| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. كاظم حبيب

 

 

 

 

الأثنين 25/6/ 2007

 


 

قراءة نقدية متأنية في كتاب
"عندما كنت وزيراً" للأستاذ الدكتور عبد الأمير رحيمة العبود
الحلقة الأولى

كاظم حبيب

صدر في العام 2007 عن "دار ورد الأردنية للنشر والطباعة" في عمان العاصمة كتاب جديد للأخ الأستاذ الدكتور عبد الأمير رحيمة العبود تحت عنوان " عندما كنت وزيراً ", علماً بأن عنوان الكتاب بمسودته الأصلية التي اطلعت عليها قبل نشره كان "من خزين الذكريات", وهو عنوان مناسب لمضمون الكتاب وللخبرة والمعرفة التي يقدمها لنا الكاتب والتي اختزنها طوال العقود السبعة من عمره.
يتضمن الكتاب مقدمة وثلاثة فصول, يحمل الفصل الأول عنوان الكتاب الأساسي "من خزين الذكريات", ويتضمن الفصل الثاني فترة "ما بعد الحرب" أي بعد العام 2003 وسقوط نظام الطاغية صدام حسين, في حين يحمل الفصل الثالث عنوان الكتاب المطبوع "عندما كنت وزيراً للزراعة.
شعرت وأنا اقرأ الكتاب أن فيه بعض الخصائص المهمة التي تميزه, منها مثلاً:
• العفوية في سرد الأحداث وبعيداً عن الحذلقة, ولكنه مباشر ودون رتوش.
• الصراحة والصدق في التعبير عن تلك الأحداث وفي الموقف منها حتى لو كانت تمسه شخصياً.
• بساطة الجمل التي يتضمنها الكتاب, ولكنها مليئة بالمعلومات والآراء والمواقف.
• الخزين الحي للذكريات ابتداءً من الطفولة ومروراً بفترة التلمذة والدراسة والحياة الأكاديمية والعيش في ظل النظام الدكتاتوري والحروب والحصار والخوف من الحاضر والمستقبل.
• الحب للوطن, للناس, وللأرض التي سار عليها وهو طفل صغير, والنهر الذي سبح فيه وهو صبي وشاب يافع, والوفاء لأصدقاء الطفولة والصبا والشباب والحياة العملية.
• ويتلمس القارئ أخيراً وليس آخراً التطور الفكري والسياسي الذي شهدته مراحل حياته والمواقف الصعبة التي واجهها والقضايا التي لا يزال يتحرى عن إجابة عنها ولم يستح أو يتردد عن ذكرها.
قرأت الكتاب وكان ما يزال مسودة وأبديت ملاحظاتي المتواضعة لصديقي الكاتب بكل صراحةٍ وودٍ واحترام. ولهذا سأحاول أن أكون بذات الصراحة في محاولتي الكتابة عن صيغته الجديدة. لقد أعطى الكاتب المسودة لأكثر من صديق وأبدى البعض ملاحظاته واستفاد منها دون أدنى ريب. وهي ظاهرة صحية في أن يسعى الإنسان إلى معرفة رأي الأصدقاء وملاحظاتهم النقدية لما يريد أن ينشره وفيها الكثير من التواضع المحمود. والكتاب يستحق القراءة لأنه شهادة حية, ومن زاوية رؤية الكاتب, لأحداث تمتد قرابة ستة عقود, وأهميتها أيضاً تبرز في معالجته لوضع العراق في فترة حرجة واستثنائية من ترايخ العراق, في أعقاب إسقاط النظام الدكتاتوري في حرب غير متكافئة طبعاً عبر القوات الأجنبية
وإعلان احتلالها العراق الذي رفضه الشعب كله وكل القوى السياسية العراقية, ومن ثم قيام سلطة الاحتلال بقيادة العراق بطريقة لا يمكن التعرف على أسوأ منها وكان بطلها السيئ المستبد بأمره بول بريمر!
حين تبدأ بمطالعة الكتاب تشعر برغبة المواصلة. فوصف حياة طفل وصبي في مدينة المجر الكبير التابعة للواء العمارة (ميسان) والركوب بزورق صغير صوب المجر الصغير أو بالمشحوف صوب الأهوار وحياة المدينة الريفية الصغيرة بحميرها وبعيرها باعتبارها وسائط النقل الأساسية, هي مسألة نادرة حقاً لا تتوفر باستمرار لقارئة العربية أو قارئ العربية. ففي الكتاب وصف جميل لهذه المدينة ونشاطها التجاري وعلاقتها بالبصرة والمدن المجاورة وحركة الناس وهمومهم وتطلعاتهم, فيه وصف للمجر الكبير لسوقها وأزقتها وشوارعها غير المبلطة وتلك التي بلطت حديثاً وبيوتها ونخيلها وبساتينها والنهر الذي كان يسبح فيه مع بقية أقرانه. حين تقرأ ذلك تشعر بدفء الحياة والناس ومشاعر الود التي تميز علاقات الناس ببعضهم وتجمع شملهم. يحدثك الكتاب بعفوية وصدق عن العلاقات الطبيعية والودية بين السنة والشيعة والصابئة المندائيين, إذ لم يشعر الفرد هناك بأي تمييز بين هذه الطوائف. ثم يتحدث بحس إنساني عن انعدام التمييز بين الناس على أساس الدين أو المذهب حين أشار إلى المواطن والطبيب المسيحي السيد عزت وزوجته المواطنة والطبيبة جوزفين, وكلاهما كان قد أقام علاقات طيبة مع الناس في المجر الكبير واحباهما الناس كثيراً لأنهما قدما خدمات طيبة للناس , علماً بأن السيدة جوزفين كانت وفي تلك الفترة تظهر سافرة في شوارع وسوق المدينة ولم يكن لأحد أن يخطر بباله الاعتراض عليها. ولكن لم يفت الكاتب أن يدلنا على واحدة من أكثر المشكلات التي يعاني منها الشرق الإسلامي المتخلف , وأعني به الموقف من المرأة. فهي ليست حبيسة العباءة السوداء القاتمة وحبيسة المطبخ والدار وتربية الأطفال حسب, بل هي لا تعرف الشارع والعمل أيضاً. كان هناك بعض النسوة اللواتي استطعن فرض أنفسهن على المجتمع لقوة شخصيتهن أو لحاجة ماسة فرضت نفسها على العائلة , ومن بينهن يبرز اسم "فهيمة" التي تتعامل بالسوق فتبيع وتشتري الحبوب والمنتجات الحيوانية, و"غنمة" التي كانت تبيع الأعشاب الطبية في باحة السوق.
ومن دون أن يقيم مقارنة مع الأيام الراهنة, يشعر القارئ بأن الكاتب يقول له بألم عميق: أين نحن الآن من تلك الأيام الخوالي حيث لم يكن هناك أي تعصب أو تطرف ديني أو مذهبي أو عنف عدواني لدى الناس, في حين يعيش المجتمع العراقي حالياً في ظل التمييز الديني والطائفي والصراع المحتدم بين الأحزاب الإسلامية السياسية القائمة على أساس المذهبية السياسية المقيتة والقتل بالجملة وعدم احترام الأديان والمذاهب من قبل جماعات كثيرة بمن فيها القوى الاستبدادية والظلامية.
يقدم الكاتب لنا صورة حية وواقعية عن مراسيم الزواج والأعياد وعن طقوس عاشوراء واللطامة, والمواكب التي تتوجه سنوياً إلى كربلاء للتعبير عن حزنها لمأساة الحسين وعائلته وصحبه التي وقعت قبل قرون كثيرة, وتبنى لو تنتهي الطقوس الراهن لصالح التأبين الحضاري لهؤلاء الشهداء الأبرار. ثم يتحدث عن شهر رمضان ولياليه المقمرة والمنعشة المليئة بالحركة والزاهية بلياليها والمنعشة للأطفال, وعن الأعياد وفرحة الأطفال بها وبالعيدية والمراجيح والبدلة والحذاء الجديدين أو النظيفين والزيارات بين الأقارب والعائلات الصديقة وصنع الكليچة والأكلات الرمضانية الطيبة والاستثنائية والزلابية والبقلاوة وشعر البنات. ولا شك في أن لعبة المحيبس كانت تهيمن على مقاهي المدينة ورجالها فقط.
يقدم لنا الكاتب صورة عن التعليم والمعلم وعفوية الحياة في مثل هذه المدينة الصغيرة الخالية من كل ثقافة حديثة, وطيبة هؤلاء المعلمين وتأثيرهم الطيب والوطني على التلاميذ. ولكنه يدلك بصوت هادئ منغم وواضح عن البؤس والفاقة والحرمان والبطالة التي شاهدها في هذه المدينة, وعن الفجوة بين الأغنياء والفقراء, ولم يستح أن يقول بأن عائلته كانت واحدة من تلك العائلات الفقيرة التي اغتنت فيما بعد بعمل الوالد التجاري. لم يتردد عبد الأمير عن الحديث عن حبه الأول وولهه الصبياني الجميل بساجدة, هذه البنت الشابة التي تكبره كثيراً ليؤكد لنا بعفوية أن الحب هو رحيق الحياة منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض الطيبة وسيبقى كذلك. ولهذا كان الحب رفيقاً دائماً وطيلة حياة الكاتب, خاصة أثناء دراسته في ألمانيا , ولم ينج منه حتى عندما كان وزيراً! وفي خضم الأحداث المتلاحقة قي الكتاب , نسى الكاتب أن يسرنا بحقيقة بسيطة هي أن هذه المنطقة, التي عاش فيها طفولته وصباه, كانت هي الأخرى أحد مهود الحضارة السومرية والبابلية القديمة, والتي ساهمت أيضاً بتطوير وسائط النقل النهرية, ومنها المشحوف.
