| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. كاظم حبيب

khabib@t-online.de

 

 

 

 

الأربعاء 15 /11/ 2006

 

 

" أنا " و " الآخر " في عقلية العراقي الشمولي!

 

كاظم حبيب

لا يختلف الإنسان في العراق, سواء أكان عربياً, أم كردياً أم تركمانياً أم كلدو آشورياً في كردستان العراق, عن غيره من الناس في سائر بقاع العالم عند الولادة. فالجميع من جنس واحد هو جنس البشر, أو ما يطلق عليه أحياناً بالحيوان مالك العقل والنطق. ولكن الاختلاف يبدأ بينه وبين الآخرين من البشر, أو أن الآخرين يختلف بعضهم عن البعض الآخر أو عن العراقي, حين يبدأ الطفل بالتقاط اللغة وخصائص الكلام والعادات والتقاليد والسلوكية اليومية للأم والأب والأخوات والأخوة ثم الأقرباء والجيران والأطفال في الزقاق الذي يعيش فيه وفي المحلة والشارع والمدينة, ومن ثم في المدرسة والمجتمع بشكل عام. عندها يبدأ الطفلة, ذكراً كان أم أنثى, بامتلاك سمات سلوكية مماثلة للعائلة أو المحلة أو المدينة والمجتمع, وربما تختلف بعض الشيء من هذا الفرد أو ذاك بحكم تأثير كل ذلك عليه ومدى وعيه بوجوده وبها مبكراً أو متأخراً. ومع البدء بتكون الفرد الطفل والصبي والشاب في المجتمع العراقي تنتقل إليه, ليس السمات المباشرة التي واجهها في البيت وفي المجتمع حسب, بل ومعها كل التراث الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والبيئي والثقافي الذي تراكم عبر العقود والقرون المنصرمة التي احتفظ بها الفرد والمجتمع وتوارثها ولم يستطع التخلص منها. فالفرد العراقي لا يولد وفيه تلك التقاليد والعادات والسلوكية, أياً كانت طبيعتها, بل يكتسبها يومياً بل وفي كل لحظة من حياته ابتداءً من ولادته حتى مماته. وهي أو هو من ينقلها بدوره إلى أخريات أو آخرين من الإناث والذكور. وبانتقال ذلك إليه تنتقل معه الصورة الجمعية للـ "أنا" في مقابل "الآخر", آو "نحن" في مقابل "الآخرين". وهذه الحالة تبدأ بدورها في البيت وتنتقل إلى المقارنة في المحلة والمدينة ومع المجتمعات الأخرى. ومنها تنشأ الصورة النمطية للفرد أو للفرد الجمعي (ستيريو تيب) المعروفة في علم النفس الاجتماعي والتي يطلق عليها بالأحكام المسبقة من الـ "أنا" إزاء الـ "آخر" أو من "نحن" إزاء الـ "آخرين", والعكس صحيح أيضاً. فأنا الجيد والعاقل والمفكر والمبدع والمنتج ومالك الحق, في حين أن الآخر هو السيئ والجاهل والغبي والمتلقي والمستهلك ولا يملك غير الباطل!
التراث العراقي المديد الذي عاشت وما تزال تعيش فيه أقوام وشعوب وقبائل كثيرة وتجلت وما تزال تتجلى فيه ثقافات عديدة, بضمنها الأديان والمذاهب والأفكار ...الخ, يحمل في طياته أو في بنيته وعبر التلاقح المتواصل, كأي تراث آخر في العالم, الإيجابي والسلبي. وفي مراحل معينة من التاريخ تختفي, أو بتعبير أدق, تتراجع بعض السمات على حساب, وتتقدم أخرى لحساب, السلبي أو الإيجابي. هكذا عرفنا تاريخ العراق الطويل, وهكذا نعيش اليوم هذا التاريخ مجدداً, وهكذا نلتقي باختفاء الإيجابي ونهوض ساطع للسلبي من القيم والتقاليد والعادات والسلوكية اليومية المكتسبة والمتراكمة عبر الزمن. لا شك في أن الإنسان العراقي, كغيره من البشر, قادر على تغيير هذه السمات والتقاليد, سواء أكانت سلبية أم إيجابية, لصالح غيرها أو لصالح تعزيز الإيجابيات والتخلص من السلبيات, والعكس صحيح أيضاً, في ظل الأوضاع التي يعيش فيها والنظم السياسية التي تحكمه وتتحكم في الفرد والمجتمع. ومن هنا يفترض أن لا نستغرب جداً من الحالة الراهنة التي يعيش فيها المجتمع العراقي, فقد مر المجتمع العراقي بما يقاربها في تاريخه الطويل, وأن هذا المجتمع يعيد إنتاجها بفعل النظم التي سادت فيه وتحكمت بسيرورة وصيرورة سلوكه اليومي. ويمكن للعقود الثلاثة والنصف المنصرمة في ظل حكم البعث الصدامي أن تقدم نموذجاً واضحاً لما يمكن أن تنشأ من أجيال عراقية تختلط فيها القيم السلبية القديمة التي جرت عملية إعادة إنتاجها, وما أضيف إليها من قيم سلبية جديدة أنتجها أبرز قادة نظام البعث الصدامي والتي شكلت جزءاً مهماً من شخصية الإنسان العراقي الراهن بصورة عامة ونسبية, ولكن ليس بالمطلق.
