| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. خالد يونس خالد

Khalid_k2009@yahoo.se

 

 

 

الأحد 30/3/ 2008



تناقضات التركيبة العلمانوية الإسلاموية التركية في تحديد هويتها الثقافية
القسم الأول
الزواج الطوراني بين الإسلاموية والعلمانوية الكاريكاتيرية التركية

د. خالد يونس خالد

تأسيس تركيا الكمالية وضم كردستان إلى أراضيها
بعد انتصار الحلفاء وهزيمة الأمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، تحررت الولايات والأقاليم العثمانية التي كانت قابعة تحت حكم العثمانيين، في حين بقيت الولايات العثمانية الكردية ( شمال وجنوب وغرب كردستان) مسرحا للصراع، حيث قاد كمال أتاتورك، وكان جنرالا عسكريا في الجيش التركي، الحرب لجمع شمل الترك. وإتسعت حركة أتاتورك عام 1919، ونجحت في تأسيس "جمعية الدفاع عن حقوق الأناضول الشرقي" في الاجتماع المنعقد في أرضروم. وساهم ممثلون كرد في الإجتماع، للعمل سويا من أجل حصول الترك والكرد على حقوقهم القومية. ففي اجتماع المجلس الوطني في أنقرة عام 1920 حضر 72 نائب كردي ممثلين عن كردستان، للتعاون من أجل الحرية. وفي نفس العام، وقَّعت تركيا على معاهدة سيفر التي كانت جزءا من معاهدة فرساي، حيث وقعها السلطان التركي من جهة، وكل من بريطانيا العظمى وفرنسا واليونان وإيطاليا ورومانيا ويوغسلافيا وجيكوسلوفاكيا وبولونيا وبلجيكا واليابان والحجاز وأرمينيا الطاشناكية من جهة ثانية. واعترفت الإتفاقية بالحقوق القومية الكردية في القسم الثالث، المواد 62، 63 ،64. وكانت المادة 64 أهم هذه المواد بصدد الاعتراف بحق الشعب الكردي بتشكيل دولته المستقلة على أرض وطنه كردستان. حيث نصت على مايلي:
وإذا حدث، خلال سنة من تصديق هذه الإتفاقية أن تقدم الكرد القاطنون في المنطقة التي حددتها المادة (62) الى عصبة الأمم قائلين أن غالبية سكان هذه المنطقة ينشدون الإستقلال عن تركيا، وفي حالة إعتراف عصبة الأمم أن هؤلاء السكان أكفاء للعيش في حياة مستقلة وتوصيتها بمنح هذا الإستقلال، فإن تركيا تتعهد بقبول هذه التوصية وتتخلى عن كل حق في هذه المنطقة. وستكون الإجراءات التفصيلية لتخلي تركيا عن هذه الحقوق موضوعا لإتفاقية منفصلة تعقد بين كبار الحلفاء وبين تركيا. وإذا ما تم تخلي تركيا عن هذه الحقوق فإن الحلفاء لن يثيروا أي إعتراض ضد قيام أكراد ولاية الموصل (كردستان الجنوبية) بالإنضمام الإختياري إلى هذه الدولة الكردية. (ينظر هوبر، العراق وعصبة الأمم، باريس، 1928، ص 99-100, نقلا عن قاسملو، كردستان والأكراد، 1970، 59-60).

ولكن بعد هزيمة القوات اليونانية عند نهر ساكاري في حربها مع تركيا عام 1921 ، أصبحت الأبواب مفتوحة للجيش الأتاتوركي ببسط سيطرتها على تركيا وكردستان، وبذلك ألغى كمال أتاتورك السلطنة العثمانية في الأول من تشرين الثاني عام 1922. وفي يوليو/ تموز عام 1923 عقد مؤتمر لوزان الذي جعل تركيا الطورانية تحتفظ بكافة الأراضي التي سيطرت عليها القوات الكمالية، وأصبحت شمال كردستان أو ما تسمى بكردستان الشمالية جزءا من تركيا، في حين انضمت ولاية الموصل أو ما يسميها الكرد "جنوب كردستان" إلى العراق، و "غرب كردستان" إلى سورية.