ويشعر القارئ بان الحياة كانت حينذاك تعجل في دفع الإنسان نحو الرجولة المبكرة. فما أن دخل عبد الأمير الصف السادس الابتدائي حتى أعطانا الانطباع بأنه أصبح يقرأ أشياء أخرى غير الكتاب المدرسي لجورجي زيدان ومصطفى المنفلوطي وجبران خليل جبران مثلاً , ويعي أشياء أخرى غير ألعاب الطفولة , وخاصة بعد أن تعرف على السياسي الشيوعي الراحل سامي أحمد العامري , وهو يكبره سناً, وعرف منه ماذا يعني الإقطاع واستغلال الفلاحين الفقراء والمعدمين وحياة البؤس التي يعيشها القسم الأعظم من سكان الريف. لقد بدأت السياسية تنفذ إلى رأس الصبي في وقت مبكر وتشغل باله, ثم تنمو صورة الواقع وتتكامل حين يدخل الثانوية في مدينة العمارة والكلية ببغداد العاصمة.
انتقل عبد الأمير الشاب المراهق إلى العمارة ليتسنى له دراسة المتوسطة والثانوية فيها لخلو المجر الكبير منهما, دع عنك خلوها من مدرسة متوسطة أو ثانوية للبنات في المجر الكبير حينذاك. وفي الثانوية توسعت مداركه وبدأ يشعر بوضوح وفي مدينة العمارة البائسة, رغم أنها كانت أكثر تطوراً من المجر الكبير أو الصغير, بؤس الناس وفاقة الفلاحين على نحو خاص وظلم الإقطاع. وكانت هذه الفترة أول تماس له مع الحزب الشيوعي العراقي دون أن يصبح عضواً فيه في أي من مراحل حياته, ولكنه لم يكن بعيداً عنه. لقد كان الحزب الشيوعي يملأ الساحة السياسية في العمارة وتجد أفكاره صدى لدى الناس, وخاصة في صفوف الطلبة, هكذا كان يرى عبد الأمير الحركة في الساحة السياسية في العمارة حينذاك, وهي نموذج لبقية أنحاء العراق. وحين هبَّت في بغداد انتفاضة 1952 شارك طلبة الثانوية في العمارة فيها ولم يتخلف عنها, بل كان ضمن المنتفضين على ظلم الحكم الملكي وجوره على الفلاحين وتغييبه لحرية الناس والديمقراطية. حين اصطدم الرجل السياسي عبد الأمير بظلم نظام صدام حسين وما جرى فيه من انتهاك لحقوق الإنسان وخاصة حقه في الحياة والتعبير والعمل ...الخ, وجد بعض الفضائل في النظام الملكي بالمقارنة مع ما حصل فيما بعد سقوطه, إذ يقول في هذا الصدد ما يلي: " وحينما أعود بالذاكرة إلى سنوات الأربعينيات والخمسينيات, وما تميز به الوضع الاجتماعي والاقتصادي والنفسي لأهالي المجر الكبير في ذلك الحين, تتكرر أمامي حالة القناعة والرضا والابتهاج والانشراح التي كان يتصف بها أولئك الناس , على الرغم مما كانوا يعانونه من حرمان مادي وعوز وشظف في متطلبات المعيشة...., لكن الإنسان في الوقت الحار يفتقد غالباً إلى السعادة والرضى والانشراح , بل تجده دائماً مهموماً مكلوماً قلقاً لا يستقر على حال . وما أكثر أسباب القلق والاكتئاب والخوف التي يتعرض لها الإنسان في عصرنا الراهن.". (عندما كنت وزيراً, ص 48/49).
وبقدر ما هي صحيحة من جانب, هي خاطئة بقدر أكبر من جانب آخر, وهي إحدى الإشكاليات التي يعاني منه العديد من الكتاب, إذ أن بعضهم ينسى بأن النظام الملكي الذي داس على الدستور العراقي الذي أقر في العام 1925 وأصدر قوانين مناهضة لمضمون وزور عن عمد الانتخابات وعمق الاستغلال في الريف وصادر الحريات, كان قد أسس قاعدة لثورة 14 تموز 1958 أولاً وأسس للعنف وعدم احترام القوانين والحياة الدستورية, فهو القاعدة السلبية التي شكلت شخصية العراقي في ظل الملكية وما بني عليها لم يكن أفضل منها, بل أسوأ بكثير. لا شك في أن الفارق بين العهد الملكي والعهد ألصدامي كبير جداً كبعد الأرض عن السماء, ولكن الأساس المادي واللبنة الأولى لما حصل فيما بعد ناشئ تاريخياً في العراق وقبل الملكية ولكنه استكمل في عهد الاحتلال البريطاني والملكية والإقطاع في العراق. هذا ما يفترض أن نعيه ونحن نكتب عن تلك الفترة. فأنا أعرف معاناة جيل الأربعينات والخمسينات ومعاناة الإنسان السياسي على نحو خاص, ولكن معاناة الفلاحين والعاطلين عن العمل والهاربين من ظلم الإقطاعي إلى المدن ومطاردة الشرطة لهم لإعادتهم إلى "سادتهم الإقطاعيين" ما تزال حية في الذاكرة. وما أزال أتذكر هوسة الفلاحين في أوائل الخمسينيات التي منها :
           كريم ياكل عنبر وآنا بليه دنان           اسمع يا مفوض
         كريم يركب كاديلاك وآنا بليه نعال         اسمع يا مفوض