المحن التي مر بها الإنسان في العراق قبل وبعد تشكيل الدولة العراقية, ومن ثم, وخاصة في فترة حكم البعث, عززت لديه مجموعة من السمات السلبية, التي هي نتاج التفاعل بين الماضي القاسي والحاضر الأقسى, التي تنتج بدورها الأوضاع المأساوية التي يعيش في ظلها المجتمع حالياً, وهي سمات أو خصائص نحتاج إلى دراستها بعمق ومسؤولية من جهة وضرورة التدقيق بها لصالح مساعدة أنفسنا على التخلص منها من جهة أخرى, وأبرزها:
1. يعاني الإنسان العراقي حالياً من استمرار في عملية التدهور التي تفاقمت في فترة حكم البعث في المستويات التربوية والتعليمية والثقافية وعبر الاستبداد والقمع والحروب والحصار والجوع والحرمان, وبالتالي تشكل لديه عجز فعلي وعدم قدرة على تكوين رأيه المستقل إزاء ما يجري في البلاد, وكذلك عجز عن التمييز بين ما هو صالح وما هو طالح من تصرفات ومواقف وسياسات. وهذه الحالة جرَّته وما تزال تجرّه إلى أن يتبع من يعتقد بأنه القادر على التفكير عنه أو تقديم الخدمة له أو جلب المنفعة لمصالحه. وهو ما يعيشه الفرد العراقي حالياً. إنها ذهنية خاضعة وتابعة, وفي الوقت ذاته تعبر عن بعض التمرد الداخلي العصابي.
2. والإنسان العراقي الذي عاش الاستبداد والقسوة والقمع الدائم أُُجبر على أن تتواصل لديه وتتعمق أو تشتد حالة انفصام, أو ازدواج, الشخصية. الخوف يسيطر عليه ويمكن لكل جماعة أو مؤسسة, سواء أكانت دينية أم علمانية, أن ترعبه وتخضعه لها وتسيطر عليه وتسيره خشية من عواقب رفض ما تريده منه. ولكنه يبقى يعيش الشك وعدم اليقين والخشية من الملاحقة والرغبة في التخلص من ذلك عبر تعدد أو تقلب مستمر في شخصيته في الظروف والأوضاع المختلفة, فهو يعيش الخنوع والتمرد في آن.
3. أن النموذج الذي عاشه ويعيشه الإنسان العراقي عموماً يومياً في البيت في علاقته مع الأب أو الأخ الأكبر, وفي المدرسة في علاقته مع المراقبة والمعلم والمدير, وفي المعمل في علاقته مع مدير المعمل, وفي الريف في علاقته مع الإقطاعي أو السركال أو صاحب الأرض, وفي العشيرة في علاقته مع الشيخ, وفي الدولة في علاقته مع الشرطي والقاضي والحاكم والقانون, جسد وما زال يجسد ذهنية الهيمنة الكاملة والمطلقة على البيت والمدرسة والتلميذ أو الطالب والنشاط الاقتصادي والدولة أو الحكم. إنها الذهنية والرؤية الشمولية التي نشا في ظلها العراقي التي تعتقد بأنها تمتلك الحق والحقيقة دون غيرها, وأنها تمتلك الصواب المطلق ومعصومة عن الخطأ. إنها, وكما أرى, المصيبة بعينها التي ابتلينا بها أحزاباً وجماعات وافرادا.
في لقاء متوتر كان لي مع الدكتاتور صدام حسين في خريف العام 1976, وبعد نقاش ساخن واتهامات متبادلة بينه وبيني من على منصة المؤتمر الزراعي في نقابة المهندسين الزراعيين ببغداد شاهده الكثير من الناس ممن كان يمتلك جهاز التلفزيون في بيته أو في المقاهي العامة, تحدث لي صدام حسين عن النموذج الذي يريد تقديمه للعراقيين في أن يكون جميع الشباب الجديد مثله في الملبس والمأكل والمشرب, في الحديث والتصرف والسلوكية وفي الحكم. وهكذا كان الأمر, كما نرى ونعيش اليوم! حتى جمهرة كبيرة من أولئك الشباب الذين لم يكونوا يوماً في حزب البعث بل خارج صفوفه وفي أحزاب أخرى انتقلت لهم بعض تلك السمات السيئة من شخصية الدكتاتور!
4. لقد تربى الفرد العراقي خلال قرون, ولكن في العقود الأخيرة بشكل خاص, على المبدأ القائل بأن الحق لا يمنح بل ينتزع بالقوة والعنف أو حتى بخوض الحروب. وعندما يعتقد كل فرد بأنه يمتلك الحق والحقيقة, عندها يبدأ كل فرد بالسعي لانتزاع أو فرض ما يراه حقاً على الآخرين باستخدام القوة والعنف, وعندها تنعدم فرصة الحوار للوصول إلى رؤية مشتركة أو حلول مشتركة للمشكلات.
