| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. كاظم حبيب

khabib@t-online.de

 

 

 

 

الثلاثاء 26/9/ 2006

 



هل من حلول عملية لأزمة السودان الشاملة؟*

 

كاظم حبيب

كان السودان منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود ولا يزال يعاني من أزمات متلاحقة ومشكلات متراكمة عجزت كل النظم السياسية التي توالت على الحكم عبر انقلابات عسكرية متلاحقة, منذ أن إحراز الاستقلال, عن إيجاد حلول عملية لها. وكانت نظم الحكم السياسية بطبيعتها غير الديمقراطية, تشكل من حيث المبدأ لبّ أو أساس المشكلة التي كانت تعاني منها شعوب السودان. إذ أن المشكلة في حقيقتها تبرز في رفض نظم الحكم الاعتراف بكون المجتمع السوداني والدولة السودانية يواجهان أزمة حقيقة شاملة ومتراكمة في مكوناتها ومتفاقمة في تعقيداتها وما يضاف إليها سنوياً من جديد, وبالتالي لم تكن النظم الحاكمة تتحرى عن حلول عملية لتلك المشكلات.
والأزمة المستمرة هي حصيلة منطقية لعجز الحكومات المتعاقبة عن الإقرار بوجود مجتمع سوداني متعدد الأقاليم وشاسع ومتعدد ومتباين في الأثنيات والثقافات واللغات والأديان, وأن هذا التعدد هو نعمة لا نقمة إذا ما أحسنت النظم السياسية التعامل الواعي مع هذا التنوع البشري والثقافي الرائع. ولا شك في أن جزءاً أساسياً من الأزمة ناشئ عن الذهنية التي كانت وما تزال تهيمن على الحكام أو بعض القوى السياسية ذات النزعات القومية اليمينية التي ترفض الاعتراف بوجود اثنيات أو قوميات أخرى عير العرب من جهة, وترى وتعمل على صهرها في بوتقة العروبة والإسلام! وزادت الأمور سوءاً حين سيطرت القوى الإسلامية السياسية اليمينية المتشددة, الترابي وعمر البشير, على السلطة عبر انقلاب عسكري غير مشروع, وعمدت إلى تصفية الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان وسعت بالقوة إلى فرض الشريعة الإسلامية على كل الشعب السوداني بكل قومياته وأديانه, رغم المعرفة التامة لهذه الجماعة الإسلامية بوجود اثنيات مختلفة وأتباع لأديان أخرى إلى جانب الإسلام, ومنها المسيحية. وكانت ترفض الاعتراف بحق القوميات الأخرى في تقرير مصيرها أو إقامة فيدراليات في أقاليمها تشكل معاً جمهورية السودان الاتحادية, إذ كانت ترى في ذلك بداية لانفصال وتقسيم للسودان.
ولم تلعب الجامعة العربية وجميع الحكومات العربية تقريباً, وهي كلها حكومات مبتلاة بذهنية ذات نزعات قومية يمينية أو دينية محافظة ومتشددة, دوراً إيجابياً في معالجة مشاكل السودان الإثنية والدينية بصورة عقلانية وإيجابية, بل شاركت في زيادة تعقيدها, بسبب رفضها رؤية وجود دولة فيدرالية في أي دولة من الدول الأعضاء في الجامعة العربية, إذ أنها كانت هي الأخرى ترى في كل حكم فيدرالي انفصالاً عن البلد الأم وبالتالي عن الوطن العربي.
وبعد مرور ما يزيد عن ثلاثة عقود وحرب تجاوزت العقود بين الجنوب والحكومة المركزية أجبر الحكم السوداني, بقيادة المستبد بأمره عمر البشير, أن يعترف بحق إقليم وشعب جنوب السودان بحق إقامة فيدرالية فيه وأن يضع هذه التجربة في الاختبار, فأن نجحت فيها سيبقى السودان موحداً, وأن فشلت بسبب سياسات الحكومة السودانية فمن حق شعب الجنوب أن ينفصل عن الدولة السودانية ويقيم دولته الوطنية لمستقلة. ولا شك في أن الغالبية العظمى من شعب السودان تسعى إلى إنجاح هذه التجربة ليبقى السودان دولة اتحادية وتتحول صوب الديمقراطية.
