| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عبدالخالق حسين

 

 

 

الخميس 24/ 4 / 2008



دور الانفجار السكاني في حروب الإبادة
(2-2)

د. عبدالخالق حسين

دور الطبيعة في حفظ التوازن السكاني
قد يبدو تأويل القتل الجماعي إلى المالثوسية، أي إلى الانفجار السكاني والشح في الغذاء، كلاماً غريباً وغير معقول، القصد منه إعفاء الآيديولوجيات الفاشية بشقيها العنصرية والدينية من مسؤوليتها، وكذلك تبرئة القادة السياسيين من مسؤولياتهم في ارتكاب هذه الجرائم. الجواب كلا. وإنما الغرض هنا تفسير الظاهرة وتوضيح دور العوامل الطبيعية في هذه الصراعات، وأن هناك أسباباً تدفع إلى هذا الاقتتال نتيجة لمخالفة البشر لقوانين الطبيعة في تحديد النسل. فكما يقول هـ. جي. ويلز: "إن القوانين الكونية تعامل المغفلين كمجرمين". وما هذه الآيديولوجيات والاختلافات العنصرية والدينية والطائفية إلا الأنزيمات (الخمائر) تبقى غير فاعلة إلى أن يتوفر لها عامل منشط
catalyst وهو الفقر الناتج عن الانفجار السكاني والانهيار الاقتصادي، ليقوم بتفعيل هذه الأنزيمات للقيام بوظيفتها التدميرية، وكما يقول النبي محمد (ص): (الفتنة نائمة لعن الله من أيقضها).

فالطبيعة لها طرقها الخاصة في معالجة الأمراض التي تصيب الإنسان والحيوان والنبات، أو أي اختلال يحصل في التوازن بين الأنواع
species، فعندئذٍ تتدخل الطبيعة لحل تلك المشكلة. ولكن تدخل الطبيعة في معالجة الأمراض وحسم الصراعات بين الأنواع والتجمعات البشرية لن يكون دقيقاً ومنضبطاً كدقة ومهارة الطبيب الحاذق في معالجة الأمراض البشرية والبيطرية، أو كتدخل الخبراء الأكفاء في حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها. فطريقة الطبيعة في معالجة المشاكل هي فجة وفضة وقاسية وباهظة الثمن، وأحياناً مهلكة.

إحدى وسائل تدخل الطبيعة الفج في تحديد النسل هو تصاعد نسبة العنوسة التي نشاهدها الآن في معظم البلاد العربية وشعوب العالم الثالث، بسبب عزوف الشباب عن الزواج الناتج عن الفقر وعدم تمكنهم من القيام بإعالة حياة زوجية. كما وتفيد تقارير عن تفشي "ظاهرة أطفال الشوارع في مصر بمثابة القنبلة الموقوتة التي ينتظر انفجارها بين حين وآخر، حيث يشير تقرير الهيئة العامة لحماية الطفل (منظمة غير حكومية) أن أعدادهم وصل في عام 1999 إلى 2 مليون طفل وفي تزايد مستمر مما يجعلهم عرضة لتبني السلوك الإجرامي في المجتمع المصري." وهناك ظاهرة أطلق عليها اسم: "بزنس الرصيف" تجارة أطفال الشوارع!". وهذه الظاهرة لن تنفرد بها مصر وحدها، بل هي منتشرة وخاصة في الدول الإسلامية حيث يمنع فيها تبني الأطفال المرفوضين من ذويهم أو اللقطاء. أما في الدول اللاتينية الفقيرة ذات الانفجار السكاني، فهناك الملايين من الأطفال المشردين يعيشون في أنفاق مجاري الصرف الصحي نهاراً ويخرجون إلى الشوارع ليلاً لارتكاب الجرائم. والأعداد الهائلة من الأطفال المشردين يشكلون رصيداً لا ينضب لرفد عصابات الجريمة المنظمة في القتل والسرقة والاختطاف، والتي هي بحد ذاتها حروب أهلية غير معلنة.