وما تزال هوسة نوري السعيد من راديو بغداد , وأنا مع حشد من المبعدين في المنفى في مدينة بدرة على الحدود العراقية الإيرانية , ترن في أذني وهو يصرخ بهستيريا "دار السيد مأمونة" وكأن لم يكن واثقاً من استمرار دار السيد, ثم حديثه البائس عن سبل معالجة الإقطاع عبر الزمن من خلال توريث الأراضي لأبناء الإقطاعي بعد موته, إذ أن الأخير يتزوج كثيراً وينجب كثيراً, وبالتالي يحل مشكلة الأرض عن هذا الطريق ناسياً جموع الفلاحين الفقراء المعدمين والمحرومين من الأرض الزراعية. إن القناعة التي يتحدث عنها الدكتور العبود عند الناس حينذاك لا تعبر عن وعي بالواقع الذي كانت الغالبية العظمى من الناس تعيش فيه, بل تعبر عن تخلف في وعي الواقع القائم ومشكلاته والبؤس الذي كان يلف الجميع. ولم يكن المثقفون مخطئين حين كانوا يشيرون على أن العراق مبتلى اجتماعياً بثلاث علل, وهي: الجهل والفقر والمرض.
يعود الكاتب إلى نفس الموضوع ليؤكد على الصفحة 69 من كتابه "عندما كنت وزيراً" بشأن أحداث الفترة الواقعة بين 1945-1958 وعن الحماس القومي لمقارعة النظام والاستعداد للتضحية والاندفاع نحو القضايا القومية ما يلي:
" اكتشفنا بعد فترة متأخرة , وبعد فوات الأوان , بأن الفترة بين عام 1945 وعام 1958 هي فترة جيدة في تاريخ العراق المعاصر , لو أخذنا تطبيق القانون واحترام النظام من قبل الدولة والشعب , ومدى تطبيق أسس النظام الديمقراطي والتقيد بها من قبل السلطة والشعب في دولة نامية كالعراق في ذلك الوقت و أساساً للقياس ومقارنة 1لك مع ما كان يحصل في الدول المجاورة والدول النامية.
وحتى لو أخذنا النظام السياسي والنظام الاقتصادي في تلك الفترة بنظر الاعتبار , فقد تمخضت تلك الفترة عن انتخاب البرلمان ووجود عدد من الأحزاب السياسية , ووجود عدد كبير من الصحف التي كانت تنتقد الدولة , وحتى السياسة الاقتصادية فبالرغم من شحة الموارد المالية آنذاك أقيمت قاعدة جيدة من البنى الارتكازية من الطرق والمواصلات والاتصالات والمداري والمستشفيات وغيرها من المشاريع التي نفذت من قبل مجلس الإعمار". (ص 69/70 من نفس الكتاب) وهو في نفس المقطع ينتقد الأحزاب السياسية التي اختارت العنف طريقاً للوصول إلى السلطة.
ومع أن كلمة لو التي وردت أكثر من مرة شكلية وسفسطائية إلى حد اللعنة, لأن الأمور جرت باتجاه آخر, فسأحاول هنا أن أحاور الصديق الفاضل بعدة نقاط, وأهمها:
لم يكن خيار العنف الذي وافقت عليه الأحزاب السياسية العراقية وتبنته في النضال ضد السلطة الملكية إلا نتيجة ممارسة السلطة للعنف في أعقاب الحرب العالمية الثانية وابتداء من مظاهرة حزيران من العام 1946 وسقوط عدد من الضحايا. ثم تكرر المشهد في إعدامات أقطاب حركة مايس 1941, ومن ثم إعدام الضباط الكُرد الأربعة الذين شاركوا في حركة الشعب الكردي بقيادة الملا مصطفى البارزاني في العام 1946 رغم الوعود التي أعطيت بعدم إعدام من يسلم نفسه, ثم تكرر العنف في وثبة كانون 1948 ومعركة جسر العتيگ (جسر الشهداء) المعروفة لنا جميعاً, وأعتقد إن قصيدة الجواهري ما تزال ترن في أذن كل عراقية وعراقي من ذلك الجيل حين غنى "أخي جعفر" الذي استشهد في هذه الوثبة. لنتذكر معاً محنة مواطنات ومواطني يهود العراق حين تآمر عليهم النظام العراقي وبريطانيا وإسرائيل سوية ً لتهجيرهم قسراً وعنوة عبر قانون إسقاط الجنسية العراقية