5. إن ظواهر الاستبداد والقسوة والقمع والحروب والحصار والجوع والحرمان والخشية من الموت تخلق كلها حالة من القلق المشحون بالخوف, وحالة من عدم الثقة بالآخر والتربص له معتمداً على قاعدة شعرية صاغها الشاعر المصري المعروف نجيب مسرور في قصيدة سادية له, جاء فيها:
"سأقتلك.. سأقتلك..
وقبل أن تقتلني, سأقتلك...
وقبل أن تغص في دمي.
أغوص في دمك
". (مات الشاعر بعد أن أصيب بالشزوفرينة, وكان يسارياً).
وتزداد هذه السمات قسوة وشراسة وعمقاً في نفس الإنسان عندما تتداخل العوامل الداخلية بعوامل خارجية شديدة التأثير, إذ إنها تجهض كل توجه لديه صوب التفكير بعقلانية وحكمة. فتسيطر حالة الـ "أنا" المناهضة للـ "آخر", حالة العداء المستحكم بين الـ "أنا" والـ "آخر", وهي الحالة السائدة حالياً في العراق في ما بين الأحزاب السياسية, وخاصة الإسلامية ذات الانتماء الطائفي السياسي, وفي ما بين أتباع هذه الأحزاب, حيث نتابع السعي لنقلها إلى الشارع وإلى عامة الناس, وعندها تبدأ الطامة الكبرى للمجتمع العراقي ولأي مجتمع يعاني من هذه الظواهر.
نحن أمام وضع استثنائي تهيمن فيه التقاليد والعادات والسلوكيات والظواهر السلبية من التراث المتراكم عبر القرون والعقود والسنين والأيام وتتحكم بتصرفات ونشاط الإنسان على حساب ما هو إيجابي وسليم. وها نحن نعيش ظواهر الشمولية والادعاء بامتلاك الحق والحقيقة المطلقة والصواب, والتقوقع على النفس, "الأنا" إزاء "الآخر" من الحزب الآخر, من الدين الآخر, من المذهب الأخر, من الفكر الآخر ومن الرأي السياسي الآخر. وتتفاقم هذه المشكلة لتصل إلى حد ما يطلق عليه بالسعي للخلاص من الآخر بأي ثمن سواء بنفيه أو تعذيبه حتى الموت أو قتله أو حتى دفنه حياً أو الدعوة إلى الفصل العنصري والديني والمذهبي, وهي الإشكاليات الكبرى التي يواجهها المجتمع في العراق حالياً.
لا أوجه الاتهام إلى جهة واحدة دون غيرها, وليست هي مسؤولية هذا الشخص أو ذاك فحسب, بل نحن جميعاً مشتركون في كل ذلك بهذه الصورة أو تلك, وعلى عاتقنا تقع مسؤولية الخلاص من هذا الواقع. هذا لا يعني إعفاء الدكتاتوريات السابقة ورموزها ومن ساهم بزرع كل ذلك, بل هي مسؤولة عن كل ذلك تماماً, ولا يمكن إعفاء من يمارس ذلك حالياً, فهذه أمور ندركها جميعاً. ولكن ما يهمني الآن, ونحن نتعرف عن العوامل الكامنة وراء ما نعيشه اليوم, كيف يمكننا معالجته وتسريع عملية التخلص من الرؤية الشمولية للفرد, من قناعته البائسة في امتلاك الحق والحقيقة والصواب دون غيره, من الرغبة في الانفراد بالسلطة, في فرض رأيه على الرأي الآخر, شاء الآخر ذلك أم أبى.
هل للحكماء في بلادنا ما يساعدنا على تقريب يوم الخلاص, أم أننا نعيش في بلد جن جنونه ويصعب إعادته إلى جادة التفكير الهادئ وتفعيل العقل والتحري عن الصواب؟
ما تزال في العراق, كما أرى, جمهرة غير قليلة من الحكماء العقلاء المتزنين القادرين على بذل الجهد للمساهمة في إيقاف نزيف الدم اليومي, إيقاف الصراع الديني الموجه ضد الأقليات الدينية من مسيحيين وصابئة مندائيين في العراق, إيقاف الصراع الطائفي المتبادل. إن الذهنيات والسلوكيات الشمولية والاستبداد الفكري والديني والطائفي والقسوة واستئصال الآخر أو إقصائه تعيد إنتاج نفسها ما لم نواجهها بحزم ووعي بالمسؤولية التاريخية إزاء الشعب بكل مكوناته القومية والدينية والمذهبية والفكرية والسياسية, إذ أنها ستقود البلاد والمجتمع لا إلى حافة الحرب الأهلية حسب, بل وإلى حافة الدمار والبؤس والفاقة والموت ونعيق الغربان.
ليس هناك من العقلاء من يرجو لبلاده وشعبه مثل هذه النتيجة التي تمناها وتوقعها صدام حين قال ما معناه: جئنا لنبقى ولن يأخذوا منا العراق إلا على أنقاض وجثث.

نشر في جريدة الاتحاد العراقية