كذلك نرى إقدام الألوف من الأفارقة وبلدان الشرق الأوسط على المجازفة بحياتهم بالهجرة غير الشرعية إلى أوربا عن طريق زوارق الموت عبر البحر المتوسط ويهلك عدد كبير منهم.
يذكر الخبير الاقتصادي نيكولاس همفري في هذا الخصوص، إحدى الفرضيات الذكية في تفسير ظاهرة تدخل الطبيعة في معالجة الأمراض، فيقول أن الجسم يمتلك عدة مصادر لمعالجة أمراضه: الألم في حالة الإصابة بجرح أو كسر لمنع الحركة التي من شأنها زيادة التلف، الحمى لقتل الجراثيم، التقيؤ والإسهال في حالة تناول طعام مسموم للتخلص من السموم، ثم عملية تحفيز الجهاز الدفاعي
immune system لإفراز الجسيمات الدفاعية المضادة anti-bodies ضد الجراثيم المهاجمة. هذه وسائل طبيعية فعالة لمواجهة المرض ولكنها باهظة وأحياناً مكلفة تلحق الضرر أكثر مما تساعد. (عن كتاب Breaking The Spell, Daniel C. Dennett ، p 137-8).

فلو تأملنا قوانين الطبيعة وحركة التاريخ واتجاه مساره، لعرفنا أن الطبيعة كالتاريخ، تموه أغراضها وأهدافها وتعبر عنها بالتمويه والمكر والمراوغة. إذ نسمع بمصطلح مكر التاريخ، إذ كما يؤكد الفلاسفة مثل هيغل وماركس، أن حركة التاريخ غير خاضعة لإرادة الإنسان، والتحولات التاريخية والاجتماعية تحصل خارج وعيه، فمن نسميهم بصناع التاريخ ورغم أنهم يخططون ويعملون بوعي ويهدفون لتحقيق أهداف معينة، ولكن النتائج غالباً ما تكون على غير ما يرغبون.

فالطبيعة، خلقت في الحيوانات ومنها البشر، غرائز، ولكن لها أغراض أخرى من هذه الغرائز غير ما يفهمه الإنسان والحيوان. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر غريزة الجنس. الهدف من ممارسة الحيوان للجنس هو المتعة الجنسية المؤقتة، ولا يخطر ببال الحيوان أي غرض آخر من وراء ممارسة الجنس. ولكن غرض الطبيعة الحقيقي والمموه من هذه الغريزة هو التناسل والحفاظ على بقاء النوع (
species). كذلك معظم الاكتشافات الجغرافية والعلمية حصلت بالصدفة ودون تخطيط مسبق لهذا الاكتشاف أو ذاك، ففي معظم الحالات، يبحث العالِم أو المكتشِف عن شيء ولكنه يكتشف شيئاً آخر لم يدر بخلده، وربما يكون أعظم مما بدأ بحثه أو رحلته من أجله. فعلى سبيل المثال لا الحصر، قاد كرستوفر كولومبس أسطولاً بحرياً برحلة من أسبانيا متجهاً إلى الغرب في المحيط الأطلسي من أجل اكتشاف أقصر طريق بين أوروبا والصين، فاكتشف العالم الجديد (أمريكا)!! وهكذا في معظم الاكتشافات. لذا فالتاريخ هو عبارة عن ناتج ثانوي byproduct وليس المقصود أو المبتغى أصلاً في الخطة الأساسية من البحث أو الرحلة الاستكشافية.

عودة إلى حرب الإبادة في رواندا
نعود إلى حرب الإبادة في رواندا، فبعد إسقاط طائرة رئيس الجمهورية عام 1994، سيطر المتطرفون من الهوتو على الحكم وقام الجيش والمدنيون بحملة واسعة في قتل التوتسي، وكانوا يذيعون بلاغات من الراديو يدعون التوتسي إلى التجمع في أماكن مثل الكنائس والأبنية الحكومية بدعوى حمايتهم. ولكن هذه كانت خدعة القصد منها تجميعهم في أماكن معينة ليسهل قتلهم بالجملة. وقد انتشر هوَس القتل بين الناس إلى درجة حتى الأطباء كانوا يقتلون مرضاهم في المستشفيات، ومعلمون يقتلون تلامذتهم في المدارس، وأناس يقتلون من قبل أبناء جنسهم عندما حاولوا حماية أزواجهم من الجنس الآخر. (
جارد داياموند، نفس المصدر).

