موقع الناس     http://al-nnas.com/

أخبار بغداد الموحشة!

 

كاظم حبيب

السبت 19/8/ 2006

كانت حروب النظام الدكتاتوري وسياساته العدوانية إزاء المجتمع وأجهزة قمعه المنتشرة في سائر أنحاء العراق سبباً في هجرة ثلاثة ملايين إنسان عراقي إلى الخارج عرفوا الشتات وعاشوا الغربة وفقدان الأحبة وعانوا من علل نفسية وجسدية. قتل ما يقرب من مليون إنسان بسبب حروب النظام الخارجية وتجاوزاته على القانون الدولي. كما قتل ما يزيد عن ربع مليون إنسان بسبب سياسات وحروب النظام الداخلية. ومات تحت تأثير الحصار الدولي عشرات ألوف الأطفال والمرضى والعجزة. تحمل العراق خسائر مالية بلغت مئات المليارات من الدولارات النفطية عبر تلك الحروب والسياسات والنهب المستمر لثروات العراق. عاشت القوميات كلها في عذاب أليم. فما زال الكرد يعيشون مأساة الأنفال وحلبچة والتهجير والتعريب القسري لعشرات الألاف من الكرد وجمهرة من التركمان فجراحهم النفسية ما تزال تنزف ألماً. وما زال الكرد الفيلية يتذكرون أوضاعهم الكارثية والرعب يسيطر على الأطفال والشيوخ وهم يعبرون الحدود العراقية الإيرانية على أرض مزروعة بالألغام وهم لا يحملون سوى أجسادهم وما عليها من ملابس قليلة, أو يتذكرون شبابهم الذي اعتقل ثم قتل في السجون ودفن في مقابر جماعية, أو أرسل ليموت في الصفوف الأمامية وعلى جبهات القتال مع إيران. وما زال عرب الوسط والجنوب من الشيعة يعيشون مأساة الأهوار والانتفاضة والتهجير القسري والقبور الجماعية. وما زال سكان غربي بغداد يعيشون عمليات انتقام راس وأعوان النظام ممن عارضوا حكم البعث ورفضوا سياساته أو الذين التحقوا بالمعارضة للنظام. وكان أتباع القوميات الأخرى يعانون من ظلم وطغيان النظام فهاجرت عشرات ألوف العائلات المسيحية والأيزيدية وغيرها طالبة اللجوء في الشتات. أجبرت جمهرة كبيرة حقاً من مثقفي وأدباء وشعراء وصحفيي وفناني على ترك العراق وبغداد العاصمة والهجرة على أنحاء شتى من العالم ليساهموا في إغناء العالم بإنتاجهم الفكري والعلمي والفني الثري وأعمالهم الإبداعية, وتراجع الإبداع في بغداد والعراق لفترة غير طويلة إلا من مجموعات رائعة كانت مجبرة في أن تبقى في الظل لتحمي نفسها من ظلم الطاغية المخلوع.
سقط النظام وتحرك الأمل في نفوس الناس واجتاحت بغداد ومدن العراق الأخرى في الأشهر الأولى من سقوط الطاغية موجات من الناس المغتربين العائدين إلى عائلاتهم وبيوتهم ليعيدوا ذكريات الماضي مع أحبتهم وليشاركوا في بناء العراق الجديد.
لم يدم هذا الحلم الجديد والأمل الجميل طويلاً, إذ عاد الأشرار إلى شوارع بغداد بأسماء وأزياء وأشكال مختلفة تجمعهم قضية واحدة: كيف يقضوا على أمل وحلم الناس الجميل؟ وكيف ينشروا الفوضى والموت والدمار والإحباط في العراق؟ كيف يجعلوا الحياة في بغداد جحيما لا يطاق ويعيدوا الدكتاتورية الجامحة إلى البلاد؟
ومنذ ما يقرب من أربعين شهراً على سقوط النظام أصبحت الحياة في بغداد لجمهرة كبيرة من الناس جحيما لا يطاق. فبغداد اليوم موحشة, تموت فيها الحركة قبل حلول الظلام وتتحول إلى مدينة أشباح. تغيب عن بغداد تلك الليالي المضيئة في شارع "أبو نؤاس" وتلك المقاهي العامرة والملاهي الليلية وحانات الشعراء والأدباء والناس الطيبين التي كان الناس يأتونها من مختلف مدن العراق في الخمسينات والستينات أو حتى بعض السبعينات, وأصبحت السينمات التي كانت تعرض مختلف أنواع الأفلام لمختلف فئات الشعب وأذواقهم وتغص بالمشاهدين قفراء تغلق أبوابها خشية التفجيرات الانتحارية المجنونة, وشارع الرشيد ببغداد الذي كان يعج بحركة الناس, وسوق السراي والشورجة حيث كانت الحركة التجارية لا تتوقف فيهما تبدو اليوم حزينة كئيبة. باعة الكبد (الأسود) والتكة والكباب وبيض الغنم لم يعد مكاناً لهم في أمسيات وليالي بغداد في ساحة النصر وفي العديد من أزقة بغداد بين باب الشرقي وساحة النصر. الناس في بغداد في هلع دائم, الموت يقترب من كل إنسان فيها, فالبقاء على قيد الحياة استثناء والموت هو القاعدة, والصدفة هي التي تبقيهم على قيد الحياة أو تنهي حياتهم.