إحتلال بريطانيا العظمى لولايات بغداد والبصرة والموصل وتأسيس الدولة العراقية القومية الجديدة
نجحت القوات البريطانية في إحتلال ولايتي بغداد والبصرة أو ما كانت تسمى بالعراق العربي عام 1917 وولاية الموصل أو ما كانت تسمى جنوب كردستان عام 1918، ثم أصبح العراق تحت الحماية البريطانية بموجب معاهدة سان ريمو في 25 أبريل/نيسان عام 1920. وتمكنت بريطانيا من تنصيب فيصل الهاشمي ملكا على العراق عن طريق إستفتاء أجرى في 23 أغسطس/آب عام 1921 وهو العام الذي تأسست فيه دولة العراق. وفي 14 يوليو/ تموز عام 1922 أيد الأنكليز عقد مؤتمر كردي في السليمانية وأعلن فيه الشيخ محمود الحفيد ملكا على كردستان اعتبارا من نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام. لكن بريطانيا العظمى ضربت حركة الشيخ الحفيد فيما بعد، واحتلت السليمانية عاصمة ولاية الموصل في 19 يوليو/ تموز عام 1924 وضمتها إلى العراق ذو الحكم العربي السني.

لابد هنا من الإشارة إلى أن لجنة تقصي الحقائق المكلفة من قبل عصبة الأمم، وكان يرأسها الوزير المفوض السويدي فيرسن، والتي تشكلت بموجب قرار عصبة الأمم في 30 يوليو/تموز عام 1924، قامت بتحريات في ولاية الموصل في كانون الثاني عام 1925 . وتوصلت اللجنة إلى الإستنتاجات التالية:
ليس الكرد عربا ولا اتراكا ولا فرسا، إلا أنهم قريبون من الفرس أكثر من الآخرين. وهم بعيدون عن العرب ويختلفون ويجب تمييزهم عن الأتراك، وهم بعيدون عن العرب ويختلفون عنهم أكثر ... وفي حالة إعتماد النواحي العنصرية وحدها اساسا للإستنتاج، فإنها تقودنا الى القول بوجوب إنشاء دولة كردية مستقلة. فالكرد يشكلون خمسة اثمان السكان. وإذا صار الإتجاه الى هذا الحل، فإن اليزيديين، وهم من عنصر مشابه للكرد، يجب أن يدخلوا ضمن عدد الكرد، فتكون نسبة الأكراد حينذاك سبعة أثمان السكان. (ينظرQuestion of the Frontier between Turtey and Iraq, Leage of Nations, Geneva 1925, p. 46, نقلا عن قاسملو، كردستان والاكراد، ص ص -9291)

وهذا يعني أن المجتمع الدولي اعترف أن الكرد أمة لها مميزاتها الخاصة وخصوصيتها المستقلة. ولكن حكومة بريطانيا العظمى ألحقت ولاية الموصل بالعراق عمليا عام 1924 وبعد ذلك قررت عصبة الأمم عام 1925 ضم ولاية الموصل إلى ولايتي بغداد والبصرة وأصبحت جزءا من العراق قانونا في نظام العلاقات الدولية آنذاك.
أما بصدد ما تسمى "غرب كردستان" فقد ضمت إلى سوريا بموجب إتفاقية سايكس بيكو السرية بين بريطانيا وفرنسا عام 1916، وتم تنفيذها بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى، حيث بموجب هذه الإتفاقية التي وقعها الوزير البريطاني سايكس والوزير الفرنسي بيكو تم تقسيم منطقة الشرق الأوسط بينهما، بعد أن انسحبت منها روسيا بعد ثورة أكتوبر الإشتراكية عام 1917 .

الزواج الطوراني بين الإسلاموية والعلمانوية الكاريكاتيرية التركية
لا شك أن الاسلام يؤمن بحقوق كافة الشعوب. وهنا أبدأ بـ (اللغة) التي هي تعبير عن الهوية القومية لكل شعب. وهي آية من آيات الله تعالى. قال الله تعالى في كتابه الكريم: ((
ومن آياته خلقُ السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنَّ في ذلك لآيات للعالمين)). (سورة الروم، آية 22. )
ومن هذا المنطلق فإن الشعب الكردي له لسان كردي يختلف عن الألسنة العربية والفارسية والتركية، مثلما تختلف تلك الألسنة عن اللغات الأخرى. وهذا الاختلاف في اللغات تتبعها اختلاف في التفكير، واختلاف في التعبير والثقافة. وعليه فإنه من غير العدالة لأي نظام أن تمنع لغة شعب بممارستها إذا لم تكن عن رضى وقناعة. وإذا ما فكرنا من الزاوية الإسلامية نجد مدى تناقض القادة الأتراك مع إدعائهم أنهم يمثلون الإسلام. التعارض في الممارسة مع الآية القرآنية أعلاه يبين لنا الفرق بين الإسلام دينا للعدالة والمساواة، وبين الإسلاموية كاحلة فردية للمارسة السلطوية لبعض القادة أوالأفراد القابضين على السلطة بأسم الإسلام. ومن هذه الزاوية أيضا الاختلاف بين العلمانية الديمقراطية التي تعترف بحق الشعوب في ممارسة حرياتهم وهوياتهم الثقافية ولغاتهم، وبين العلمانوية كحالة متطرفة بعيدة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.