كذلك في العراق، يفجر الانتحاريون من أتباع القاعدة أنفسهم وبتوجيه من فلول البعث، في الأماكن المزدحمة، المساجد، الأسواق الشعبية، مراكز تجنيد القوات المسلحة، المدارس والمستشفيات، وفي ساحات تجمع العمال الفقراء الباحثين عن العمل اليومي، لقتل أكبر عدد ممكن من الناس. استمر القتل في رواندا لمدة ستة أسابيع، قتل خلالها 800 ألف من التوتسي إلى أن لم يبق منهم أحد حيث فر الباقون إلى البلدان المجاورة. وعندها حصل القتال بين قبائل الهوتو أنفسهم، وخاصة في المنطقة الشمالية الغربية التي تسمى بـ
Kanama المغلقة للهوتو فقط حيث تم قتل 5% من سكان هذه المنطقة، القتلة والمقتولون كانوا من الهوتو فقط في هذه المرة. كذلك تم قتل 90% من الأقزام وفر الباقون. وعلى العموم قتل 11% من الشعب معظمهم من التوتسي.

وفي العراق، نجد القتل في بغداد بين الشيعة والسنة، ولكن في نفس الوقت هناك اقتتال بين المليشيات الشيعية نفسها، حيث جري اقتتال ضار بين مليشيات مقتدى الصدر (جيش المهدي) ومليشيات عبدالعزيز الحكيم (فيلق بدر) في المحافظات المغلقة للشيعة مثل البصرة والسماوه والديوانية وغيرها. كما وحصل اقتتال بين الفصائل السنية في الأنبار وديالى، كما جاء في بعض التقارير: "قال مصدر مقرب من «كتائب ثورة العشرين» إن الشهر الماضي «شهد أقوى موجة تصفيات بين فصائل المقاومة الوطنية والعشائر من جهة، وتنظيم «القاعدة» من جهة أخرى». وأضاف ان «كتائب ثورة العشرين» تمكنت من تشكيل جبهة مناهضة لـ «القاعدة» مكونة من «كتائب ثوار الغضب» التي شكلها عدد من عشائر الرمادي، وأعلنت ان هدفها الاقتصاص من «القاعدة» لقتلها المئات من أبناء هذه العشائر الذين انضموا إلى الشرطة، وكتائب صلاح الدين الايوبي». وقتل خلال عمليات التصفية هذه «العشرات من أفراد «القاعدة» بينهم عدد من جنسيات عربية، (سعوديون وسوريون ويمنيون). (
الحياة اللندنية، 02/10/2006).

كذلك تم قتل وتشريد المسيحيين والصابئة والإيزيديين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، وعلى وشك أن يفرغ العراق من هذه الأقليات الدينية والعرقية. ومن هنا نعرف أن الصراع الطائفي والقتل على الهوية الطائفية والدينية ما هو إلا الجزء المرئي في عملية الإبادة الجماعية، وأن هذا الاقتتال يحصل بين الجماعات من ذات الدين والعرق والمذهب أيضاً.

كما ويجب أن نعرف أن حروب الإبادة حصلت ومازالت تجري في الجزائر والصومال وفي قطاع غزة المأهولة بالسكان، رغم أن هذه الشعوب متجانسة قومياً ودينياً ومذهبياً، ولكن المالتوسية توجد أسباباً أخرى لتحقيق الغرض. ففي الجزائر حرب الإسلاميين التكفيرين "المجاهدين" ضد أبناء جلدتهم من العلمانيين "الكفار"، وفي غزة بين حركة حماس الإسلامية ومنظمة فتح "عملاء إسرائيل"، إضافة إلى بين حماس وإسرائيل، وفي الصومال بين لوردات الحروب، وأخيراً بين المجاهدين من حركة المحاكم الإسلامية (القاعدية) من جهة والحكومة الصومالية والقوات الأثيوبية من جهة أخرى.

