| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. كاظم حبيب

 

 

 

                                                                                  الثلاثاء 24/5/ 2011


 

قراءة ومناقشة "خارطة طريق اقتصادية" للسيد الدكتور محمد علي زيني
الحلقة الثالثة

كاظم حبيب 

اقتصاد السوق الاجتماعي
العراق في مرحلة تطوره الراهنة ولمدى طويل لاحق سوف يستند ملزماً إلى اقتصاد السوق. ولكن أي اقتصاد سوق نحتاجه وما هي مواصفاته؟
أشرت إلى أني أقف في هذه المرحلة مع اقتصاد السوق الذي يجمع بين الحرية النسبية والمشاركة الحكومية في التنمية, إضافة إلى الرقابة الحكومية, وكذلك مع مجموعة من المسائل الاجتماعية التي تحد من الاستغلال وتخفف من التناقضات وتسيطر على الصراعات ولكي لا تتحمل إلى نزاعات سياسية. وقد أطلق الألمان منذ ستينيات القرن العشرين اسم " اقتصاد السوق الاجتماعي " في فترة حين كان لودفيگ ايرهارد مستشار ألمانيا وصاحب "المعجزة الاقتصادية" حينذاك, وهي بخلاف نظرية اللبرالية الجديدة في إطار اقتصاد السوق التي تتسبب في تشديد استغلال الطبقة العاملة بمفهومها الواسع والحديث. لهذا اقترح في ظروف العراق الملموسة أن يؤخذ بمفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يستند إلى عدة أركان هي:
أ) إعطاء دور متميز وفعال ورئيسي للقطاع الخاص والعمل على تشجيعه ودعمه وتوفير مستلزمات تطور دوره في الاقتصاد العراقي من جانب الدولة.
ب) إعطاء دور مهم ومخطط لقطاع الدولة في مجمل الاقتصاد العراقي يستكمل دور القطاع الخاص, ويلعب دور المحتكر لقطاع النفط الاستخراجي والتكرير ومشروعات البنية التحتية, بما فيها قطاع الكهرباء والماء, كما يشارك بفعالية وروح تنافسية لإقامة مجموعة من الصناعات التحويلية ذات الأهمية الفائقة للاقتصاد الوطني والمجتمع والتي يصعب على القطاع الخاص النهوض بها وتحمل مسؤولية الاستثمار الكبير فيها مثلاً. ويتطلب هذا الولوج الاقتصادي لقطاع الدولة أن يعمل وفق المعايير الاقتصادية والمحاسبية وآليات السوق الاقتصادي في مجال المنافسة وضبط تكاليف الإنتاج والأسعار والحوافز الاقتصادي للمنتجين والعاملين.
ج) تنشيط دور القطاعين المختلط والتعاوني للمشاركة في عملية تنمية معجلة وناجحة وداعمة لنشاط القطاع الخاص والدولة والمجتمع وخاصة في مجال الريف والصناعات الصغيرة وذات التقنيات العالية التي يصعب على القطاع الخاص وحده النهوض بها أو يستوجب تجميع المنتجين الصغار في جمعيات تعاونية إنتاجية واستهلاكية.
د) إن الأخذ باقتصاد السوق الاجتماعي يتطلب بشكل خاص:
** إصدار تشريعات لمنع الاحتكار وتشديد الاستغلال تتجلى في تنظيم المنافسة والضرائب التي تستند على قاعدة الضرائب التصاعدية على الدخل السنوي المباشر للسكان بدلاً من فرض ضرائب غير مباشرة على السلع والخدمات لا تميز بين الناس على أساس دخولهم السنوية ومستوى معيشتهم.

** وضع حد أدنى للأجور ومساواة بين المرأة والرجل في الأجور للأعمال المماثلة.

** وضع تشريعات تؤمن الضمان الصحي والاجتماعي وأثناء الشيخوخة أو العجز والرواتب التقاعدية والعطل السنوية وفي حالات المرض أو الحمل...الخ.
اعتماد قاعدة الضرائب التصاعدية المباشرة على الدخل السنوي للفرد وتقليص كبير للضرائب غير المباشرة التي تفرض على السلع والخدمات.

