موقع الناس     http://al-nnas.com/

الانتصارات، بين الوهم والحقيقة

 

د عبدالخالق حسين

الأثنين 7 /8/ 2006

دعتني فضائية أبو ظبي مشكورة، للمشاركة في برنامجها الأسبوعي (بانوراما) مساء يوم 29 تموز/يوليو 2006، في حوار حول المحنة اللبنانية الراهنة. وكان على الطرف الآخر من بيروت، السيد محمود قماطي، عضو المكتب السياسي لحزب الله، ومن نيويورك الدكتور مروان بشارة. وكنت أعرف مسبقاً أني بإصراري على تبني موقف واقعي وعقلاني من القضية المشتعلة، والمخالف لتيار الشارع العربي الذي تسيِّره العواطف، سيعرضني لشتى الاتهامات، مثل الانهزامية وتثبيط العزائم، بل وحتى تهمة الوقوف إلى جانب العدو، ناهيك عن الاتهامات الأخرى الأخف وطأةً!! مثل التبسيطية والسذاجة في قراءة التاريخ..الخ. كما إني اعتدت على تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية وهذا مخالف للثقافة العربية التي تسمي النجاسة طهارة وهزائمنا انتصارات وانتصارات العدو هزائم... وهكذا!

وكان ملخص مداخلاتي، أن حزب الله قام بمغامرة غير محسوبة العواقب حيث زج بالشعب اللبناني في ورطة كبيرة دون إرادته أو استشارة حكومته التي يشارك فيها الحزب بوزيرين، من أجل تنفيذ مخطط إيراني-سوري ولصالحهما وليس لصالح لبنان. إذ لم يكن هناك أي مبرر للقيام بخطف الجنديين الإسرائيليين لمبادلتهما مع الأسرى اللبنانيين الثلاثة أو إعادة مزارع شبعا، كما ادعى حزب الله، لأن هناك طرقاً سلمية أقرتها الأمم المتحدة واتفاقيات دولية يمكن الرجوع إليها وتبنيها لحل المشكلة، كما عمل الراحل أنور السادات في اتفاقية كامب ديفيد. أما الادعاء بأن رد فعل إسرائيل فاق التوقعات والتصورات، فهذا غير مقبول، فردود أفعال إسرائيل معروفة لدى الجميع منذ تأسيس دولتها عام 1948، أنها دائماً ترد الصاع بمليون صاع. وكما يقول الشاعر:

                  إن كنت تدري فهي مصيبة        وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم

فالحقيقة الناصعة تقول أنه لا الأسرى اللبنانيين الثلاثة في سجون إسرائيل، ولا مزارع شبعا كانت السبب في قيام حزب الله باختطاف الجنديين الإسرائيليين، وإنما لأسباب أخرى ليست لها أية علاقة بمصلحة لبنان. فقد صرح الشخص الثاني في قيادة حزب الله، الشيخ نعيم قاسم، إلى صحيفة (صندي تايمز) اللندنية في عددها الصادر يوم 30 تموز/يوليو المنصرم، (الرابط في نهاية المقال) أن الحزب كان يخطط لهذه الحرب لمدة 6 أعوام أي منذ انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000. أما فيما يخص مزارع شبعا، فسوريا لا تزال تدعي ملكيتها فليستردوها من سوريا أولا.

الضاحية قبل انتصارات نصر الله

ولكن لا حزب الله ولا حكومة لبنان طالبا بذلك. فكيف يكون تحريرها مطلبا لبنانيا ما دامت سوريا تدعي ملكيتها، وقبل ثلاثة أيام فقط ادعت أن قضية المزارع داخلة ضمن القرارات عن سوريا وإسرائيل؟؟ كذلك تحتفظ سوريا بالمئات من الأسرى اللبنانيين في سجونها، فهل سيقوم حزب الله بذات العملية مع سوريا؟

نعود إلى الحوار التلفزيوني، فقد صدق حدسي، فالطرف الآخر وبعض الأخوة المشاهدين الذين شاركوا بمداخلاتهم هاتفياً، اتهموني، كما توقعت، بالانهزامية وتثبيط العزائم، وتساءلوا، لماذا نوجه هكذا انتقاد إلى حزب الله في الوقت الذي تحقق فيه المقاومة الإسلامية اللبنانية انتصارات تاريخية باهرة عجزت الجيوش العربية النظامية عن تحقيقها في جميع حروبها السابقة مع العدو الإسرائيلي الغاشم ومن هذه الانتصارات، كما ادعوا، أن صواريخ حزب الله وصلت حيفاً وما بعد حيفا وما بعد بعد حيفا، والإسرائيليون يعيشون الآن في حالة رعب وهلع، ويقضون معظم أوقاتهم في الملاجئ بل وحتى أن مسؤولاً إسرائيلياً كبيراً أصيب بذبحة صدرية من جراء هذه الحرب!! ولذلك فهذه تعد انتصارات تاريخية باهرة يجب أن لا نقلل من شأنها.

الضاحية بعد النصر الذي يريد نصرالله إهداءه إلى لبنان

المشكلة أن الغوغائية والنزعات العاطفية هي السائدة دوماً على الشارع العربي، فكما ذكرت في مناسبات سابقة، أن الجماهير ومعها القيادات السياسية تصور الأمور وفق رغباتها وتمنياتها، لا كما هي على أرض الواقع. والويل لمن لا يجاري ولا يداري هذا المد العاطفي الغوغائي، ويحاول إعطاء صورة حقيقية لما يجري ومغايرة لتصوراتهم الرغبوية.