والملاحظ أيضاً، أن المجتمعات المزدحمة والفقيرة، تجتاحها موجات جرائم القتل والسرقة والنهب كمقدمات تهيئ لحروب الإبادة الجماعية بسنوات. ففي رواندا وكما يوضح دياموند، أن البلاد اجتاحته موجة عارمة من جرائم القتل والسرقة تقوم بها عصابات الجريمة المنظمة. وكانت هناك عصابات من الفقراء المعدَمين يطلق عليهم (اللصوص المعدَمون). كذلك حصلت هذه الجرائم في العراق خلال سنوات الحصار الاقتصادي في عهد صدام حسين، حيث تفشت جرائم القتل والسرقة والاختطاف والفساد الإداري وفرض الرشاوى على مراجعي دوائر الحكومة بشكل غير مألوف في السابق. وكان حكم البعث يصعد من العقوبات المشددة في محاولة منه لكبح جماح الجريمة، مثل عقوبة بتر الأطراف، وجدع الأنوف وصمل الآذان ووصم الجباه بالوشم على شكل حرف X.. إلى آخره من العقوبات البدنية المؤلمة والمعوقة والمهينة والمذلة، ولكن دون جدوى لأن الجريمة في مثل هذه الحالات صارت من وسائل الصراع من أجل البقاء كما تمارسها الحيوانات في الغابة. وكانت سلطة البعث تقطع رؤوس النساء بتهمة الدعارة أو السمسرة لها، وتضع الرؤوس المقطوعة على أعمدة أمام بيوتهن لثلاثة أيام كإجراء لنشر الرعب بين المواطنين بغية الردع. كما وامتلأت السجون بنحو 140 ألف سجين جنائي، وكانت حكومة البعث قد خصصت لحماية بغداد وحدها 72 ألف من الشرطة، إضافة إلى مئات الألوف من منتسبي أجهزة الاستخبارات وأعضاء الحزب الذين كانوا أيضاً عبارة عن شرطة وجواسيس على الشعب. وهناك قصص يعرفها العراقيون عن قيام أناس بذبح أقرباء لهم من أجل سرقتهم والاستيلاء على أموالهم مهما كانت هذه الأموال ضئيلة وتافهة. كل هذه الجرائم كانت مقدمات لانفجار حرب الإبادة الجماعية التي حصلت في العراق بعد سقوط حكم البعث الصدامي حيث حصل فراغ في الحكم وغياب حكم القانون.

وكما بينا أعلاه، كانت في رواندا كثافة سكانية خانقة أكثر مما تستوعبها مساحة البلاد وإمكانياتها الإقتصادية. ويستشهد دياموند بأقوال بعض الخبراء الأوربيين الذين درسوا واقع رواندا اجتماعياً واقتصادياً قبيل المذابح، فينقل عن باحثتين بلجيكيتين أندرَيه وبلاتو قولهما: "أن أحداث 1994 وفرت فرصة ذهبية لحل مشاكل كبيرة وإعادة ترتيب ملكيات الأراضي بين السكان، وحتى في قرى الهوتو... ليس غريباً حتى في يومنا هذا أن تسمع من بعض الناس يقولون أن الحرب كانت ضرورية لإزالة العدد الفائض من السكان وليتناسب عدد السكان مع مساحة الأرض المتوفرة."