وسرقة ونهب أموالهم المنقولة وغير المنقولة واستخدام الشرطة لإيصالهم على شركة الطيران التي كان لتوفيق السويدي حصة فيها, ثم لنتذكر العام 1949 حين جرى إعدام عدد من قياديي الحزب الشيوعي العراقي, ثم شهداء وسجناء انتفاضة 1952. ولن ننسى شهداء مجزرتي سجن الكوت وسجن بغداد في العام 1953 التي نظمت من قبل حكام بغداد, وبعدها كانت انتفاضة 1956 التي يشير إليها الدكتور العبود أيضاً, إضافة إلى زج المئات من المثقفين والطلبة في السجون وفي المعسكرات والنفي. حينها لم تجد القوى أسياسية العراقية طريقاً غير الطلب من الجيش لدعم قضية الشعب, الذي كان بدوره قد تحرك في الخمسينيات لينظم نفسه ويعمل للقيام بانتفاضة عسكرية تحققت في الرابع عشر من تموز 1958. كم كان بودي أن يعود الصديق إلى مراسيم حكومة نوري السعيد في العام 1954 بعد أن حل المجلس النيابي وأجرى انتخابات جديدة وزيف الانتخابات وأخرج قوى المعارضة من البرلمان وأصدر مجموعة من المراسيم التي صادرت الحريات الديمقراطية تماماً وأسقط الجنسية عن مجموعة من الوطنيين الديمقراطيين العراقيين.
لم يتعرض السياسيون ضد إقامة البنى الارتكازية في العراق, بل اعترضوا على المشاريع التي كان يراد إقامتها للأغراض العسكرية. وكانت المطالبة كبيرة بإقامة مشاريع البنية التحتية من كهرباء وماء وهواتف ونقل ومواصلات وشوارع ...الخ. ويبدو أن الدكتور عبد الأمير العبود, وهو اقتصادي لامع وعميد سابق لكلية الاقتصاد في البصرة أن يقول بأن السياسة الاقتصادية للحكومة كانت جيدة, في وقت كانت تمثل مصالح كبار الملاكين والإقطاعيين, وأن تنفيذ المشاريع الاقتصادية لم يصل في حينها لم يتجاوز الـ 25% مما كان مفروضاً إنجازه. ويمكنني أن أحيل الدكتور العبود على رسائل الدكتوراه التي وضعت في الستينيات أولاً وإلى كتابات الدكتور الراحل محمد سلمان حسن أو كتاباتي عن هذه الفترة أو رسالة الدكتوراه التي أنجزها العبود نفسه في مجال التجارة الخارجية والعلاقات الاقتصادية الدولية. التي أحتفظ بنسخة منها باللغة الألمانية.
وفي الوقت الذي يكتشف الزميل بعض الجوانب الإيجابية في فترة الملكية ويؤشر جوانب سلبية فيها أيضاً, ينسى الإرهاب والقمع وعمل التحقيقات الجنائية والجواسيس حينذاك. ولكنه يتذكرهم فجأة حين يجري الحديث عن توزيع البيانات, حيث يقول: وكان الحماس لمقارعة النظام يلهب الجميع. فترى مجموعات من الطلبة في نقاش محتدم خلال فترات استراحتهم حول مساوئ نظام الحكم وارتباطه بالاستعمار , والبعض منهم يحمل النشرات السياسية ودسها في جيوب زملائه خلسة, تفادياً لمتابعة رجال الأمن , ...". (نفس الكتاب ص 68). والأسئلة المنطقية التي تفرض نفسها هنا, هي : لماذا تجبر القوى السياسية على إصدار نشرات سرية, ولماذا لا يحق للناس إصدار نشراتهم بصورة علنية؟ ولماذا توزع هذه النشرات خلسة بعيداً عن أعين الرقباء؟ ولماذا كانت هناك شرطة سرية تتابع العمل السياسي من هذا النوع؟ ولماذا كانوا يحاكمون ويزج بهم في السجون حين العثور على بعض تلك النشرات؟ ألا يرى الزميل, وقد عاش هذه الفترة وساهم في العمل السياسي بشكل مستقل ولكن ليس بعيداً عن الحركة الديمقراطية العراقية والحزب الشيوعي العراقي , وأعتقد أنه يرى ذلك تماماً, بأن كل هذا كان مخالفاً للائحة حقوق الإنسان التي ساهم العراق بوضعها في العام 1948 وصادق عليها رسمياً؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تمنحنا رؤية واضحة عن طبيعة النظام الحاكم في العراق حينذاك. ولكنه في الوقت الذي لم يكن أسوأ مما جاء من بعده في الستينيات والسبعينيات, لكنه كان اللبنة الأولى في صرح العراق الحديث والدولة الملكية الدستورية التي بني عليها ما جاء من بعدها.