** العناية بقدر أكبر بقضايا العدالة الاجتماعية وحياة وظروف العمال وتحديد ساعات العمل وضمان التأثير الإيجابي على علاقة تناسب سليمة بين الأجور وفائض القيمة …الخ من خلال نظام الضرائب التصاعدي على الدخل المباشر للفرد.

** تقديم الدعم الحكومي الضروري ولفترة غير قصيرة إلى بعض السلع والخدمات لضمان حصول الفئات الكادحة والفقيرة على احتياجاتها الأساسية مثل الخبز, على سبيل المثال لا الحصر, أو دعم بعض المنتجات الزراعية التي تواجه منافسة حادة في السوق الدولية لضمان الإنتاج في العراق وضرورة توفي الأمن الغذائي.
هـ) أن تلعب النقابات ومنظمات المجتمع المدني دورها الفاعل في المجتمع وفي النضال من أجل حقوق العمال والمستخدمين والعاملين في الإدارة وفي حل الخلافات بين العمل ورأس المال وغير ذلك.
إننا بذلك نستطيع أن نضمن الكثير من الأسس التي لا تسمح بتشديد الصراع الطبقي أو الصراع بين العمل وراس المال لصالح تعجيل التنمية والاستفادة من كل الطاقات المتوفرة في البلاد.
و) لدي القناعة بأن الدول النامية عموماً والعراق على وجه الخصوص لن يكون في مقدوره في المرحلة الراهنة من الناحيتين النظرية والعملية أن يمارس سياسة الباب المفتوح في الاقتصاد ذ إنها ستعطل عملياً وفعلياً القدرة على تطوير الاقتصاد الوطني وعملية التصنيع وتحديث الزراعة بسبب المنافسة غير المتكافئة. ولهذا فأن ضمان الوصول إلى عملية تنمية فعلية مستدامة ومتطورة تستوجب في المرحلة الراهنة إخضاع التجارة الخارجية لخمسة عوامل أساسية, وهي:
* وضعها في خدمة عملية التنمية الصناعية والزراعية والتعليمية والثقافية والبيئية.., أي التنمية الاقتصادية والبشرية ومن أجل تحقيق تراكم عقلاني مستمر للثروة الوطنية.
* الإشباع المناسب لحاجة السوق المحلية للسلع الاستهلاكية وسلع الاستهلاك الدائم مع الاهتمام بنوعية السلع المستوردة.
* كما يفترض أن تلعب الدولة ولسنوات طويلة قادمة دور المنظم والمؤثر إيجاباً على حركة وفعل قانون العرض والطلب لضمان استقرار الأسعار وخلق توزان عقلاني بينها وبين الأجور والمدخولات السنوية للأفراد والعائلات من ذوي الدخل الواطئ والمحدود, وخاصة بالنسبة لأكثر السلع أهمية وضرورية لنسبة كبيرة جداً من السكان.
* تنويع مصادر الدخل القومي من خلال زيادة دور المنتجات الصناعية والزراعية غير النفط الخام والغاز الطبيعي في إجمالي صادرات العراق.
* السعي لتحقيق التوازن التدريجي في الميزان التجاري العراقي مع الدول المختلفة وبين الصادرات والاستيرادات, والتي يمكن أن تؤثر إيجاباً على ميزان المدفوعات.