يقول دياموند: "أن هذا التعليق من أهل رواندا أنفسهم عن جرائم إبادة الجنس تثير الاستغراب، وأنه لغريب أن تسمع من ناس عاديين أن يربطوا بين الازدحام السكاني والقتل. إن تنامي مشاكل البيئة نتيجة التكاثر البشري وعدم قدرة البلاد على استيعابهم، أشبه بتحويل البلد إلى برميل بارود، فمعظم مناطق رواندا كانت عبارة عن براميل بارود تنتظر إلى من يشعل عود ثقاب لتفجيرها. وكان السياسيون هم المبادرين في إشعال الفتيل ولمصالحهم السياسية." كما وينقل عن باحث فرنسي يدعى (جيرارد برونير) نشر دراسة عن دول شرق أفريقيا قائلاً عن الإبادة في رواندا: " طبعاً كان قرار القتل يتخذه السياسيون ولأغراض سياسية. ولكن تقع الأسباب على الأقل جزئياً، على كاهل الفلاحين الذين نفذوا هذه الجرائم بحماس والذي كان ناتجاً عن شعورهم بأن هناك أعداد كبيرة من الناس في مساحات قليلة من الأرض، وأن في تقليص عددهم ستكون هناك وفرة من الأراضي للناجين".

أدلة جديدة على صحة المالتوسية
نسمع هذه الأيام عن اضطرابات في عدد من بلدان العالم الثالث بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية مما تسبب في حصول صدامات دموية سميت في مصر بـ(انتفاضة الخبز). إذ تشير الدلائل إلى أن معظم شعوب العالم الثالث وخاصة مصر بدأت تقترب من النقطة الحرجة أي (الانفجار السكاني مع عدم كفاية المواد الغذائية لسد احتياجات السكان من الغذاء) مما يدعم دور المالتوسية في الحروب الجارية والتي تنذر بحروب قادمة في العالم الثالث قريباً.


شاب يحمل الخبز على كتفه وهو خارج من احد المخابز بالقاهرة

إذ أفادت الأنباء قبل أيام عن اضطرابات في عدد من المدن المصرية. [وتقول مصادر أمنية أن ما لا يقل عن 11 توفوا في طوابير الخبز منذ أوائل فبراير/شباط 2008، بما في ذلك ضحية أصيب بأزمة قلبية وامرأة صدمتها سيارة أثناء وقوفها في طابور امتد إلى الشارع. وقتل شخص بالرصاص وأصيب ثلاثة في مشاجرة في طابور خبز بأحد أحياء القاهرة. وتطور جدل بين طفلين على مكان كل منهما في الطابور إلى مشاجرة اصيب فيها أربعة. ودفعت الطوابير الطويلة وسائل الإعلام للحديث عن "أزمة" الخبز في أكبر دولة عربية من حيث تعداد السكان حيث أدى خفض الدعم للخبز في عام 1977 إلى أعمال شغب قتل فيها العشرات واجبرت الحكومة على العدول عن قرارها. ويقول مراقبون أن المشاكل المستمرة التي يعاني منها نظام الدعم قد تؤدي لتكرار أزمة 1977 ما لم يتم احتواء المشاكل سريعا. وقال جودة عبد الخالق استاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة "ربما تكون أوسع نطاقا وأكثر عنفا لأن الناس تشعر بتأزم أكبر لاوضاعها." كما وصرح وزير التجارة والصناعة رشيد محمد رشيد لصحيفة فاينانشال تايمز اللندنية بأن مصر ينبغي ان تتحرك للتصدي للتضخم لما يسببه من مخاطر لبرنامج التحرر الاقتصادي. وأضاف: " يقول الناس ليس لدينا طعام كاف.. سيبدد هذا الوضع (انجازات) برنامح الاصلاح في مصر بالكامل. لا يسعنا ذلك."] رابط التقرير أدناه.
كما وأفادت الأنباء أن عائلات تونسية تخترق الحدود الجزائرية فرارا من الجوع والفقر .
و[حذر مدير صندوق النقد الدولي دومينيك ستروس كان، من أن مئات الآلاف من الأشخاص سيعانون من المجاعة اذا استمرت أسعار الغذاء العالمية ارتفاعها. وأضاف: أن الاضطراب الاجتماعي الناشيء عن استمرار التضخم في أسعار الغذاء قد يؤدي الى نشوب صراعات. وقد تسبب الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية في كثير من الاضطرابات في كثير من الدول الفقيرة في شتى أرجاء العالم، من بينها هايتي ومصر والفلبين.] ويذكر إن أسعار الغذاء قد ارتفعت بشدة في الشهور الاخيرة، بسبب جملة من العوامل من بينها زيادة الطلب وسوء الاحوال المناخية في عدد من الدول المنتجة، والتوسع في استخدام الاراضي الزراعية لاغراض الوقود الحيوي. وكانت الأمم المتحدة قد أطلقت اكثر من تحذير بشأن النتائج الوخيمة لارتفاع اسعار المواد الغذائية على مستوى العالم. صندوق النقد يحذر من عواقب ارتفاع اسعار الغذاء  .
بطبيعة الحال، إن السبب المباشر المرئي للأزمة هو ارتفاع أسعار المواد الغذائية، والذي هو خاضع لقانون العرض والطلب. وهذا يعني أن العرض لا يكفي بسبب زيادة الطلب عليه والذي بدوره ناتج عن زيادة السكان. وهذا دليل آخر على صحة النظرية المالتوسية في الصراعات الدموية. فإلى متى يطمس المسؤولون رؤوسهم في الرمال وينكرون دور الانفجار السكاني في إشعال الحروب؟

