| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عبدالخالق حسين

 

 

 

السبت 24 / 11 / 2007



العولمة حتمية تاريخية
(2-2)

د. عبدالخالق حسين

هل العولمة أمركة واستحواذ المركز على الأطراف؟؟
في الحقيقة استغربت جداً من رأي الأستاذ حسن حنفي وموقفه المناهض للعولمة وبهذه الضراوة، حيث يرى فيها تهديداً لدول الأطراف، ولثفافاتها القومية وهوياتها الوطنية واستقلالها السياسي، ...الخ، خاصة وأن الأستاذ حنفي يـُعَد من المثقفين العرب الليبراليين. فإذا كان هذا هو موقف مثقف ليبرالي من العولمة، فماذا نقول عن المؤدلجين من غلاة القوميين والإسلاميين الأصوليين بهذا الصدد؟
ولمواجهة مخاطر العولمة على حد تعبيره، يطالب الأستاذ حنفي باتخاذ الإجراءات التالية:
1- إعادة الموروث القديم الذي هو الرافد الرئيسي في الثقافة الوطنية.
2- كسر حدة الانبهار بالغرب ومقاومة قوة جذبه وذلك برده إلى حدوده الطبيعية والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية.
3- التخفيف من غلواء العولمة عن طريق قدرة الأنا على الإبداع بالتفاعل مع ماضيها وحاضرها بين ثقافتها وثقافات العصر.
ينصح الدكتور حسن حنفي بعدم تقليد الغرب، والوقوف ضده، و" كسر حدة الانبهار بالغرب ومقاومة قوة جذبه ". والسؤال هو: من الذي يخسر في مناهضة التقافة العالمية والتي هي في معظمها ثقافة غربية؟ ولعل أفضل جواب على هذا التعالي ورفض الإستفادة من تجارب الغرب وثمار تقدمه هو ما قاله أستاذنا العفيف الأخضر في رده على هذا النوع من اللامعقولية فيقول: "أصحاب جوقة اللامعقول الصاخبة ضد تقليد الغرب لم يفهموا شيئاً من جدلية العقلانية العلمية والتكنولوجية كما تحققت في التاريخ، لم يحدث قط أن مرت أمة إلى مرحلة الإبداع العلمي والتكنولوجي والفكري دون المرور بمرحلة تقليد العلم والتكنولوجيا الغربيين. الصين لم تحقق اليوم من التقدم الاقتصادي في عقدين ما حققته بريطانيا في قرنين إلا بفضل تقليد الغرب. وكذلك فعلت الهند و"النمور" الآسيوية. تماماً كما أن الطفل يتعلم بتقليد أبويه ومعلميه قبل أن ينتقل إلى مرحلة الاستقلال عنهما وربما التفوق عليهما. وكما أن الترجمة الجيدة هي فعل مشاركة في أبداع المؤلف، وبالمثل التقليد الحق للفكر والعلم الغربيين هو في الواقع مشاركة فعالة في الاكتشاف العلمي والتكنولوجي والابستيمولوجي والثقافي. وهذا اليوم، كما تشهد بذلك تجربة البلدان الصاعدة، ليس مجرد تقليد فردي، بل تقليد تقوم به مؤسسات للمؤسسات الغربية العلمية والتكنولوجية والسياسية والثقافية... تحريم تقليد الغرب هو عنصرية ضد الذات، هو انتحار!." (العفيف الأخضر، إيلاف، 19/11/2007).
يبدو لي أن خصوم العولمة من المثقفين العرب هم بمعزل تام عما يجري في العالم من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وبوتيرة متسارعة. وهذه العزلة هي من صنع أيديهم ونتاج تعصبهم لأيديولوجياتهم المعادية للإنسانية وثقافتها العالمية ورفضهم الفض في الاندماج مع العالم. فكما ذكرنا آنفاً، أن العولمة هي قدر محتوم، ومن الخطأ مقاومتها، بل من العبث مناهضتها، وهي ليست من اختراع أمريكا أو الدول الغربية للهيمنة على دول الأطراف أو الهامشية كما يتصور هؤلاء السادة، وإنما هي نتاج التطور السريع والمذهل في العلوم والتكنولوجيا والمواصلات والاتصالات والثورة المعلوماتية وغيرها، والتي قربت بين الشعوب وصولاً إلى جعل العالم قرية كونية صغيرة. وليت دعاة العزلة ومناهضة العولمة ومعاداة الغرب تتمتع شعوبهم بمستوى راق في العلوم والتقنية والثقافة ليؤهلهم بأخذ هذه المواقف العنصرية المتزمتة من العالم، بينما الحقيقة هي العكس من ذلك تماماً، إذ نرى الشعوب العربية والإسلامية الرافضة للعولمة هي في أمس الحاجة إلى التعاون مع الغرب والاستفادة من حضارته لأنها تعيش في قعر التخلف وهي أضعف الأمم في جميع المجالات وأمسها حاجة إلى الانسجام مع العالم المتحضر، إذا ما أرادت مواكبة التقدم.

