موقع الناس     http://al-nnas.com/

من يفترض أن ينهض بعملية التنوير والتحديث الديني والاجتماعي

في العالمين العربي والإسلامي؟ *

 

كاظم حبيب

الثلاثاء 14 /3/ 2006

يعيش العالم العربي والإسلامي مرحلة معقدة جداً وتنطوي على اتجاهات متباينة ومتناقضة ومتصارعة في آن واحد وحبلى بأحداث كثيرة وآفاقها تبدو للبعض وكأنها غير واضحة على الأمد القريب على الأقل. فالعالم العربي والإسلامي في الشرق الأوسط يعيش صراعاً محتدما غير متوازن بين فكرين:
1. فكر متخلف وجامد وعاجز عن رؤية الجديد ومتشبث ومقيد بالماضي ويعيش فيه بكل تفاصيله, فكر لا ينشا عنه سوى المزيد من التخلف والارتداد والمحن والمزيد من العذاب والحرمان للنساء والرجال الذين يقيمون في هذه المنطقة من العالم, سواء أكانوا من العرب المسلمين أم من قوميات وأديان ومذاهب وأفكار أخرى. فكر لا يستطيع الخروج عن تفسيرات قديمة وبالية للقرآن والسنة المحمدية, رغم كل المتغيرات الجارية في العالم وكل التطورات الجارية في الفكر العالمي والحضارة العالمية التي يقودها الغرب بكل استحقاق من النواحي العلمية والثقافية والصناعية والزراعية والهندسية والمعلوماتية والموقف من حقوق الإنسان, رغم وجود تجاوزات غير قليلة. فكر وممارسة يضعان القيود الثقيلة على العقل ويشلان حركته ويمنعان تطوره واستثمار الطاقات الإبداعية بكل مجالاتها وأبعادها التي يحملها الإنسان في رأسه, فكر يمنع المرأة من الانطلاق في الحياة ويحرمها من كامل حقوقها وحريتها ويقيدها ويشل قدرتها على العمل مع الرجل وجنباً إلى جنب لتطوير المجتمع وازدهار حياة الإنسان. وهذا الفكر لا نجده في بعض الأحزاب والتنظيمات الإسلامية السياسية ذات الوجهة الطائفية وفي المعارضة أحياناً غير قليلة فحسب, بل ونجدها في صفوف الحكومات العربية ومثقفي الحكومة وفي أغلب المدارس والأكاديميات الدينية في العالمين العربي والإسلامي.
2. وفكر إنساني متفتح وعقل يعمل ويدرك مهمته ودوره في هذه الحياة و يسعى إلى التعامل الواعي مع المتغيرات والتغيرات الجارية في العالم, ويطالب بالتنوير والتحديث الديني والاجتماعي والرؤية الحضارية الجديدة لكل لمعايير والقيم التي عشنا عليها وعملنا في ضوئها, كما يدرك أهمية التلاقح الحضاري في كما بين الحضارات الأخرى والرؤية العقلانية السوية للآخر فكراً وإنساناً ومجتمعاً وحضارة. فكر يدرك مخاطر التخلف والتوقع على الذات والعيش في الماضي الذي لن يعود ولن يبقى منه سوى دروسه التي يفترض في المجتمعات المختلفة أن تستفيد منها ليومها ولغدها القادم. فكر يدرك أننا لم نضف, ومنذ قرون كثيرة, أي شيء جديد للحضارة الإنسانية الحديثة ولتقدم البشرية, كنا وما نزال مستهلكين سيئين لحضارة الغرب ومنجزاتها وغير مشاركين في إنتاجها, أو كنا معيدين إنتاج ما أنتج في العالم الغربي المتقدم ولكن بصورة مشوهة وحبيسة العقول الجامدة التي تهيمن على الإنسان.
وتلعب جمهرة كبيرة جداً من رجال الدين المسلمين ومن مختلف المذاهب الإسلامية دوراً أساسياً في نشر وترويج وتكريس الفكر الأول المتخلف والجامد, لأنها تجد فيها أساساً لاستمرار هيمنتها على عقل الإنسان العربي والمسلم وتحكمها الاستبدادي فيه وفي حياته, وتجد فيها تكريساً لمصالحها المادية وذهنيتها المتخلفة. ومن هذه الفئة يخرج أيضاً المتطرفون الإرهابيون المنادون بحاكمية الله والساعون إلى تكريس وحدة الدين والدولة وحرمان المجتمع من التقدم, ومن هذه الفئة من رجال الدين يخرج التكفيريون الذين يرون في الحضارة الغربية وفي الفكر الإنساني الحر جريمة