تفسير وليس تبريراً
يقول جارد داياموند، أن هذه الآراء والتفسيرات من أندريا وبلاتو وبرونير في تفسير جرائم إبادة الجنس في رواندا على ضوء الضرورة البيئية لخلق التوازن بين عدد السكان ومساحة الأرض، واجهت معارضة من بعض الباحثين الأمريكان ووصفوها بالتبسيطية وأنها من باب "حتمية بيئية “
Ecological Determinism . يردّ داياموند على هذه الاعتراضات كما يلي:
أولاً: أي تفسير لظاهرة حروب الإبادة يمكن أن يفهم خطأً أنه "تبرير" لها من أجل حفظ التوازن. وسوء الفهم هذا ينشأ دائماً في السجالات حول أصل الشر، ولكن مهما كانت الأسباب فإنه من غير الممكن تبرئة الجناة القائمين بجرائم القتل من مسؤولياتهم، ويجب محاسبتهم على جرائمهم، كما ويجب عدم الخلط بين التفسير والتبرير. والأهم من هذا أنه عندما نعمل على فهم الأسباب الأساسية لحروب الإبادة، ليس الغرض منه إعفاء الجناة من العقاب، بل لمعرفة هذه الأسباب وظروفها، من أجل العمل على منع تكرارها في المستقبل. وكمثال على ذلك، هناك أناس نذروا حياتهم أو اتخذوا مهناً لدراسة أصول النازية وجرائم الهولوكوست، أو لفهم عقول القتلة المحترفين والمغتصبين. فدراسة هؤلاء ليست لتبرير جرائم هتلر والقتلة المجرمين وإعفائهم من مسؤولية جرائمهم، بل من أجل أن يعرف الناس وخاصة المسؤولون منهم لماذا حصلت هذه الجرائم البشعة وما هي أحسن السبل لمنع تكرارها في المستقبل.
وفي حالتنا العراقية لا نريد هنا أن نبرر جرائم المقابر الجماعية في العراق بشكل عام، وعمليات الأنفال وحلبجة التي ارتكبها حكم صدام حسين ضد الشعب الكردي، ولا أن نلقي تبعاتها على المالتوسية، فأيديولوجية البعث هي أيديولوجيا عنصرية معروفة بعدائها للإنسان، وتختلق الأسباب المختلفة لحروب الإبادة.