لم تكن الفترة الواقعة بين 1945- 1958 مرحلة واحدة متماثلة, بل كانت تتضمن أربع مراحل متباينة نسبياً
1945-1947 حيث نشأت بعض الحريات الديمقراطية وتم تأسيس بعض الأحزاب السياسية ومنع بعضها الآخر.
1948-19153 حيث سادت القوة والعنف في مواجهة الشعب وضرب الوثبة والانتفاضة ولإعدامات وسجون وعدد كبير من السجناء السياسيين.
1953-1954 حيث جرت محاول لكسر الإرهاب وإعطاء بعض الحريات الديمقراطية وبعض الصحف مثل البلاد والأهالي وجريدة الوادي والرأي العام , إضافة إلى الصحف الحكومية الرسمية وغير الرسمية.
1954 1958 عاد الإرهاب إلى بقوة في ممارسات السلطة السياسية تمهيداً لإقرار الدخول في حلف بغداد ومواجهة الوضع المتطور في الساحة السياسية العراقية.
لم تكن الحركة الوطنية متطرفة في طروحاتها, بل كانت سياسة الدولة خارج إطار الدستور والقوانين والشرعية, ولم تكن المجالس النيابية سوى برلمانات مزيفة, هكذا تحدث عنها نوري السعيد نفسه حين تحدى من يستطيع الوصول إلى البرلمان دون دعم الحكومة مباشرة.
السياسة التي مارستها الحكومات المتعاقبة في العهد الملكي لم تكن ديمقراطية, وأجبر الشعب على النضال من اجل حقوقه. ولو لا ذلك النضال لما وافقت بريطانيا على مناصفة عوائد النفط الخام في العام 1952 واعتبار القرار رجعياً من عام 1951, بعد أن كان يدفع للعراق 4 شلنات ذهب عن كل برميل يصدر من العراق لصالح الشركات الدولية. وكان لنضال الشعب الإيراني وتأميم الدكتور مصدق لمصالح شركات النفط حينذاك, رغم الضربة الموجعة التي تعرض لها الشعب هناك بانقلاب زاهد بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وشركات النفط الاحتكارية, دور على خشية الشركات الاحتكارية أن يحصل لها ما حصل في إيران.
لم يكن الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال والحزب الشيوعي يطالبون بإسقاط النظام الملكي, ولكن النظام الملكي كان يريد تصفية هذه الأحزاب, وبالتالي كان عليها أن تناضل ضد هذه النظام.
النظام الملكي مسئول عن الإساءة للدستور العراقي وإرادة الشعب وتزوير الانتخابات وإصدار مراسيم مخلة بالدستور ومصالح الشعب. وانتفاضة الجيش العسكرية في العام 1958 سببها سياسة الحكم حينذاك, وسببها الظلم الذي تعرض له الشعب, ولهذا لم تكن الفرحة بانتصار 14 تموز, التي شارك في الفرحة عفوياً الطالب في كلية الحقوق عبد الأمير العبود, عبثية ودون مبررات. لقد كانت الغالبية العظمى من الناس تعاني من الفقر والفاقة وظلم الإقطاعيين وإرهاب التحقيقات الجنائية, بالرغم من غنى البلاد بنفطها وبشرها وإمكانياتها الزراعية, وبالرغم من وجود نظام ملكي دستوري وقوانين ومجلس نيابي. إلا أن الشاعر الكبير معروف الرصافي كان يعبر بصدق عن معاناة الناس حين قال :
علم ودستور ومجلس أمة كل عن المعنى الصحيح محرف
أو كما عبر عن ذلك بأبيات أخرى حين قال:
              يا قوم لا تتكلموا             أن الكلام محرم
              ناموا ولا تستيقظوا         ما فاز إلا النوم