لا تغتفر وإخلال بالقرآن والسنة المحمدية ويقسمون المجتمع الدولي إلى ديار حرب أو كفر, وديار سلام أو إسلام, ويجدون من واجبهم رفع السلاح لقتل الكفار وغزو ديار الكفر والسيطرة عليها وتحويلها إلى ديار الإسلام الذي يعبر عن وجهة نظرهم المريضة. فالحلم الكابوسي يرهق هذا الفكر المتخلف والجامد والعاجز عن التفكير السوي ورؤية موازين القوى في العالم ولا يدرك الوهم الذي يسعى إليه ويعتبره حقيقة مطلقة سيصل إليها وهو يسبح ضد التيار الجارف, ويضرب, كما يقول المصطلح العراقي, بطناش.
نحن أمام محنة كبيرة ولن ينفع معها السكوت والتفرج والانتظار, إذ يقودنا ذلك إلى مزيد من التخلف والتأخر عن الخروج من الحلقة المفرغة التي ندور فيها منذ قرون, منذ نهاية القرن الرابع الهجري أو العاشر الميلادي. وتقع على عاتق علماء المسلمين الواعين والمتفتحين من العرب أو من غير العرب إدراك عمق الأزمة والمحنة التي يعيشها العالمين العربي والإسلامي والحضيض الذي هما فيه الآن, ومثال ساطع على ذلك, ما يجري الآن في العراق من نشاط لأغلب قوى الإسلام السياسي المذهبية السياسية في العراق والصراع الطائفي المتفاقم, والعمليات الإجرامية لقوى الإرهاب الدموي من مختلف الاتجاهات. إنها ليست أزمة ومحنة الشعب العراقي, بل هي أزمة ومحنة الفكر الإسلامي والفكر العربي, ومنه الفكر العربي والإسلامي في العراق. وما يعانيه الشعب العراقي بكل مكوناته القومية والدينية والمذهبية والفكرية والسياسية هي نتاج وحصيلة منطقية لهذه الأزمة الفكرية والممارسات السيئة ضد الإنسان وحقوق الإنسان والمجتمع.
نحن أمام محنة تستوجب حركة فكرية مدنية ديمقراطية وعلمانية متماسكة وواعية لمهمتها في تغيير واقع المجتمع في منطقة الشرق الأوسط تنطلق من العناصر الديمقراطية المثقفة ومن الجماعات والتنظيمات الثقافية والاجتماعية الديمقراطية التي تدرك مخاطر استمرار العالم العربي والإسلامي السير على هذا الدرب الذي يعمق التخلف ويزيد من بؤس الإنسان ويوسع فجوة التخلف بين العالم المتمدن والمتحضر من جهة وبين العالم المتخلف والمستبد من جهة أخرى.
تقع على عاتق رجال الدين المتنورين والواعين لمشكلات بلداننا, ومنها العراق, كما يتجلى ذلك في كتابات الكثير منهم, ومن بينهم المفكر الإسلامي الراحل السيد عبد المجيد الخوئي, والمفكر الإسلامي السيد أياد جمال الدين والباحث والمفكر الإسلامي السيد أحمد حسن القبانچي والمفكر الإسلامي المصري جمال البنا, إضافة إلى الشخصية العلمية المسلمة والمصرية الأستاذ الدكتور نصر حامد أبو زيد, كما تقع على عاتق المثقفين في الدول العربية والإسلامية في الشرق الأوسط وفي العراق على وجه الخصوص, مهمات كثيرة وملحة, نشير فيما يلي إلى أبرزها:
1. التوعية الفكرية والدينية والاجتماعية بدور الدين في المجتمع ومهماته ووظيفته الفعلية في المجتمع وفي العلاقة بين الإنسان والإله, وفي ما بين البشر, وأهمية الرؤية السوية والمتساوية للآخر.
2. التوعية بأهمية وضرورة فصل الدين عن الدولة, وإبعاد علماء الدين الأفاضل عن الألغام السياسية والنظم السياسية.
3. الحرية الدينية للأفراد والجماعات والحقوق المتساوية لأتباع مختلف الأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية.
4. لا وصاية على عقل الإنسان من أي كان ولا يجوز تقييد العقل وحبسه بعيداً عن العلوم والثقافات والحضارات ومنجزات الحضارة الحديثة بحجة كونه مستورد ومن الغرب المسيحي أو من الكفار وما إلى ذلك من خزعبلات وإساءات للإنسان الأخر وللفكر الحر.