ثانياً:
يضيف داياموند، كذلك تعتبر نظرة تبسيطية إذا ما اعتبرنا الضغط السكاني هو السبب الوحيد لحرب الإبادة في رواندا، إذ هناك عوامل أخرى ساهمت في الجرائم، منها: عوامل تاريخية، هيمنة التوتسي (الأقلية) على الهوتو (الأكثرية). والتوتسي قاموا بمجازر على نطاق واسع ضد الهوتو في بوروندي، وعلى نطاق ضيق في رواندا. كذلك هناك عوامل اقتصادية، الجفاف، انهيار أسعار القهوة التي هي الصادرات الرئيسية لدعم الاقتصاد، وقرار البنك الدولي بإجراءات التقشف، وهناك مئات الألوف من اليائسين والعاطلين والمستميتين من الشباب الروانديين في مخيمات اللجوء، كانوا مهيئين للتجنيد في المليشيات، والمنافسة بين الفئات السياسية مستعدين لعمل أي شيء من أجل السلطة. لذا فالضغط السكاني كان عاملاً مساعداً للعوامل الأخرى التي كانت تغلي تحت السطح.

ثالثاً: كما ذكرنا آنفاً، لا يجب أن نستنج أن الضغط السكاني لوحده سيؤدي تلقائياً إلى حروب إبادة في أي مكان في العالم، إذ يمكن أن تكون هناك بلدان مأهولة بالسكان دون الانحدار في الجينوسايد، مثلاً بنغلادش (نسبياً سالمة من القتل على نطاق واسع ولو حصل فيها جرائم الإبادة عام 1971 كذلك تعرضها للكوارث الطبيعية بتكرار). وأكثر بلد مأهول بالسكان هو هولندا وبلجيكا ذات شعب متعدد الأعراق. كل هذه البلدان الثلاثة أكثر كثافة سكانية من رواندا ولم تقع فيها حروب إبادة ولكن لأسباب جئنا على ذكرها. كذلك يمكن أن تحصل جرائم إبادة الجنس لأسباب لا علاقة لها بالضغط السكاني، مثال ما حصل ضد اليهود والغجر في ألمانيا في عهد النازية في الحرب العالمية الثانية، أو إبادة الجنس في كمبوديا عام 1970 التي كانت كثافتها السكانية حوالي سدس ما في رواندا.

ومن كل ما تقدم، يستنتج داياموند، أن الضغط السكاني كان أحد الأسباب المهمة وراء جرائم إبادة الجنس في رواندا، والتي تمثل أسوأ احتمالات سيناريو توماس مالُتوس. ولكن محنة رواندا تؤكد على إن اجتماع الضغط السكاني مع تردي البيئة وانهيار الاقتصاد والتخلف الحضاري وفشل السلطة في حل هذه المشاكل ستنتهي إلى حروب إبادة الجنس تحت مختلف الواجهات والمعاذير.
وكما قال الباحث الفرنسي جيرارد برونير عما جرى في رواندا: " كل الذين قُّتِلوا كانوا يمتلكون أراض وأبقار. ولا بد للبعض أن يمتلك هذه الأراضي والأبقار بعد مقتل أصحابها. ففي بلد فقير وكثافة سكانية عالية كان من غير الممكن إهمال هذا السبب كدافع للقتل".

ولو قارنا هذا الوضع مع الوضع في العراق، نجد أن هناك حملة تهجير قسرية بذرائع طائفية، إذ يُرغَم الشيعي في المناطق ذات الأغلبية السنية على ترك داره، وكذلك يُرغَم السني في المناطق ذات الأغلبية الشيعية على ترك المنطقة، وما أن تغادر العائلة دارها حتى يتم احتلالها من قبل عائلة من الطائفة الأخرى أو من قبل الإرهابيين، رغم أن دينهم يحرم حتى العبادة في الأرض المغتصبة. وهذا في رأيي ناتج عن الصراع على مصادر البقاء والسلطة والثروة.