نرجع مرة أخرى إلى القرآن الكريم عن تحقيق مباديء الإسلام عن الشعوب وحقها في الحياة الكريمة بدون تمييز، يقول الله تعالى ((
يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتفاكم)) (سورة الحجرات، آية 13. ) هنا أودع الله سبحانه وتعالى في كل شعب خصائص خاصة به. وهذا الاختلاف في الجنس البشري يحقق منهج الله تعالى في الكون. فالناس من أصل واحد. ولا فضل لإنسان على إنسان إلاّ بالتقوى. لذلك رفض الإسلام التقسيمات الجاهلية. فلا وجود للنعرات القومية والشوفينية والتمييز العنصري. ولكن عندما نحلل ممارسات القادة المسلمين اليوم في تركيا، ولاسيما رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية فإننا نجد الفرق الكبير بين ما يدعوه الإسلام وبين ممارساتهم في ملاحقة الكرد في كرستان الشمالية ، وحتى ملاحقتهم عبر الحدود إلى أقليم كردستان العراق. وسبب هذه الملاحقة، وهذه السياسة الظالمة هو أن الكرد يطالبون بالمساواة في الحقوق على أساس المواطنة في تركيا، وممارستهم لحقوقهم الإنسانية على أساس العدالة. هذا هو الفرق بين الإسلام في عدالته، وبين الإسلاموية في ممارسات بعض القادة بجعل الإسلام مطية لضرب حقوق الشعوب، والإسلام بريء من الظلم والعدوان. (للتفاصيل بهذا الصدد ينظر: كتاب: خالد يونس خالد، "القضية الكردية بين الحلول الإسلامية والعلمانية والدولية، ط 2، مطبعة دراسات كردستانية، 1993، ص 51-53 ).

أما بصدد العلمانوية التركية أو ما سماها الدكتبور شاكر النابلسي بالعلمانية الكاريكاتيرية في مقال بعنوان "ماالفرق بين علمانية أتاتورك والعلمانية العربية" المنشور في إيلاف (
www.elaph.com) بتاريخ 18 سبتمبر 2003 مايلي:

"
لا شك أن الثورة العَلْمانية الكاريكاتيرية التي قادها كمال أتـاتورك في العام 1923 تركت انطباعا سيئاً في العالم الإسلامي، وجعلت المؤسسة الدينية تقف ضد كل ثورة عَلْمانية مقبلة في العالم العربي. فكمـال أتاتورك – كما هو معروف – جرح الكبرياء الإسلامي جرحـاً عميقاً، فيما اعتُبر أكبر إهانة لحقت بالإسلام في أرض الإسلام وفي دولة حكمت باسم الإسلام مدة تزيد على ستة قرون. فمصادرته للمساجد وتحويلهـا إلى متاحف للآثار، واقفاله للمدارس الدينية وإيقافه للحـج، وتغيير الزي التركي من الزي الإسلامي (الحجاب وخلافه) إلى الزي الغربي، وإلغاء التاريخ الهجري، وإلغاء اللغة العربية، وإلغاء تدريس الدين في المدارس، وحلِّ وزارة الشؤون الدينية، وتقليص دور المحاكم الشرعية.. الخ، كـل هذا كان له أثره السيئ على رجال المؤسسة الدينية التي بدت العَلْمنة في نظرهم بعد ذلك ضرباً من الكفر الإلحـاد والشرك برب العبـاد. ومن هنا، فإن أتاتورك قد أساء بشراسته الطولونية – من حيث لا يدري – إلى حركة العَلْمنة العربية ككل، وسدَّ في وجهها الأبواب حيناً، وأصبح مسؤولاً عن هذه الانسداد مسؤولية تاريخية مباشرة".