يقول الأستاذ منير حداد بهذا الصدد: [غالباً ما يتم انتقاد العولمة بدعوى أنها " أمركة "، أي هيمنة الاقتصاد والثقافة الأمريكيتين على باقي دول العالم. وهذا فهم خاطئ لحقيقة العولمة التي تعني أساساً حرية تدفق الاستثمارات والبضائع والخدمات والأفكار والخبرات، بحيث تتخصص كل دولة في إنتاج وتصدير ما تقدر على إنتاجه بصفة أفضل، و تستورد مقابل ذلك ما يستطيع الآخرون إنتاجه بصفة أفضل. وعلى هذا الأساس، يتطور الإنتاج بحكم المنافسة الخارجية، كما يستفيد المستهلك من حرية الاختيار المتاحة بين المنتجات المحلية والمستوردة المتوفرة بأسعار عالمية. وللتأكد من هذا، يكفي المقارنة مع البديل في ظل الحماية للمنتجات الوطنية والتضييق على الواردات بنظام " الكوتا " والوكالات التجارية والتعريفة الجمركية المرتفعة، إذ يؤدي هذا النظام إلى منتوج وطني غير تنافسي- لا مكان له للمزاحمة في السوق الدولية-، بينما لا تتوفر للمستهلك حرية الاختيار ويضطر إلى دفع أسعار عالية على المنتجات المستوردة بحكم التعريفة الجمركية. (منير حداد، إيلاف، 22/1/2007). ويستشهد الأستاذ حداد بالميزان التجاري الذي هو غالباً في صالح دول الأطراف مثل الصين والهند وغيرهما من النمور الآسيوية، وضد أمريكا بالذات التي غالباً ما تعاني من العجز في ميزانها التجاري. فأين الأمركة من كل هذا؟

وتأسيساً على ما تقدم، نعرف إن العولمة هي ليست (أمركة)، ولا هيمنة دولة على أخرى، ولا القضاء على الدولة القومية، ولا إلغاء الهوية الوطنية، أو القضاء على الثقافة المحلية الموروثة، كما يتصور البعض، بل هي الدعوة للتخفيف من غلواء كل هذه الانتماءات، فبدلاً من تصارعها مع بعضها البعض ومعاداة الغير بدوافع عنصرية ودينية وطائفية ومحلية، يمكن العمل على جعل هذه الثقافات وغيرها من الانتماءات تتآلف وتتناغم وفي حالة انسجام تام مع بعضها البعض في العالم دون الشعور بالاستعلاء العنصري أو الديني على الغير أو إلغاء الآخر، أشبه بأعضاء فرقة موسيقية كبيرة يشارك أعضائها في عزف سيمفونية عالمية جميلة كل على آلته، دون أن تكون هناك نغمة نشاز خارجة عن السيمفونية الإنسانية.
فالدول الغربية الآن تتحدث عن تعددية الثقافات والأعراق (
multi-culturalism) وتعمل بنشاط على تربية شعوبها بتقبل هذه التعددية والتعايش معها بسلام، وأن التعددية يجب أن تكون عامل إثراء للمجتمع وليس عامل إلغاء وتطاحن فيما بين مكوناته. فبدلاً من أن تكون هذه التعددية سبباً لحالة صراع يؤدي إلى عرقلة المسيرة الحضارية، تعمل العولمة على تهذيبها وجعلها متناغمة ومتناسقة ومنسجمة مع بعضها البعض وبذلك تؤدي إلى التعجيل في التقدم الحضاري تعود فوائده على الجميع بدون استثناء.