الدروس المستخلصة
لا شك أن هناك أسباباً عديدة متداخلة ومتشابكة لما يجري في العراق من حروب الإبادة، ولكن في نفس الوقت ليس صحيحاً إسقاط عاملَيْ الانفجار السكاني والفقر وأزمة السكن من قائمة الأسباب. إضافة إلى العوامل المرئية مثل الصراع الطائفي والعرقي وعوامل خارجية كالتدخل الإيراني والسوري وغيرهما من دول الجوار، والإرهاب القاعدي، كل هذه العوامل وجدت التربة خصبة لتدخلها. ولكن في هذه المداخلة كان تركيزنا على دور الانفجار السكاني في تأجيج الصراعات الدموية.

وهذا يفرض على المسؤولين في العراق وفي البلاد العربية وجميع دول العالم الثالث، إعطاء عامل الانفجار السكاني وتردي المستوى المعيشي أهمية بالغة لمنع وقوع حروب الإبادة مستقبلاً، إضافة إلى نشر ثقافة التسامح والانسجام والتعايش السلمي بين مختلف مكونات الشعب، وتحقيق المساواة في المواطنة والحقوق والواجبات، وتكافؤ الفرص للجميع دون أي تمييز. فجميع الدول العربية ومعظم دول العالم الثالث تعاني الآن من حالة اختناق واحتقان شديدين بسبب الانفجار السكاني وتردي الوضع الاقتصادي، وهي أشبه ببراميل بارود تنتظر من يشعل عود ثقاب لتشتعل فيها حروب إبادة الجنس في أية لحظة، كما حصل في رواندا وما يجري الآن في العراق ودارفور والصومال وغزة والجزائر وأفغانستان والكونغو وأخيراً باكستان. فهذه الشعوب تتكاثر نفوسها بشكل عشوائي وبلا ضوابط وفوق إمكانيات بلدانها الاقتصادية، فهي كمن يسير نحو الهاوية وهو نائم. وما يجري في مصر ودول فقيرة أخرى من اضطرابات وتفشي الجريمة المنظمة بسبب الفقر وارتفاع أسعار المواد الغذائية، ما هو إلا دق ناقوس الخطر لحروب أهلية قادمة ستحرق الأخضر واليابس. وقد ارتفعت أسعار القمح والأرز والذرة مما أدى الى ارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل عام بنسبة 83 في المئة في السنوات الثلاث الأخيرة، كما قال مدير البنك الدولي. وحذر مدير صندوق النقد الدولي من انتشار المجاعة إذا استمرت أسعار المواد الغذائية في الارتفاع الحاد وحذر من أن التجارب أثبتت أن أوضاعا كهذه قد تنتهي بالحروب. (
تقرير موقع بي بي سي العربية، 14/4/2008).

وفي الختام، مرة أخرى أود التوكيد على إن هذه المقالة ليست لتبرير القتل الجماعي على الهوية الطائفية والعرقية والقبلية، ولا لإعفاء القادة السياسيين من مسؤولياتهم في توظيف هذه الانتماءات للكسب السياسي، بل كل ما أردت التأكيد عليه هو دور الانفجار السكاني المصحوب بالفقر في تفجير الألغام الطائفية والعرقية الخامدة. لذلك نحذر، إذا لم تتدخل الحكومات وأصحاب الحل والعقد بوضع حلول عقلانية علمية فوراً لوقف الانفجار السكاني كما عملت حكومة الصين الشعبية، فستتدخل الطبيعة بطريقتها البشعة لحل هذه المشكلة وعلى شكل كوارث طبيعية وحروب إبادة الجنس.
فهل من يسمع؟

الهوامش ومواد ذات علاقة بالموضوع:
1- في مصر .. طوابير طويلة لشراء الخبز المدعوم .. وتحذيرات من انفجار قادم
http://www.aafaq.org/news.aspx?id_news=4915
2- صندوق النقد يحذر من عواقب ارتفاع اسعار الغذاء
http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/business/newsid_7344000/7344944.stm
3- عائلات تونسية تخترق الحدود الجزائرية فرارا من الجوع والفقر
http://www.aafaq.org/news.aspx?id_news=5039
4- مقال للكاتب: الانفجار السكاني من أهم المعوقات للتنمية
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=16582
 

¤ الجزء الأول
 

Counters