وعلى هذا الأساس فالعلمانية بذلك الشكل الممسوخ لا تؤدي إلى الديمقراطية، بل قد تؤدي إلى الاستبداد والدكتاتورية. وهنا أجد من الأهمية بمكان عرض الاختلافات الجوهرية بين العلمانية الاستبدادية والعلمانية الديمقراطية والعلمانية العربية، لأن فهم هذه الإشكاليات يساعد الكرد في إتخاذ موقف أكثر وضوحا من العلمانية والعلمانوية والإسلام والإسلاموية، حيث لازال بعض الكرد، يتخبط في فهم العلمانية والإسلام، ويختلط الأوراق الدينية والسياسية من منطلقات الجهل بالفكر السياسي والعقائد، وسوء فهم الممارسات الديمقراطية والعمليات الإرهابية للجماعات المتطرفة من قومية شوفينية وإسلاموية حركية سياسية. وأعتقد بأن الدكتور شاكر النابلسي أبدع في بحث أوجه الاختلاف والائتلاف بين علمانية أتاتورك والعلمانية العربية، التي لا تزال تلهث في طريق الوصول إلى غاياتها في درب مليء بالأشواك الدينية الأصولية والمتطلبات القومية العربية.
عرض الأستاذ النابلسي هذه الأوجه في نفس المقال المذكور بالشكل التالي: (أقتبس ماجاء في المقال، رغم طوله، لما له من علاقة مباشرة بموضوعنا) :