وما تزال أبيات شعر محمد مهدي الجواهري الكبير تذكرنا بأوضاع الفترة الملكية بالنسبة للمستوى المعيشي للناس حين قال:
              نامي جياع الشعب نامي         حرستك آلهة الطعام
              نامي وأن لم تشبعي             من يقظة فمن المنام
              نامي على زبد الوعود         يداف في عسل الكلام

                  نامي تزرك عرائس الأحلام في جنح الظلام
وأذكر القارئات والقراء هنا بالشاعر جميل صدقي الزهاوي حين قال:
            يا مليكاً في ملكه ظل مسرفاً         فلا الأمن موفور ولا هو يعدل
            تمهل قليلاً لا تغظ أمة إذا         تحرك فيها الغيظ لا تتمهل
            وأيديك إن طالت فلا تغترر بها         فأن يد الأيام منهن أطول

وفي بالي أيضاً شعر محمد صالح بحر العلوم حين قال:
                             وفتاة ما لها غير غبار الريح سترا
                             تخدم الحي ولا تملك من ديناها شبرا
                             وتود الموت كي تملك بعد الموت قبرا
                             وإذا الحفار فوق القبر يدعو
                                                              أين حقي

أدرك تماماً إن الوضع المأساوي الراهن الذي يمر به الشعب حالياً هي التي تجعل الحنين للماضي من جهة, والمقارنة مع الماضي من جهة أخرى, قضية إنسانية مشروعة, ولكنها من الناحية التاريخية غير دقيقة بأي حال, وأن الصديق الأستاذ العبود يشاطرني الرأي, أرجو ذلك على الأقل.

نشرت في جريدة المدى البغدادية بتاريخ 23/6/2007 في باب أفكار وأراء.