إلا إن ما يؤسف له، أن العرب والمسلمين وحدهم الذين يرفضون هذه التعددية والتعايش مع الآخرين بسلام، ويصرون على إلغاء الآخرين، وهم ضحايا وهمهم القاتل مدعين خطأً أن ثقافتهم هي أفضل الثقافات وأنهم أفضل الأمم وأرقى الناس، لأنهم "خير أمة أخرجت للناس"، شاهرين سلاح التكفير في وجه كل من يختلف معهم في الرأي والدين والمذهب. والمسلم الذي يأتي إلى الغرب لأسباب سياسية أو لمنافع اقتصادية وحياة أفضل التي افتقدها في وطنه الأصلي، ما أن يصل إلى الغرب حتى وينقلب على المجتمع المضيف الذي آواه ووفر له العيش الكريم، رافضاً الثقافة الغربية وحضارتها، واصفاً إياها بالجاهلية والكفر، وأنه يحمل رسالة إلهية لتغيير هذا العالم وتحويله إلى دولة إسلامية "نقية طاهرة" ولو بالعنف.
ولا نريد التعميم هنا، فلحسن الحظ ليس كل المثقفين العرب والمسلمين يحملون هذا الاتجاه العدواني ضد الحضارة الغربية وضد العولمة، و ضد التعايش السلمي مع المختلف، ولا كل أبناء الجاليات الإسلامية يحملون هذا الموقف الخاطئ من الحضارة الغربية والعولمة، ولكن بالتأكيد هناك قطاعات واسعة من هؤلاء الذين يعملون ضجيجاً عالياً، وخاصة المقيمون منهم في الغرب، يعملون على تشويه سمعة شعوبهم في داخل بلدانهم، وسمعة جالياتهم في بلدان المهجر، مما جعلوا من كل مهاجر مسلم إرهابي يشكل تهديداً للحضارة الغربية إلى أن يثبت العكس.

العولمة نقيض الاستعمار
يحلو لخصوم العولمة وصفها بأنها عودة استعمارية بشكل جديد، ناسين أن الاستعمار يتم بالقوة وباحتلال الأقوى للأضعف لنهب خيرات البلد المحتَلْ، بينما الذي يجري الآن هو العكس، أي غزو الأطراف للمركز سواء عن طريق الهجرة المليونية، أو التجارة والاقتصاد. في الحقيقة كان الاستعمار يمثل مرحلة من مراحل تطور المجتمع البشري، وقد انتهى إلى غير رجعة، ولا يمكن إعادة التاريخ إلى الوراء. ومهما قيل بهذا الصدد، إلا إنه يمكن القول أن الاستعمار الأوربي لدول العالم الثالث، خلافاً للاستعمار العثماني التركي للبلدان العربية، قد ساهم كثيراً في نقل الحضارة الغربية وقيمها الإنسانية إلى البلدان المستعمَرة. فلا ينكر أحد دور احتلال نابليون لمصر في أواخر القرن الثامن عشر في النهضة المصرية الحديثة، أو دور الاحتلال البريطاني للعراق بعد الحرب العالمية الأولى... وهكذا في الدول الأخرى من العالم الثالث. فهذه الهند التي استعمرتها بريطانيا لأربعة قرون صارت من النمور الآسيوية الآن تشهد تقدماً اقتصادياً هائلاً، وتعد اليوم أكبر دولة ديمقراطية في العالم نتيجة لتقليدها للنظام البريطاني الديمقراطي.
تمر البشرية اليوم في مرحلة جديدة متقدمة في مسيرتها الحضارية، ولا يمكن لأية دولة ومهما كانت قوية، السماح لها بالهيمنة والاستحواذ على الدول الأخرى في هذا العصر. لأن سياسة هيمنة الدولة الواحدة على الدول الأخرى تخالف أهم مبدأ من مبادئ النظام الرأسمالي، ألا وهو مبدأ المنافسة بين الدول، وحرية التجارة فيما بينها، كما إن معظم الدول الرأسمالية لها استثمارات في الدول الأخرى من خلال شركات عابرة القارات. لذا فليس من مصلحة هذه الدول هيمنة أي منها على الأخرى. فالعولمة هي اختيارية ونتاج إدراك الشعوب أن مصالحها تتطلب التفاعل والانسجام مع بعضها البعض.
وإذا ما حاولت أية دولة بالقيام بالسيطرة على الدول الأخرى بالقوة فمآلها الفشل، حيث تهب الدول الرأسمالية الأخرى بإجهاض المحاولة بشن الحرب عليها. يذكر الأستاذ ساندرسون بهذا الصدد، أن حصلت ثلاث محاولات في تاريخ النظام الرأسمالي لسيطرة إمبراطورية على الدول الأخرى. المحاولة الأولى قامت بها الإمبراطورية النمساوية خلال حكم أسرة الهابسبرغ (
Hapsburg) في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، والثانية، قامت بها الإمبراطورية الفرنسية في عهد نابليون في أوائل القرن التاسع عشر، والمحاولة الثالثة والأخيرة قامت بها ألمانيا النازية الهتلرية في القرن العشرين، كلها باءت بالفشل الذريع حيث اتحدت الدول الرأسمالية الأخرى ضدها وأجهضتها.