التضحيات مقابل الانتصارات
لنعمل جرداً بسيطاً للتضحيات أو الخسائر التي أرغم الشعب اللبناني على دفعها دون اختياره، مقابل "الانتصارات" الوهمية التي يدعيها حزب الله ومن يدفعه إلى هذا المصير. إذ قال السيد حسن نصر الله، زعيم حزب الله، في حديث تلفزيوني له قبل أيام أنه يجب على الآخرين أن لا يخافوا من انتصار حزب الله على إسرائيل، فإنه سيهدي هذا النصر إلى لبنان كله، وعلى النحو التالي:

أولاً، التضحيات والخسائر:
فلحد كتابة هذه السطور (7 آب الجاري)، بلغ عدد القتلى من اللبنانيين المدنيين أكثر من ألف شهيد، وتقول التقارير أن 45% منهم من الأطفال. كما تفيد بعض التقارير أن نحو 300 من مليشيات حزب الله قد لقوا حتفهم إثناء المواجهات. أما الجرحى ففي حدود ألفين، والنازحون في حدود مليون نسمة. وجنوب لبنان الآن تحت الإحتلال الإسرائيلي. أما الخسائر المادية في تدمير المنشآت الاقتصادية والمطارات والطرق والجسور، فتقدر بنحو 10 مليار دولار، إضافة إلى هدم عشرات الألوف من الوحدات السكنية، وفرار أكثر من مليون سائح عربي خليجي في ذروة الموسم السياحي. وإذا كانت هذه الخسائر المروعة تعتبر انتصارات، فليت شعري كيف تكون الهزائم؟

ثانياً، الانتصارات التي أحرزها حزب الله:

أفادت التقارير أن مجموع قتلى الإسرائيليين، مدنيين وعسكريين، لا يتعدى المائة في أكبر تقدير، بينهم عدد من العرب الفلسطينيين (عرب 1948)، اضطر المدنيون البقاء في الملاجئ ليحموا أنفسهم من صواريخ حزب الله والتي معظمها سقطت في المزارع خارج المدن... وعكة صحية أصابت بعض المسؤولين الإسرائيليين.
والسؤال هو، هل حقاً هذه انتصارات؟ وهل أرواح العرب رخيصة إلى هذا الحد بحيث يجوز لزعيم حزب أن يقامر بها ودون مقابل، وهل خسائر الإسرائيليين فاقت خسائر الشعب اللبناني لكي نعتبرها انتصاراً تاريخياً باهراً؟ فكيف يمكن لمليشيات لا يتجاوز عدد مقاتليها ثمانية آلاف، مواجهة الجيش الإسرائيلي المحترف والذي يعتبر القوة العظمى في المنطقة ومعها أمريكا الدولة العظمى؟

ثقافة التضحيات:
يبدو أن العرب والمسلمين قد أدمنوا على ثقافة التضحيات والخسائر التي صارت مصدراً للتباهي والتفاخر عندهم، حتى أصبحت التضحيات والخسائر بحد ذاتها مكاسب وانتصارات. ولا عجب في ذلك، فشعارهم المقدس: تحقير الحياة وتمجيد الموت. وقد أصابت عدوى هذه الثقافة حتى اليساريين العلمانيين مع الأسف الشديد، فكل ما تبقي لهم ليس ما حققوه من مكاسب وانتصارات لشعوبهم، بل في استعدادهم لتقديم التضحيات وخاصة بالأرواح ودون مقابل أو مكاسب تذكر. أجل، هذه التضحيات هي "المكاسب" الوحيدة التي بقيت لهذه القوى للتباهى والتغني بها. ولكن كما يقول السيد المسيح: (ماذا يكسب الإنسان لو ربح الدنيا كلها وخسر نفسه؟). أنا لا أدعو هنا إلى روح الانهزامية والاستسلام وعدم تقديم التضحيات في حالة الضرورة، خاصة عندما يكون هناك مبرر قوي للمواجهة المسلحة، ولكني أعتقد جازماً أن على القائد السياسي إجراء حسابات دقيقة قبل الإقدام على أية عملية ووفق مبدأ الربح والخسارة. أما إذا كانت الخسائر أكبر، فهي ليست عملية سياسية محسوبة العواقب، ولا قرار حكيم، بل تهور واستهتار بتعريض أرواح الناس الأبرياء إلى القتل المجاني ودون مقابل مع سبق الإصرار. فمن حق السيد نصر الله أن يعرض نفسه ومن يتبعه من أعضاء حزبه ومليشياته إلى القتل وتقديم التضحيات كما يشاء، ولكن ليس من حقه تعريض الشعب اللبناني وشعوب المنطقة إلى مخاطر مغامراته غير المحسوبة العواقب. ليس من حق حزب الله ابتلاع دولة لبنان والاستقواء بقوى خارجية ومن أجل مصالحها مثل إيران وسوريا.

خلاصة القول، إذا كانت انتصارات نصر الله كلها من هذا النوع، أي الدمار الشامل الذي جلبه على لبنان، فكيف ستكون الهزائم؟ ومن المؤكد أن نصرالله لا يعمل بإرادته، بل بإرادة النظامين الإيراني والسوري اللذين يصران على سياساتهما التخريبية. لذا فلا استقرار في المنطقة ما لم يتم تغيير هذين النظامين أو تغيير سلوكهما. كذلك أود أن أسدي نصيحة للسيد نصر الله ولغيره من القادة العرب، أن الصراع العربي-الإسرائيلي لا يمكن حلها بالحروب مطلقاً، بل بالوسائل السلمية فقط . وكلما تسرعوا في تطبيق هذه النصيحة، جنَّبوا شعوبهم المزيد من الدماء والدموع والدمار، واستثمروا طاقاتهم للتنمية البشرية والاقتصادية بدلاً من تبديدها في الحروب العبثية التدميرية. فهل من مجيب؟