح المحتل. ويحتفظ هذا التقدير بصحته بحدود معينة بشأن الحرب الأخيرة ضد النظام الدكتاتوري, وقد أشار إليه الدكتور صادق جلال العظم قبل الحرب ضد النظام بعدة شهور في ندوة مشتركة معه في مدينة كولون بألمانيا. إن الإشكالية الكبيرة في الحالة العراقية برزت في طبيعة السياسة التي اعتمدتها الإدارة الأمريكية من جهة, وفي الأساليب والأدوات التي استخدمتها في ذلك, إضافة إلى هدف أساسي حرك الإدارة الأمريكية والبريطانية لخوض الحرب, ألا وهي نقل المعارك مع قوى الإرهاب الدولي من بلديهما إلى العراق, أي لم يكن الهدف هو إسقاط نظام صدام حسين وتسليم السلطة إلى قوى المعارضة العراقية بقدر ما كان خوض الحرب ضد الإرهاب على الأرض العراقية, أي صيد عصفورين بحجر واحد. ومن هنا جاءت كل السياسات والإجراءات اللاحقة لإسقاط النظام مثل: ترك القوى الشريرة تعيث فساداً في البلاد, وتدمير مؤسسات الدولة كلها والبنية التحتية القائمة, وحل المؤسسات العسكرية بالكامل دون أن يكون لها بديل مناسب, وفتح الحدود على مصراعيها دون أي حماية مناسبة ...الخ. إن الرؤية الخارجية كما يراها الدكتور سعد الدين إبراهيم تبدو صائبة, ولكن لم يسع الدكتور سعد الدين الغوص في تفاصيل القضية. ولهذا نلاحظ اليوم أن الإرهاب ما يزال مستمرا,ً والموت متواصلاً يومياً وفي كل ساعة, والطائفية لها القدح المعلى في البلاد, والجيران يتدخلون بفظاظة في الشؤون الداخلية للعراق دون أن تتمكن الحكومة من منعهم فعلياً, والقوى العلمانية, وخاصة العربية منها, أضعف من أن تستطيع عمل شيء مفيد وفعال.
لولا الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها القوات الأجنبية منذ أول يوم دخولها العراق حتى الآن, لما استمرت الفوضى والموت والخراب في العراق طيلة السنوات الثلاث المنصرمة, ولكان الأمر قد انتهى مع دخول القوات الأجنبية إلى الأرض العراقية حيث عمت الفرحة في أوساط غالبية الشعب العراقي بسقوط الدكتاتور الأهوج ونظامه الدموي.
إن الاعتراف بالخطأ فضيلة, شريطة أن يكون هذا الاعتراف كاملاً وأصيلاً من جهة, ويسعى صاحبه إلى تصحيح الأخطاء ثانياً, وهو ما لم يتلمسه المجتمع العراقي حتى الآن في الممارسة العملية. ولكنه لم يفقد الأمل بتغيير الأوضاع في أقرب وقت ممكن.