اقتصاد السوق وبرنامج الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي
عند قراءتي لدراسة الدكتور محمد علي زيني الغنية بالمعلومات لاحظت عدم إشارته إلى المؤسسات المالية الدولية ولكنه يشير إلى الاعتماد على الرأسمال الأجنبي. ولا شك في أن هذه المؤسسات هي من أكبر الممولين لرؤوس الأموال في السوق الرأسمالي العالمي. وهذه المؤسسات تطرح شروطها القاسية على الدول المقترضة, كما فعلت مع العراق حين تقرر إعفاء العراق من بعض ديونه الخارجية في أن يلتزم باقتصاد السوق الحر ووفق شروط ومواصفات محددة. ولهذا من المفيد للقارئة والقارئ أن يعودا إلى الحلقتين الثانية والثالثة من الدراسة المذكورة بشكل خاص ليتابعا موقف الدكتور زيني من دور الدولة وقطاعها الاقتصادي ومن التجارة والسوق الاقتصادي الحر. إن الزميل زيني يتبنى دون أن يشير إلى ذلك أهم الشروط التي يطرحها النموذج الذي تقترحه علينا المؤسسات المالية الدولية, الذي, كما أرى, لا ينفع العراق في أغلب جوانبه وفي ضوء الواقع الذي يعيش فيه العراق. وملاحظاتي بهذا الصدد تتلخص في النقاط التالية:
إن فقرات برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي المقترح من المؤسسات المالية الدولية لا تتميز بوحدانية الجانب وذات صرامة شديدة لا يمكن ممارستها في العراق بسبب غياب مستلزمات ذلك في العراق وفي البلدان النامية كما إنها لا تأخذ بنظر الاعتبار نقاط جوهرية يمكن الإشارة إليها في ما يلي:
إنها تسقط العلاقة العضوية القائمة بين السياسة والاقتصاد والمجتمع التي يفترض أن تكون لصالح المجتمع (
راجع في هذا الصدد: د. صبري زاير السعدي. الاقتصاد السياسي للتنمية والاندماج في السوق الرأسمالية العالمية. بحث منشور في مجلة المستقبل العربي. يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية. العدد (249) 11/1999. بيروت. ص 31), ولكنها في واقع الأمر تمارس سياسة طبقية صارمة, سياسة تحقق مصالح الدول الرأسمالية المتقدمة ومصالح الفئات الرأسمالية المالكة لوسائل الإنتاج والغنية على التوالي. فهي لا تتجنب الحديث عن الديمقراطية السياسية فحسب, بل تكثر من الحديث عن اللبرالية الاقتصادية وحرية المنافسة, وهي تضعف قدرة الدول النامية على المنافسة والبقاء في السوق الدولية لصالحها, إنها تنسى بكل معنى الكلمة أو تتناسى المصالح الاجتماعية والديمقراطية وحقوق الإنسان لا في الحياة السياسية والاجتماعية فحسب, بل وفي نشاط المؤسسات الاقتصادي والحياة النقابية, إذ ما يهمها يتركز في دمج اقتصاديات وأسواق هذه البلدان بالسوق الدولية وفتح الأبواب أمام نشاط احتكاراتها الدولية. إنها تطالب حكومات هذه البلدان بامتلاك الإرادة السياسية لتنفيذ البرنامج, والذي لا يعني سوى ممارسة سياسة الاستبداد الاقتصادي في تنفيذ سياسات اقتصادية لا تتبناها الغالبية العظمى من السكان ولا تخدم سوى مصلحة أقلية ضئيلة في المجتمع.
إنها تسقط من حسابها مصالح الفئات الاجتماعية الفقيرة والكادحة التي تحتاج إلى الدعم الحكومي بأشكال مختلفة, خاصة وان العراق قد خرج لتوه من الدكتاتورية وحروبها وقمعها والحصار الاقتصادي, حيث اتسعت وتفاقمت وتعمقت حالات الفقر والحرمان في الأوساط الشعبية وارتفعت نسبة السكان التي تعيش تحت خط الفقر المحدد دولياً. وفي المرحلة الراهنة تطالب هذه المؤسسات بإلغاء "البطاقة التموينية" كلية, ولم تدعو إلى حصرها بالمحتاجين, وهي من الأسباب التي أدت إلى التظاهرات الأخيرة أيضاً.