أخبار التفجيرات هي المهيمنة على أخبار العراق, موت هنا واغتيال واختطاف هناك لا بالآحاد بل بالعشرات, دع عنك أضعاف ذلك من الجرحى والمعوقين والدمار الذي يلحق بدور السكن والشوارع والسيارات. أخبار التفجيرات تشمل أغلب شوارع وأحياء بغداد, أخبار العثور على جثث مقيدة اليدين ومقطوعة الرؤوس وآثار التعذيب بادية عليها, جثث مجهولة الهوية مشوهة ليست لها أسماء ولا أماكن سكنى ولا هوية, أناس هم من سكان العراق لا غير. المصائب تتفاقم رغم الاعتقالات الواسعة والمستمرة في صفوف المجرمين والمشتبه بهم, ومع ذلك فالعمليات تتكثف وكأن المجرمين يشعرون بدنو أجلهم ويريدون إرسال أكبر عدد ممكن من الناس إلى القبور قبل أن يحطوا هم فيها. أخبار بغداد موحشة, موحشة جداً إلى حد البكاء والعويل, وصراخ الثكالى وبكاء اليتامى يتصاعد على عنان السماء ولا من سميع أو مجيب!
معامل وبيوت عدوانية تعمل ليل نهار من أجل إنتاج أو التحضير للعمليات الانتحارية وجمهرة من الانتحاريين تجلس في طابور تنتظر موتها وموت العشرات على أيديها, إنها ثقافة العنف, ثقافة الانتقام, ثقافة الموت للدخول إلى الجنة, إنها ثقافة الإيمان بالجهل, ثقافة الإيمان بالموت في سبيل الحياة في الآخرة! إنه القذارة والبؤس والانحطاط بعينه.
على عاتقنا جميعاً تقع مسؤولية التنوير والكشف عن بؤس وعدمية هذه الثقافة التجهيلية العدوانية المهمشة للإنسان, فالإنسان في مثل هذه الثقافة البائسة لا قيمة له أبداً, إنه لا شيء, ليس إلا موضوعاً للموت.
لا يمكن أن تبقى ليالي بغداد موحشة بهذا الشكل, لا بد للأمل أن يخضر ويورق من جديد, لا بد للحياة الاعتيادية الجميلة أن تفرض نفسها على القتلة والمجرمين من جديد, لا بد للإنسان أن يستعيد عافيته ويعيد بناء نفسه ويتخلص من علل الماضي القريب والبعيد, لا بد للعقل في العراق أن يسود على العاطفة المتهيجة, لا بد لروح وهوية المواطنة أن تنتصر على الهوية الطائفية والدينية وغيرهما.
لا يمكن ولا يجوز للموت أن يحصد الناس يومياً وبالعشرات, لا يجوز ولا يمكن القبول بانتشار الذئاب المفترسة وهي محملة بالأحزمة الناسفة أو تقود سيارات مفخخة تقتل مع صباحات بغداد المشمسة أو كركوك أو أي مدينة أخرى في العراق الناس الفقراء والكادحين والعمال الذي يتجمعون في مساطر مؤملين أنفسهم بعمل شريف ويوفر الخبز النظيف لعائلاتهم.
لا يمكن لخطة المصالحة الوطنية وخطة أمن بغداد والعراق أن تجدا النجاح دون دعم وتأييد وتعاون ضروري من جانب الناس الأمناء لوطنهم وشعبهم, وهم يشكلون الغالبية العظمى من سكان العراق, ولا بد لنا أن نعمل من أجل الحصول على هذا التأييد. لا بد للأحزاب السياسية الوطنية أن تتعاون بإخلاص وصدق مع الحكومة لكي تستطيع القضاء على أوكار الإرهابيين والقتلة والتخريبيين, وإقناع الوطنيين منهم بضرورة ترك السلاح والعودة إلى جادة الصواب والتحري عن حلول سلمية للأوضاع الراهنة. لا بد للأحزاب السياسية الإسلامية أن تمارس سياسة بعيدة عن الطائفية والانتقام المتبادل, إذ لا يحمل هذا الدرب الوعر غير الموت للجميع.
لا بد للأمم المتحدة أن تلعب دوراً أكبر في حماية الإنسان وحقوق الإنسان في العراق, حماية حياته وحريته ومستقبله. لتتضافر جهود الناس الطيبين في العراق من أجل وضع حد للإرهاب والقتل والخراب, من أجل أن تعود الشمس مشرقة والقمر ساطعاً والسلام دافئاً في حياة وأجواء العراق, وأن تعود الحركة الدائبة للناس في بغداد وفي كل العراق.

آب/ لأغسطس
جريدة الاتحاد/الاتحاد لوطني الكردستاني
رؤية حوارية