| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. كاظم حبيب

 

 

 

                                                                                  الخميس 27/10/ 2011


 

ألا تغذي مصادرة الإرادة والحريات العامة الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام؟

كاظم حبيب

تجارب الشعوب في الدول العربية خلال العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا تشير إلى بعض الحقائق المؤلمة التي لا بد لنا, وخاصة لعلماء النفس الاجتماعي, من دراستها والتعرف على سبل معالجتها لتفادي جملة من العواقب الوخيمة على الفرد والمجتمع في بلداننا.

لقد عشت أو تعرفت عن قرب أو قرأت بإمعان تجارب أغلب الشعوب العربية خلال العقود المنصرمة. وكلها برهنت على وجود علاقة طردية بين سلب الإرادة الشعبية والحرية الشخصية والقمع والمحاربة بالرزق وأحكام السجن والإعدام ضد قوى المعارضة السياسية وبشكل عام من جانب السلطة الحاكمة وأجهزتها الأمنية وبين ما ينتظر الحكام من عواقب وخيمة حين تحصل الانتفاضات والثورات الشعبية التي تغيب عندها العقلانية والشرعية والاحتكام للقانون في التعامل مع هؤلاء الحكام, إذ تسيطر الرغبة الجامحة في الانتقام ممن عرض حياة الناس للكوارث وسلب إرادتهم وحقوقهم الأساسية وحرمهم من التمتع بالحرية والحياة الديمقراطية وخيرات البلاد والعمل والسعادة, أو ممن اختطف منهم بعض أو الكثير من أبنائهم عبر أحكام قاسية بالسجن والتعذيب أو الإعدام.

لقد تجاوزت الغالبية العظمى من الحكام, إن لم ندع حكام الدول العربية كافة, لصلاحياتهم وداسوا على مضامين الدساتير والحقوق الأساسية للمواطنات والمواطنين, ساهمت ما تزال تساهم اليوم أيضاً, بعمليات الفساد المالي والإداري والتفريط غير المسؤول بثروات الشعب وخيرات البلاد بما لا يساعد على تقدم البلاد وتطورها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وبناء المجتمع المدني والديمقراطي, بل كرست القسوة والبغضاء ونشطت روح الحقد والكراهية لدى الفرد والمجتمع, وبشكل خاص العلاقة بين السلطة والفرد والمجتمع. وحين بدأت عملية انهيار تلك النظم عبر التحرك الشعبي, وحين افلت زمام الوضع من أيدي هؤلاء الحكام,

عجز عقلاء المجتمع تأمين السيطرة على حركة الشعب والوضع السياسي وقيادة الثوار صوب مواقف أكثر عقلانية ومسؤولية وأكثر وعياً بأهمية احترام القانون والقضاء والعدالة وحقوق الفرد في الحفاظ على حياة هؤلاء الحكام بتقديمهم إلى القضاء ومحاكمتهم محاكمة عادلة. إذ أخذ الثوار يمارسون البطش ببعض الحكام ويقتلونهم ويسحلونهم في الشوارع بشكل تقشعر لها الأبدان, كما حصل لعدد من حكام العراق في اليوم الأول من انتصار انتفاضة وحدات من الجيش العراقي, في الربع عشر من تموز/يوليو 1958, ومنهم الوصي على عرش العراق ورئيس الوزراء وابنه مثلاً. وكانت الحالة موحشة ومتوحشة في آن واحد لمن كان شاهداً على ذلك أو من شاهد الصور أو وهم معلقون بالحبال.

وأجزم اليوم لو استطاع الناس اعتقال صدام حسين وأبنائه وبعض قيادة حزب البعث من أمثال عزت الدوري وطه ياسين رمضان وعلي حسن المجيد .. بعد اندحار القوات العسكرية العراقية في حرب 2003 في بغداد لفعل الناس بهؤلاء تماماً كما فعل المتظاهرون حينذاك بعبد الإله بن علي ونوري السعيد وصباح نوري السعيد انتقاماً منهم لعقود حكمهم والعدد الهائل الذين قتلوا في دهاليز الأمن والاستخبارات العسكرية, وفي السجون والمعتقلات, وفي الانتفاضات الشعبية خلال تلك المرحلة المرعبة من حياة الشعب العراقي في ظل الدكتاتورية الباغية وانتقاماً لضحايا انتفاضة 1991 أو الذين قتلوا في مجازر الأنفال والدجيل ..الخ.