5. أهمية التخلص من تقديس الأفراد, إذ ليس هناك من معصوم في عالمنا الراهن, وليس هناك من يمتلك الحقيقة المطلقة أو الحق في امتلاكها وفرض رؤيته على الآخرين.
6. إن الإسلام دين وليس من واجبه ولا في قدرته تقديم الحلول للمشكلات الراهنة في مجتمعاتنا وعالمنا الجديد, سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم علمية أم ثقافية أم غيرها, بل هو علاقة حسية بين الإنسان والله, فالدين لله والوطن للجميع. ويمكن لرجال الدين, ويفترض فيهم, أن يساهموا في نشر القيم الأخلاقية والاجتماعية السليمة والعقلانية والحضارية الحديثة.
7. التخلص من الرؤية السلفية لحاضرنا, فالحاضر يستوجب رؤية مدنية ديمقراطية وعلمانية حديثة وجديدة تجسد الجديد في العلاقة بين الإنسان والإنسان الآخر, بين الرجل والمرأة, بين الإنسان والمجتمع والدولة.
8. على المجتمع تغيير نظرته إزاء المرأة, إذ لم يضع القرآن قيوداً على المرأة ولا على دورها وطريقة عيشها وعملها, كما لم يفرض عليها الحجاب حيث يحاول البعض جعلها حبيسة سجن اسود, كما فعل بن لادن وطالبان في أفغانستان. وما نزال نتذكر الجملة التي يتغنى بها العرب حين قال عمر بن الخطاب: كيف تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. وكلمة الناس هنا, وكذا الإنسان, تعني المرأة والرجل في اللغة العربية وليس الرجل وحده.
9. إن المرجعيات الدينية تحمل مهمة أخلاقية واجتماعية وليست سياسية وعلى قوى الإسلام السياسي أن تكف عن زج المرجعيات الدينية في الشؤون السياسية اليومية.
10. الأهمية القصوى في التوعية بحق الإنسان في ممارسة عقله وحقه في اختيار الدين أو المذهب الذي يناسبه ورفض التمييز بين الأديان والمذاهب أو بين أتباعها, بل يفترض الانطلاق من حق المواطنة والاعتراف بحقوق الإنسان المهضومة كلية في العالمين العربي والإسلامي.
هناك الكثير والكثير من القضايا التي يفترض أن يبحثها علماء الدين والمثقفون في عالمنا المعاصر من أجل أن ندفع بالإنسان لممارسة عقله وأن نجعله يفكر في أوضاعه البائسة ويتحرى عن الأسباب الكامنة وراء ذلك ليعالجها وفق رؤية علمية وحضارية حديثة, وأن نكف عن التثقيف "لا تفكر لها مدبر", فالإنسان يمتلك العقل لكي يفكر به ولكي يكون مسؤولاً عن أفعاله وأقواله وما يصدر عنه.
إن علينا أن نبدأ بتنظيم حوارات مفتوحة وجادة ومكثفة ليشارك بها الجميع ولتكون جزءاً من عملية التثقيف والتنوير الديني والاجتماعي, خاصة وأن القوى المتخلفة والرجعية في صفوف رجال الدين كثيرة وتشكل الغالبية العظمى في المرحلة الراهنة. وهو الذي يزيد في الطين بلة, كما يزيد من أهمية التعجيل بهذه العملية الحوارية وتنشيط الفاعلين فيها وإيصالها إلى أوساط الرأي العام العربي والإسلامي, لأننا لا نواجه مخاطر الركود الفكري والحضاري فحسب, بل مخاطر جدية بارتداد الفكر والإنسان والمجتمع خطوات جدية إلى وراء, رغم أن عجلة التاريخ ستدفع بالعامل نحو الأمام, ولكن تجربة التاريخ تؤكد أن هذا المجتمع أو ذاك قابل للارتداد الحضاري, كما حصل في أفغانستان في فترة طالبان, أو كما هو عليه الحال في إيران حالياً, وكما تسعى إليه بعض قوى الإسلام السياسي المتطرفة والطائفية في العراق, إضافة إلى قوى بن لادن والظواهري والزرقاوي ومن لف لفهم.

* في ضوء الآراء الجريئة والواقعية المسؤولة التي تقدم بها المفكر الإسلامي السيد أحمد القبانچي في جريدة الزمان اللندنية بتاریخ 13 آذار/مارت 2006 ص 5, وفي ضوء النقاش الذي دار في ندوة فكرية في الصالون الأدبي لجمعية خريجي هارفارد بدبي/ الإمارات في آذار/مارت 2006. ك. حبيب