إنها تنسى الواقع الذي تواجهه هذه البلدان وأهمية وضرورة وجود قطاع حكومي ديناميكي وفعال ومؤهل إداريا وتقنيا ومستقلاً في أداء جملة من مهمات العملية الاقتصادية, خاصة وأن بعضها يمتلك موارد مالية يمكن توجيهها للأغراض التنموية حيث يعجز أو يمتنع القطاع الخاص عن الولوج فيها, إذ أن الدولة بحاجة إلى جزء من الفائض الاقتصادي لتوجهه إلى تلك المشاريع التي لا تتوجه صوبها رؤوس الأموال الخاصة لأي سبب كان, أو من أجل تأمين الدعم الحكومي النسبي للتخفيف من أعباء شدة استغلال رأس المال. (
راجع: د. رمزي زكي, اللبرالية المستبدة. سينا للنشر. ط 1. القاهرة. 1993. ص 82-94).
إنها, وهي تدعو إلى تقليص الإنفاق الحكومي, تساهم في تشديد الاختلالات والتناقضات لقائمة حاليا التي تعمق من انقسام المجتمع إلى معسكرين, الأغنياء والفقراء, وتجهز على مواقع الفئات الاجتماعية الوسطى في الإنتاج وتنهي عمليا وجودها على الخارطة الاجتماعية للسكان, ولكنها تسكت كلية عن, أو حتى تشجع على, شراء الأسلحة التي تحمّل ميزانية هذه البلدان موارد مالية كبيرة وتزيد من مديونيتها الخارجية وتشجعها بهذا النهج على حل مشكلاتها الداخلية والإقليمية بالقوة وممارسة العنف والحروب, كما لا ترفض تزويد البلدان النامية بالقروض المالية لأغراض التسلح, وتغفل تماماً الأضرار الناجمة عن ذلك على العملية الاقتصادية وارتفاع المديونية الخارجية والفوائد المترتبة عليها وتدهور الحياة المعيشية والاجتماعية للغالبية العظمى من السكان. وكلنا يعرف العواقب الوخيمة التي تقود إليها هذه الحالة, ومنها مثلاً تقليص الموارد التي تخصص لأغراض التربية والتعليم والثقافة والصحة العامة والنقل ...الخ. والشعوب العربية المنتفضة الآن هي نتيجة منطقية لا لسياسات الاستبداد والقهر السياسي فحسب, بل وبسبب تلك السياسات الاقتصادية التي مارستها وما تزال تمارسها الحكومات العربية والمبنية على اقتصاد السوق الحر بمواصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية الحرة, التي لا تغيب عنها العدالة الاجتماعية النسبية فحسب, بل وتشتد البطالة والفقر وتتسع فجوة الدخل السنوي بين الطبقات والفئات الاجتماعية وتركز الثروة بيد فئة صغيرة من المجتمع تحرم منها الغالبية العظمى من السكان التي تقود بدورها إلى تشديد التناقضات الاجتماعية والصراعات السياسية والنزاعات الداخلية وتنتهي إلى ما نحن عليه الآن بعد أن أدركت الشعوب في الدول العربية إن عليها أن تأخذ مصيرها بنفسها وتتحكم بمستقبلها.

من هذا يتبين للقارئة والقارئ بأني إذ أتفق من حيث المبدأ وفي المرحلة الراهنة مع زميلي الفاضل الدكتور زيني في مسألة الأخذ باقتصاد السوق, أي بناء العلاقات الإنتاجية الرأسمالية التي لا مفر منها مرحلياً, ولكني أختلف معه في السبيل الذي يفترض أن نسلكه في إطار العلاقات الإنتاجية الرأسمالية للوصول إلى ما هو أفضل للعراق. أتمنى أن يساهم النقاش الفكري الموضوعي الهادف, كما تعودنا عليه في دراسات الزميل زيني, في الوصول إلى رؤية مشتركة أو متقاربة حول هذه الأمور التي تزداد أهميتها للمجتمع العراقي, خاصة ونحن معاً نحمل الهمَّ العراقي بمشكلاته وطموحاته وآفاق تطوره.

انتهت الحلقة الثالثة وتليها الحلقة الرابعة.
 


21/5/2011

 

قراءة ومناقشة "خارطة طريق اقتصادية" للسيد الدكتور محمد علي زيني - الحلقة الثانية
قراءة ومناقشة "خارطة طريق اقتصادية" للسيد الدكتور محمد علي زيني - الحلقة الأولى

 

free web counter