لماذا صِدام الحضارات في زمن العولمة؟
قد يعترض البعض سائلاً: إذا كانت العولمة تعني التقارب والتآلف والتعايش السلمي بين الشعوب من أجل المصالح المشتركة، فلماذا حصل صِدام الثقافات أو الحضارات في زمن العولمة؟ ولماذا هذا التطرف الإسلامي بالذات الآن، أليس هذا على الضد مما جاء في هذا المقال؟
في الحقيقة، إن العوامل التي أنتجت العولمة هي ذاتها ساهمت إلى حد كبير في خلق التطرف والصراع بين الثقافات. فالعولمة وكما ذكرنا آنفاً، هي نتاج التطور المذهل في التكنولوجيا وخاصة في وسائل المواصلات والاتصالات والنشر...الخ. وهذه الوسائل أدت إلى تسهيل السفر بغية السياحة أو لأسباب اقتصادية أو دراسية..الخ مما أدى بدوره إلى احتكاك الشعوب واختلاطها فيما بينها، وبالتالي إلى التعجيل في عملية التغيير الاجتماعي للشعوب العربية والإسلامية وغيرها من شعوب العالم الثالث (الأطراف).

كانت الشعوب في الماضي معزولة عن بعضها البعض لصعوبة السفر. والتطور كان يجري ببطء شديد، بحيث ما كان يشعر به الإنسان، إضافة إلى أن معدل الأعمار كان قصيراً لا يزيد عن 30-35 عاماً. لذلك كان الناس يتكيفون مع التغيير البطيء وبدون هزات عنيفة أو حتى دون أن يشعروا به. ولكن مع الزمن وبدخول المخترعات الجديدة في القرن العشرين، وزيادة اختلاط الشعوب مع بعضها البعض، ازدادت سرعة التغيير والتطور الاجتماعي، لأن كل مرحلة تهيئ الظروف للمرحلة اللاحقة، فيكون التطور في المرحلة اللاحقة أسرع مما كان عليه في المراحل السابقة، وهكذا يجري التغيير بتعجيل. وعليه، حصلت في زماننا تطورات سريعة ومذهلة وحادة في مختلف المجالات وفي جيل واحد.
ولتوضيح ذلك نقول: يعرف الجميع أن العصر الحجري استغرق ملايين السنين، ثم تلاه العصر البرونزي الذي استغرق عدة آلاف من السنين، وبعده العصر الحديدي لقرون وهكذا. بينما مرت البشرية في القرن العشرين وحده، وخلال بضعة عقود من السنين، مرت بعدة عصور: عصر الذرة وعصر غزو الفضاء وعصر الإنترنت وعصر الفضائيات وعصر الثورة المعلوماتية... الخ، كل ذلك حصل في جيل أو جيلين تقريباً، مصحوباً بتغيير اجتماعي سريع، وهذا أكبر مما يتحمله العقل البشري للتكيف معه.
فالاختلاط بين الشعوب أدى إلى انتقال ثقافات وعادات وتقاليد من الشعوب الغربية المتطورة إلى الشعوب العربية والإسلامية المتخلفة. والجدير بالذكر أن الناس ليسوا متساوين في التأثر بهذا التغيير، فيقبله البعض ويرفضه آخرون.