لقد كان الأمل يحدو الكثيرين, وأنا منهم, أن لا تكون ثورة الشعب الليبي مشابهة لما حصل لبعض الحكام في العراق, بل كما حصل في تونس ومصر بالرغم غطرسة وأوامر القتل التي نفذتها أجهزة النظام الأمنية والشرطة بالمتظاهرين والمحتجين, وأن يرتفع الشعب فوق أحزانه وآلامه ومصائبه وأن يتم اعتقال القذافي وابنه وبعض أتباعه ممن أذل الشعب الليبي وأفسد عليه حياته والتمتع بثرواته ليقدموا إلى القضاء لينالوا الجزاء العادل على وفق الشرعية والعدالة.

ولكن ما حصل في سِرت كان مؤلماً وشرساً وحزيناً لكل المدافعين عن حقوق الإنسان والعدالة. لقد حصل ما كنا نخشاه بل قتل الدكتاتور شر قتلة, لقد مات بالضرب والتعذيب الجسدي بصورة وحشية مرعبة. لم يقتل بأيدي ثوار عقلاء يحترمون الإنسان وحقوقه حتى لو كان مجرماً من طراز القذافي, بل قتل على أيدي من لا يحترم حقوق الإنسان وحقه في الدفاع عن نفسه أمام القضاء. لقد كانت جمهرة غير قليلة من المشاركين في الثورة ينتقمون لأنفسهم ولشعبهم لما تسبب به القذافي للشعب الليبي من كوارث والآم وعواقب وخيمة في حياتهم اليومية ورفضه الرحيل والإصرار على مواصلة الحكم وقتل الناس ونعتهم بالجرذان, وهؤلاء الذين تجاوزا صلاحياتهم حين اعتقال القذافي ومارسوا التعذيب الجسدي والنفسي بذلك الأسلوب المتوحش لا يساهمون بأي حال في إرساء دعائم القانون الديمقراطي والعدالة ولا يرسون أسساً صلبةً لمستقبل ديمقراطي مشرق في ليبيا.

إن الحكام الذين يمارسون الاستبداد والقسوة والعنف ويحكمون شعوبهم بالحديد والنار ويرفضون بإصرار عجيب الاستجابة لإرادة الشعوب بالرحيل عن سدة الحكم, يفترض فيهم أن يتوقعوا من شعوبهم التي ما تزال نسبة غير قليلة منهم تعاني من الأمية بمعناها العام والسياسي, وحين تكون قد نشأت في دولة تمارس القمع والإرهاب والقتل والحرمان ضد شعبها, أن تواجه مصيراً مماثلاً لمصير معمر القذافي وابنه المعتصم. ولكن علينا أن نؤكد بإصرار تام الأمر التالي: إن رفضنا وشجبنا لأساليب الحكم القمعية التي تمارس ضد الشعوب من جانب النخب الحاكمة, نرفض ونشجب بذات القدر الأساليب الوحشية التي تمارس ه بعض قوى الثورة في أي بلد كان ضد الحكام المخلوعين وأنصارهم, كما حصل لمعمر القذافي وابنه, أو ما حصل قبل ذاك بعقود عدة لعبد الإله ونوري السعيد وصباح نوري السعيد. إذ إن هذا الأسلوب الوحشي لا يبشر ببداية طيبة وعقلانية لمسيرات الثورات الشعبية. إن ما جرى للقذافي يؤكد دون أدنى ريب وجود قوى لا تريد إقامة دولة قانون وأن يكون القضاء العادل هو الحكم في معاقبة المتهمين بالإجرام من الحكام, بل يؤكد و جود قوى تريد أن تثأر لنفسها من حكامها بنفسها وأن تنتقم منهم. ومثل هذا السلوك غير حضاري بأي حال تماماً كما كان أو ما يزال عليه السلوك غير الحضاري وغير القانوني والاستبدادي لهؤلاء الحكام ضد شعوبهم.