وعلى أهمية هذا الحل الراهن لمشكلة جنوب السودان, فأن هناك العديد من المشكلات المرتبطة بفيدرالية الجنوب ومنها تعيين حدود الإقليم ومن ثم علاقته بدول الجوار والمشكلات العملية الأخرى, من جهة, كما أن هناك الكثير من المشكلات الأخرى التي تواجه السودان, ومنها مشكلات غرب وشرق السودان, من جهة أخرى. ويمكن فيما يلي تلخيص جوهر وجوانب المشكلة التي يعاني منها السودان في المرحلة الراهنة والتي تجلت في أكثر من مؤتمر وأكثر من ندوة عقدت في مناطق كثيرة من العالم, ومنها برلين حيث دعت مؤسسة فرديدريك أبرت إلى عقد ندوتين, وعقدتا فعلاً في العام 2004 و العام 2006 وقبل ذاك أيضاً, للمشاركة في الحوار بين أطراف المشكلات والتحري عن حلول عملية لها:
1. الغياب الفعلي للحياة الديمقراطية والحرية الفردية والتجاوز المستمر والصارخ على حقوق الإنسان وحقوق القوميات والأديان المختلفة.
2. وجود نظام سياسي عسكري يهيمن بالكامل على السلطة عبر حزب سياسي إسلامي واحد ويرفض حتى الآن التعددية, وخاصة في شمال وغرب وشرق السودان, ويعمل على تهميش مستمر لبقية القوى والأحزاب السياسية.
3. تخلف المجتمع المدني وضعف مؤسساته والتجاوز على حريتها في العمل واستمرار وجود المجتمع القبلي بكل عنعناته ومشكلاته المعروفة وتخلف الوعي التنويري الديني والاجتماعي في الأوساط الشعبية..
4. مواصلة العمل من أجل فرض الشريعة الإسلامية على المجتمع في الشمال وفي الغرب والشرق, بعد أن عجزت عن فرضه على شعب وإقليم جنوب السودان.
5. وجود حكومة مركزية ترفض الاعتراف بالواقع السوداني المتكون من أقاليم مختلفة ذات اثنيات مختلفة يفترض أن يسود الحكم اللامركزي الذي يعتمد الفيدرالية. ويلاحظ هذا بوضوح في الموقف من شعب غرب السودان ( دار فور) أو المشكلات التي ستتصاعد قطعاً وتهدد بأزمات جديدة في شرق البلاد.
6. تدهور الأوضاع الاقتصادية وتنامي البطالة والفقر والحرمان لدى نسبة عالية ومتزايدة من السكان, وخاصة في الريف. إلى جانب ذلك توجد الفئات الغنية التي تعيش على حساب الفقراء والكادحين وأن الفجوة بين الأغنياء والفقرات آخذة بالاتساع.
7. شيوع الفساد المالي والإداري في البلاد وتأثيره السلبي المتزايد على الفقراء والكادحين من الناس.
8. ممارسة السلطة العنف الشرس في مواجهة حركات المطالبة بالحقوق, مما يدفع على ممارسة العنف المضاد.
9. ومما يزيد في الطين بلة بروز ظاهرة التشدد الأكثر تطرفاً في وجهة بعض قوى الإسلام السياسي من أتباع النظام السياسي أو من غيرها. ففي الآونة الأخيرة قامت مجموعة مسلحة دموية بقتل أحد رؤساء تحرير صحيفة سودانية نشرت كتاباً غير مناسب يتحدث عن زوجات النبي وسلوكه, اُتهم فيه العفيف الأخضر بكتابته وهو برئ منه كبراءْة الذئب من دم يوسف. ولم يكتف المجرمون القتلة بقطع رأس الضحية فحسب, بل وضعوا رأسه على بطن جثته ترك في الطريق العام انتقاماً منه وتخويفاً لجميع الصحفيين والكتاب السودانيين. ونأمل أن لا تكون بداية لأعمال إجرامية مماثلة في السودان. إننا إذ نشجب هذه الجريمة البشعة, نساند في الوقت نفسه الإضراب الذي أعلنه الصحفيون السودانيون والامتناع عن الكتابة لمدة أسبوع كامل, إذ يعبر بالفعل عن المصيبة الجديدة التي يمكن أن تحل بالسودان, والتي تحتاج إلى وقفة موحدة لشعب ومثقفي وكتاب وصحفيي السودان ضدها.
من هذا العرض السريع للمشكلات يمكن القول بأن الحل العملي يتطلب استخدام عدة أساليب عملية, وهي:
1. رفض القتال والبدء بالحوار الديمقراطي والعقلاني لمعالجة المشكلات القائمة.
2. اعتبار المشكلات القائمة متداخلة في ما بينها وتستوجب الحل برؤية شمولية واضحة ودون تجزئة المشاكل بما يعيق الحلول العملية لها, كما أشار إلى ذلك رئس تحرير صحيفة سودانية والحائز على جائزة النضال من أجل حقوق الإنسان والسلام التي تمنحها مؤسسة فرديدريك أيبرت السيد محجوب محمد صالح.
3. مشاركة جادة من الأمم المتحدة لمساعدة السودانيين على إيجاد حل سوداني لمعضلاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحرية الدينية, إضافة إلى ضرورة قبول السودان بوجود قوات دولية لحفظ الأمن والسلام في (دار فور) بدلاً من القوات الأفريقية أو بعد خروجها أو حتى بالاشتراك معها لمنع احتمال وقوع مجازر رهيبة في هذه المنطقة, تذكرنا بما وقع في رواندا قبل عدة سنوات أو ما حصل في مناطق أخرى من العالم, كما جاء في التقرير الذي تقدم به الأمين العام للأمم المتحدة بشان مشكلة دار فور وتعقيداتها المحتملة في حالة رفض السودان وإصراره على رفض دخول قوات الأمم المتحدة إلى دار فور.
4. ويفترض أن تلعب الجامعة العربية دوراً أكثر إيجابية وعقلانية من الدور الذي لعبته حتى الوقت الحاضر, إذ يفترض فيها أن تعترف بحق الشعوب القاطنة في السودان في إقامة الفدراليات في الأقاليم السودانية المختلفة, وعدم الإصرار غير المقبول بأن السودان كلها ذات هوية عربية, وكأن ليست لها هوية أفريقية مثلاً, وأن هناك إثنيات أخرى غير الإثنية العربية وديانات أخرى غير الإسلام.
5. تقديم العون المادي للسودان للنهوض بأوضاعه المالية المتدهورة.
6. كما يتطلب الواقع السوداني أولاً وقبل كل شيء العودة إلى ممارسة الديمقراطية وحرية الفكر والرأي والسياسة والتعبير, وكذلك الاعتراف بالتعددية الفكرية والسياسية ورفض الهيمنة من طرف حزب واحد أياً كان ذلك الحزب, وإيجاد أرضية عمل مشتركة بين الأحزاب السياسية الفاعلة في الشمال للوقوف معاً لمعالجة المشكلات القائمة. وهذا يتطلب إنهاء الهيمنة الحزبية للحزب الحاكم على الحياة السياسية والحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, أي إلغاء احتكار السلطة, أو توزيعها الراهن بين الحزب الحاكم في الشمال والحزب الحاكم في الجنوب فقط وحرمان بقية القوى السياسية والأقاليم من المشاركة في الحكم, ومواصلة الحوار مع الأطراف الثلاثة في غرب السودان لإيجاد حل سياسي ابعد من اتفاقية أبوجا تقبل بها بقية الأطراف.
إن الحل السلمي والديمقراطي يتم عبر الحوار فقط وليس عبر الحرب والقتل والتدمير أولاً, ويتم عبر سيادة الديمقراطية والحرية الفردية والتعددية ثانياً, ويتم عبر الاعتراف بالآخر وحقوقه كاملة غير منقوصة ثالثاً, ويتم عبر الاستجابة لحاجات بنات وأبناء المجتمع وتأمين العيش والعمل الكريم ومكافحة الفقر والفساد في البلاد رابعاً, ويستوجب دعم الجامعة العربية والأمم المتحدة ودول العالم والرأي العام العالمي في التحري عن الحل السلمي وفي دعم جهود التنمية ومكافحة التخلف وتنشيط عملية التنوير الدين والاجتماعي ومؤسسات المجتمع المدني في السودان خامساً. ويفترض أن لا يرفض مقترح القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة لمعالجة الموقف لصالح شعب السودان بكل مكوناته القومية والدينية.

*  نشر في جريدة المدى البغدادية