وفيما يخص اختلاط الشعوب وتأثرها بالتغيير، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان الشعب السعودي وخاصة سكان نجد يعيشون على شكل قبائل بدوية في مناطق معزولة عن العالم تحيط بها الصحراء العازلة من كل جانب، يعانون من مجاعة مزمنة بسبب شح الماء والغذاء تغزو بعضها البعض بسبب ظروف الصحراء. ولذلك ظهر عندهم المذهب الوهابي الذي هو وليد ظروف الصحراء وقيم البداوة، المعروف بالتعصب ومعاداة الأديان الأخرى وحتى المذاهب الإسلامية غير الوهابية. ولكن في غضون فترة قصيرة من الزمن، وخلال جيل واحد تقريباً، حصل اختلاط كبير بين الشعب السعودي والشعوب الأخرى بسبب اكتشاف النفط في المملكة. إذ يعادل عدد الأجانب اليوم في المملكة العربية السعودية نحو 50% من الشعب السعودي. أما في البلدان الخليجية النفطية الأخرى فالأجانب يشكلون نحو 80%، من مجموع السكان، يشكل الأوربيون نحو 30% منهم. ونتيجة لهذا الاختلاط والاحتكاك الكبيرين حصل تغيير اجتماعي سريع لهذه الشعوب خلال جيل أو جيلين.

وكما قال عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي بهذا الصدد: " العالم كله الآن يعاني تغيراً اجتماعياً هائلاً لم يعهد له مثيلاً من قبل في جميع أطوار التاريخ، فقد أنتج العلم في العصر الحديث مخترعات عظيمة في وسائل المواصلات والسفر والنقل والإعلام والنشر بحيث صارت العزلة الاجتماعية وما يتبعها من ركود اجتماعي غير ممكنة في أي مجتمع مهما كان نائياً أو محاطاً بالجبال الشاهقة." ويضيف في مكان آخر:
"من طبيعة التغير السريع أنه لا يؤثر في جميع أجزاء الكيان الاجتماعي على درجة واحدة، فكثيراً ما يكون هناك جزءان مترابطان ثم يحدث التغير في أحدهما دون أن يحدث في الآخر، أو هو قد يحدث في أحدهما أسرع مما يحدث في الآخر، فيؤدي ذلك إلى صراع أو توتر أو تناقض بينهما، وهذا هو ما أسميته بـ (التناشز الاجتماعي). (
د. علي الوردي، لمحات اجتماعية ج1، ص 288-289).

كذلك يمكن القول أن هذا التطور الاجتماعي السريع هو المسؤول عن تمرد فئات متشددة معارضة للثقافة الغربية وقيمها الاجتماعية من الأصوليين المتزمتين الذين أنجبوا الإرهاب الإسلامي. وهذا ما أسماه الوردي قبل أكثر من خمسين عاماً بـ(صدام الثقافات) وهو أصح من تعبير ساميول هانتنغتون (صدام الحضارات)، لأن الحضارة هي واحدة في كل مكان، ساهمت في بنائها جميع الأمم كثيراً أو قليلاً، وهي ملك البشرية كلها، أما الثقافات
Culture فهي متعددة ومختلفة من شعب إلى آخر، ويمكن أن تتصارع كما هو جار الآن.
وعليه، اعتقد أن هذا الصدام بين الثقافات، هو مؤقت وناتج عن سرعة التغيير، مما أدى إلى رفض شرائح معينة من المجتمعات العربية والإسلامية للثقافة الغربية وخوفها على ثقافاتها الموروثة من الإلغاء، فأعلنت التمرد والكفاح المسلح على شكل إرهاب اعتقاداً منها ثقافتها وشخصيتها مهددة بما تسميه بالثقافات والأفكار المستوردة، خاصة وقد وجدت هذه الفئات الدعم لإرهابها من النصوص الدينة المقدسة. ولكن هذه الشرائح الرافضة للحضارة هي في طريق الزوال مع الزمن.