1- كان أتاتورك شيوعياً عندما فعل بالدين ما فعله في تركيا، ولم يكن عَلْمانياً. ففرنسا مهد العَلْمانية الأوروبية، لم تصل إلى مرحلة الرفض الكلي للدين، واضطهاد الدين، ومنعه، كما حصل في أوروبا الشرقية الشيوعية. ومن هنا فقد كـان أتاتورك شيوعياً ولم يكن عَلْمانياً، كما قال محمد أركون ذات مرة. وفعل بالدين ما فعلته الشيوعية وليس ما فعلته العَلْمانية الأوروبية. في حين أن العَلْمانية العربية سوف تتمسك بالدين، وسوف تُبقي على معابـده وطقوسه. ولن تفعل ما فعلته الشيوعية من إنكار له، ومنع إقامة شعائره أو تعطيلها كما فعل أتاتورك أيضاً. وكما رفض العرب الشيوعية في السابق، فسوف يرفضون هدم الدين باسم العَلْمانية الأتاتوركية التي كانت تتعصب للقومية الطولونية.
2- قامت عَلْمانية أتاتورك على فهم خاطئ للطبيعة البشرية ولتاريخ الأديان السماوية، ولم تدرِك أن الدين حاجة إنسانية. وأنه لا يوجد في التاريخ شعب لا يُقدِّس. أما العَلْمانية العربية فهي تقوم على فهم صحيح للدين، وهو أن الدين والتقديس عموماً موجود في كل المجتمعات البشرية، وأن الدين حاجة إنسانية رفيعة المقام.
3- قامت عَلْمانية أتاتورك في مجتمع إسلامي غير عربي، وكان الدين في هذا المجتمع يُدرَّس باللغة العربية، ويُكتب باللغة العربية، وكانت اللغة جزءاً من الدين. وقد ألغى أتاتورك اللغة العربية من دواوين الحكومة التركية تعصباً. في حين أن العَلْمانية العربية ستقوم في مجتمع إسلامي عربي. والعـرب أكثر حرصاً على كرامـة الإسـلام ولغته العربية من غيرهم، لأنه نـزل عليهـم وبلغتهم.
4- ركزّت عَلْمانيـة أتاتورك على "عَلْمنة الإسلام" وليس على "عَلْمنة الدولة". أما العَلْمانية العربيـة فستركز على "عَلْمنة الدولة" وليس على "عَلْمنة الإسلام" فقط.
5- جاءت العَلْمانيـة في المجتمـع التركي على إثر نظام حكم إداري وسياسي واقتصادي مطلق ومتعصب ومنغلق، وغير مُتطلِّع تجاه الحضارة والفكر الغربي. أما العَلْمانية فستأتي إلى العالم العربي وقد طبّق جزءاً منها، وهو منفتح إلى حد ما وأكثر من المجتمع العثماني في العام 1923 على الغرب وحضارته وثقافته.
6- كانت ثورة أتاتـورك انتقاميـة أكثر منها إصلاحيـة، نتيجة لعوامـل سياسيـة واقتصادية مختلفـة. وستكون الصبغـة العَلْمانية في أجزاء كثيرة من الوطن العربي تطبيعية وإصلاحية أكثر منها انتقامية.
7- كانت عَلْمانية أتاتورك سريعة وخاطفة سرعة الرسم الكاريكاتيري. ومن هنا أُطلق عليها "العَلْمانية الكاريكاتيرية" التي أخذت بالمظاهر ولم تغوص في الأعماق. وكانت هذه المظاهر تتمثل في إلغاء المحاكم الشرعية والمدارس الدينية، وإيقاف الحج، وتحويل بعض المساجد إلى متاحف، وإلغاء اللغة العربية، وتغيير طريقة الملبس وخلاف ذلك. ومن هنا لم تدم طويلاً حيث حصلت الردة الدينية بعد ذلك بسنوات. في حين ستكون العَلْمانية العربية بطيئة التطبيق متأنية. وهي بدأت بعد الحرب العالمية الأولى، وكان لها جذورها في التاريخ العربي القديم منذ عهد معاوية. وهمدت في العهد العثماني. وقامت ثانية في القرن التاسع عشـر. وهمدت قليلاً، ونهضـت ثانيـةً بعد الحرب العالمية الأولى وما زالـت مستمـرة إلى الآن. ولن تأخـذ بالقشـور التي أخذ بها أتاتــورك، ولن تُلغي، ولن تصـادر ما هو جـزء لا يتجـزأ من التاريـخ العـربي.
8- لم يكن في عَلْمانيـة أتاتورك الاختيار الحر بين المدارس الدينية والمدنية وبين المحاكم الشرعـة والمدنيـة، فأساس العَلْمانية في الغرب حرية الاختيار. وقد افتقد الترك هذه الحرية. وبدت عَلْمانيتهم ديكتاتورية. ولكن من الحكمة أن يكون في العَلْمانية العربية حرية الاختيار بين معاهد الدين ومحاكمه ومعاهد الدنيا ومحاكمها كما هو قائم الآن، شرط أن لا يُجبر أحد أحداً على ما لا يريد. فلا مصادرة لحرية الاختيار في المجتمعات العَلْمانية.
9- جاءت عَلْمانية أتاتورك لتضع حداً وتزيل مجتمع الخرافة الذي كان يحكم الحياة التركية والذي لم يكن للدين الخالص أي دخل فيه، وإنما هو من صُنع رجال الدين المنتفعين بهذا المجتمع. فجاءت عَلْمانية أتاتورك لتزيل هذا المجتمع وتضع مكانـه مجتمـع العقل، وإن كان في آليات هذه الإزالة كثير من القسوة. في حين إن مجيء العَلْمانية العربية لهذا الغرض أيضاً، في مجتمع ما زالت تسوده الخرافات إلى الآن. منها أن هزيمـة 1967 كانت نتيجة لفراغ القلوب من الإيمان. وأن هناك مخلوقـات بثياب بيض كانت تحارب مع الجنود المصريين في حرب 1973 وكان ذلك سبب النصر، كما يقول يوسف القرضاوي في كتابه (الإسلام والعَلْمانية وجهاً لوجه، ص 95،96).
10- ارتكب أتاتورك جريمة تزوير تاريخية عندما أعلن الاستقالة من الشرق والإسلام، مستبدلاً الانحطاط الديني بانحطاط آخر قومي حتى أصبحت محنة التركي الحقيقية أنه أصبـح إنساناً بلا جذور في رأي معارضيه. كما يقول فهمي هويدي في كتابه ( القرآن والسلطان، ص88). أما العَلْمانيـة العربيـة فهي تُقرُّ بحرية المواطنين الدينيــة وتحتـرم الحـق الجوهـري لكل إنسان لاختيار الحقيقـة التي تنير حياتـه، ما دامـت لا تتعــارض مع النظـام العــام. كما يقول جوزيف مغيزل في كتابـــه( العروبة والعَلْمانية، ص21).
11- وأخيراُ، كان أتاتورك في عَلْمانيته: نظرية وتطبيقاً، ضمن إطار التبعية الشاملة للغرب الأوروبي فكراً وتراثاً. وللشرق الأوروبي تطبيقاً وممارسة. في حين لن تكون هذه العَلْمانية في إطار التبعية الشاملة للغرب، وإنما أبوابها مفتوحة لكل الرياح تأخذ منها ما هو مفيد وصالح لها.

والآن وبعد أن فهمنا طريقة تفكير القابضين على السلطة في تركيا من جانبيه "الإسلاموية" و "العلمانوية"، على الأقل فيما يتعلق بممارسة السلطة، والعقلية الاستبدادية في التعامل مع غير الترك من كرد وأرمن وأشورييينن إلى درجة يقرأ المرء عبارات في الشوارع التركية مضمونها، مّن لم يكن تركيا فعليه أن يكون خادما للترك". بينما يقول رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام ن أو كما قال: الناس سواسية كأسنان المشط، لافضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى. فشتان بين النظرية والتطبيق.

بقية : القسم الثاني: إشكالية التركيبة التركية في هويتها الثقافية





 


 

Counters