إن احتمال حصول مثل هذه العواقب على بعض حكام سوريا واليمن أو السودان قائمة فعلاً. ولا يمكن أن ينفيها أحد, خاصة وأن هؤلاء الحكام أوباش بكل معنى الكلمة ويتعاملون بأشد أشكال الغطرسة والقسوة والعدوانية ضد شعوبهم المطالبة برحيلهم والتمتع بالحريات العامة والديمقراطية والاستجابة لإرادة الشعوب.

لم تنفع حتى الآن الأحاديث الجادة والمشروعة التي يبشر بها المدافعون عن حقوق الإنسان ودولة القانون الديمقراطي عن وجوب عدم ممارسة مثل هذه الأساليب غير الشرعية ضد الحكام الذين تسقطهم ثورات شعوبهم, إذ ما تزال بعض مجتمعاتنا تعيش ثقافة البداوة وترى في الانتقام من العدو خير وسيلة للثأر منه لنفسها, إذ لا تؤمن بالقوانين والقضاء وترى فيه مضيعة للوقت وعملية تسويف لا غير.

إن التلذذ برؤية تعذيب الإنسان, أي إنسان, وكأن الجلاد يعيش عرساً كبيراً, يشكل وحشية استثنائية لدى الفرد أو الجماعة ولا يمكن انتزاعها من سلوك الفرد والمجتمع بمجرد الطلب منهم, بل هي عملية سيرورة وصيرورة حضارية طويلة الأمد تستوجب عملية تربية وتثقيف مستمرة بحقوق الإنسان, حتى بالنسبة لأولئك الناس الذين ارتكبوا جرائم بحق شعوبهم, كما حصل في حالة عبد الإله ونوري السعيد أو معمر القذافي أو ما يمكن أن يحصل في حالة علي عبد الله صالح أو بشار الأسد أو عمر البشير .. الخ.

إن المناضلين الذين رفضوا القمع والتعذيب وتجاوز حقوق الإنسان في ظل النظم الدكتاتورية يفترض بهم وقبل غيرهم أن يدينوا هذه الأساليب ولا يمارسونها ويسعون إلى منع وقوعها.

يقع على عاتق قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية المناضلة ضد النظم الدكتاتورية أن تبذل أقصى الجهود لتثقيف قوى المجتمع, رغم عدوانية الحكام, باحترام مبادئ حقوق الإنسان والقانون والشرعية حتى في التصرف مع الحكام المستبدين, وخاصة حين يقعون بأيدي الشعب أثناء النضال لإسقاطهم.

إن أغلب الحكام الأوباش في بلداننا يحصدون ما يزرعونه بأيديهم, ومن المؤسف حقاً أن هؤلاء الحكام عاجزين عن التعلم والاستفادة مما حصل لغيرهم من مستبدين في مختلف بقاع الأرض, ومنها دول منطقة الشرق الأوسط. ومن هنا تكون الإجابة واضحةً عن السؤال الوارد في عنوان المقال: في ظل طبيعة العلاقات السائدة في الدول العربية ومستوى الوعي السائد فإن مصادرة الإرادة الشعبية والتجاوز الفظ على الحريات العامة وممارسة التمييز بكل أشكاله والتفريط بأموال الشعب تنمي بما لا يقبل الشك مشاعر الحقد والكراهية لدى الفرد والمجتمع وتسهم في بروز الرغبة الجامحة لدى أوساط معينة من الشعب وقوى المعارضة في ممارسة الانتقام بأنفسهم من هؤلاء الحكام.
 

 24/10/2011                                                                                                

 

free web counter