ماذا لولا العولمة؟
سؤال مهم آخر يفرض نفسه، وهو، ماذا لولا العولمة؟ فكما بينا، العولمة هي عملية تعامل الشعوب فيما بينها وفق مصالحها المشتركة بحيث لا يمكن لأي شعب اليوم أن يعزل نفسه عن العالم. ولقد لمسنا تأثير العزلة هذه على الشعب العراقي خلال التسعينات من القرن الماضي بسبب الحصار الاقتصادي الذي فرضته الأمم المتحدة عليه في عهد حكم البعث الصدامي على أثر غزوه للكويت. فرغم كون العراق يتمتع بالثروات الطبيعية الهائلة من النفط والمياه، إلا إن هذا الشعب عانى أشد المعاناة بسبب الحصار.
كما إن العولمة تتدخل لمساعدة الشعوب التي تتعرض إلى الكوارث والحروب وحروب الإبادة من قبل حكوماتها الجائرة، كما جرى في أفغانستان في عهد طالبان وفي العراق في عهد حكم البعث، وما يجري الآن في دارفور مثلاً. فلولا تدخل العالم الخارجي في مساعدة الشعوب الأفريقية الفقيرة لانقرض العديد منها. وكلنا نتذكر أيام المجاعة التي تعرض لها الشعب الأثيوبي في أواخر الثمانينات والمساعدات الغربية التي انهالت عليه من كل حدب وصوب. كذلك التدخل الخارجي لمساعدة الشعب الكردي في شمال العراق الذي تعرض لحرب الإبادة من قبل نظام البعث الصدامي، حيث فرضت بريطانيا وأمريكا (الملاذ الآمن) في منطقة كردستان العراق وحمايته من جور نظام البعث الفاشي في التسعينات من القرن المنصرم. كما وتدخل الغرب في إنقاذ شعوب البلقان من حروب الإبادة على يد الفاشية الصربية بقيادة ميلوسوفيج. ولا يمكن أن ننسى المساعدات الدولية لشعوب حوض المحيط الهندي التي تعرضت لتسونامي نهاية عام 2004 الذي ضرب عدة بلدان ممتدة من جزر إندونيسيا إلى السواحل الشرقية لأفريقيا والذي راح ضحيته نحو 300 ألف إنسان. فلولا المساعدات الدولية لهذه الشعوب لكان عدد الضحايا أضعافاً مضاعفة. وهذه من ثمار ومظاهر العولمة.
وهناك أمثلة لا تعد ولا تحصى، تؤكد دور التعاون الدولي فيما بينها والمساعدات التي تقدمها الدول المتطورة الغنية للشعوب الفقيرة التي تتعرض للكوارث، سواءً كانت كوارث طبيعية مثل الزلازل والفيضانات والأعاصير والأوبئة، أم كوارث من صنع البشر مثل الحروب وحروب الإبادة وحرائق الغابات وغيرها.

كذلك هناك مخاطر مشتركة تهدد البشرية كلها، مثل التغيرات والتقلبات المفاجئة في المناخ ومشكلة الاحتباس الحراري وقضية الأوزون وغيرها، لا شك أن هذه المشاكل البيئية تهدد الحياة وخاصة الحياة البشرية بالفناء ما لم تتعاون جميع الدول دون استثناء في اتخاذ إجراءات ناجعة لدرء الكارثة. ومن هنا نعرف أهمية العولمة وضرورة المشاركة فيها، فهي ليست مسألة ترف والحفاظ على تقاليد السلف، بل هي مسألة بقاء أو فناء.

الخلاصة والاستنتاج
العولمة هي نتاج التقدم العلمي والتكنولوجي، خاصة في مجال المواصلات والاتصالات والنشر والثورة المعلوماتية، وتداخل مصالح الشعوب وتشابكها واختلاطها مع بعضها البعض. وهي قدر محتوم كالسيل العرم الجارف لا يمكن مقاومتها. والمطلوب من الشعوب العربية والإسلامية، بدلاً من مقاومة العولمة، الاندماج فيها والعمل على الاستفادة منها إلى أقصى حد وذلك لمواكبة التطور بالتكيف معها وتطوير ثقافاتها ومواقفها السياسية والاجتماعية وجعلها تتلائم وتنسجم مع ما يجري في العالم من تطور، لكي تتخلص من ذلها وتخلفها، ولا تبقى خارج السرب. والعولمة ليست ضد التعددية والثقافات الوطنية ومصالح الشعوب كما يعتقد البعض من المتزمتين العرب والإسلاميين، بل كل ما هو مطلوب منهم هو التخلي عن معاداة ثقافات الآخرين والقبول بالتعايش السلمي مع المختلف والثقافات الأخرى بروح التسامح، بدلاً من روح التعالي والعنجهية المقية وإلغاء الآخر، ولتساهم الثقافة العربية والإسلامية في السيمفونية الإنسانية المشتركة بدلاً من العزف على الوتر العنصري الديني الطائفي النشاز.


¤ الجزء الأول


 

Counters