| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عبدالخالق حسين

 

 

 

الثلاثاء 10/ 6/ 2008



الاتفاقية العراقية - الأمريكية، ضرر أم ضرورة؟

د.عبدالخالق حسين

طلعت علينا وسائل الإعلام العراقية والعربية والعالمية، على حد سواء، بمقالات متواصلة وسجال محتدم حول الاتفاقية الأمنية المزمع عقدها بين العراق وأمريكا في هذا العام. ورغم أن مسودة الاتفاقية هذه لم تنشر بعد، إلا أن معظم كتاب هذه المقالات شنوا عليها هجوماً عنيفاً مع اعترافهم بعدم إطلاعهم عليها. وفي أحسن الأحوال، يتظاهر البعض منهم أنهم يعتقدون أن هذه الاتفاقية مضرة لأنها مثيرة للجدل والاختلاف، وأنها واسطة أخرى لتفريق شمل العراقيين.

وقد تكرمت علينا صحيفة الاندبندنت اللندنية، المعروفة بمواقفها المناهضة لتحرير العراق والإدارة الأمريكية، تدشين هذه الحملة المعادية للاتفاقية، بنشر تقرير عن بعض بنودها، في عددها الصادر يوم الخميس 5/6/2008. وكالعادة في مثل هذه الحالات، ادعت الصحيفة أنها حصلت على المعلومات من مصادر دون الكشف عنها. ثم تلت الصحيفة تقريرها بعد يوم بمقال لأحد محرريها البارزين وهو باتريك كوكبرن، ادعى فيه أن الاتفاقية تخول أمريكا إقامة خمسين قاعدة أمريكية، ومن حقها اعتقال مواطنين عراقيين دون مراجعة الحكومة العراقية، وأن جنودها ومقاوليها يتمتعون بالحصانة. وإذا لم توقع الحكومة العراقية على هذه الاتفاقية فإن أمريكا ستعاقب العراق بمصادرة ما له من واردات النفط في بنوكها في نيويورك، والتي تقدر بـ 50 مليار دولار، وأن العقوبات التي اتخذها مجلس الأمن الدولي ضد العراق إبان حكم صدام حسين ستبقى فاعلة وفق البند السابع من قرارات الأمم المتحدة. كما ونشر الدكتور علي علاوي في نفس الصحيفة مقالاً، مع اعترافه بعدم إطلاعه على الاتفاقية، أدعى أنها تهدد استقلال العراق وسيادته الوطنية، لأنها تشبه، على حد قوله، معاهدة عام 1930 التي أبرمتها بريطانيا مع الدولة العراقية، والتي أثارت الصراعات بين القوى السياسية وتسببت في عدم الاستقرار السياسي في العراق منذ ذلك التاريخ.

والجدير بالذكر أن المسؤولين الأمريكان نفوا نفياً قاطعاً ما جاء في تلك التقارير، حيث قال السفير الأمريكي في العراق ريان كروكر: "أن إدارة بوش لا تسعى إلى إقامة قواعد عسكرية دائمة في العراق. ونفى أن يكون الاتفاقات التي ينوي توقيعها مع الحكومة العراقية هذا العام تهدف إلى وجود عسكري أمريكي دائم في العراق، وقال ان الوجود العسكري الأمريكي في العراق "لن يكون أبديا، وأن الاتفاقات التي يريد توقيع واحدة منها في يوليو القادم وواحدة بنهاية العام ستكون متاحة للرأي العام ولن يكون عليها أي قيود خاصة بالسرية." (
تقرير موقع bbcarabic.com، في 6/6/2008).

والأهم من كل ذلك، أن الجهة التي تقود جوقة المعارضة، وتصعِّد الصراخ والعويل ضد هذه الاتفاقية هي إيران بعد أن أعطت الإشارة إلى أقدامها الاخطبوطية الممتدة في البلاد العربية، جيش المهدي في العراق، وحزب الله في لبنان، وحماس في غزة. فقد أصدر مقتدى الصدر، أمراً إلى أتباعه من جيش المهدي بالقيام بمظاهرات صاخبة في المدن العراقية بعد كل صلاة جمعة، احتجاجاً على الاتفاقية. كما وشن السيد حسن نصر الله، زعيم حزب الله اللبناني، هجوماً عنيفاً على الوجود الأمريكي في العراق ودعا العراقيين بدعم "المقاومة الوطنية" وطرد الأمريكان من بلادهم. وأما السيد علي خامنئي، المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران، والولي الفقيه الذي ترقى أوامره إلى أوامر إلهية فقد "... ابلغ رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أن المشكلة الرئيسية التي تواجه العراق هي الوجود الأمريكي ووجود القوات الأجنبية الأخرى على الأراضي العراقية."

وكالعادة في مثل هذه الحالات، دخلت وسائل الإعلام العربية على الخط، فهي الأخرى ضد الاتفاقية ولأسباب مختلفة، ورغم جهلها ببنودها، لكنها رأت في الاتفاقية أنها تمس السيادة الوطنية العراقية، رغم أن معظم الدول العربية ترتبط باتفاقيات مماثلة مع أمريكا، بل وحتى لها علاقات دبلوماسية واقتصادية مع إسرائيل. كما ولأمريكا في بعض هذه الدول قواعد عسكرية، ولكن ما أن يتعلق الأمر بالعراق حتى وتزلل الأرض، وترعد السماء وتمطر دماً، بكاءً على السيادة الوطنية العراقية.

فهل كل هذه الادعاءات والحملات المعارضة صحيحة، أم الغرض منها تهييج الرأي العام العراقي والعربي والعالمي، الغرض منها خلق المزيد من الصعوبات ووضع العراقيل أمام خروج العراق من مأزقه بعد تحريره من أبشع نظام همجي عرفه التاريخ؟

فمن قراءتنا لتصريحات الأمريكان أن أمريكا حريصة على سيادة العراق ومساعدته، فهي التي سعت لدى الدول الدائنة بإسقاط ديونها على العراق. وإدارة جورج بوش تواجه الآن حملة معادية ضارية من مرشح الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية، براكا أوباما، يتهم فيها إدارة بوش بأنها تبدد شهرياً 12 مليار دولار من أموال الشعب الأمريكي لإعمار العراق، وأنه، أي (أوباما) يريد استعادة هذه الأموال لدعم الاقتصاد الأمريكي المأزوم.

موقف الحكومة العراقية من الحملة ضد الاتفاقية
إلى جانب هذه الافتراءات على الاتفاقية التي لم يطلع على تفاصيلها أحد بعد، صرح الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية الدكتور على الدباغ على ذلك كله بالقول: «ان ما يدور من حديث في الداخل والخارج عن الاتفاقية لا يعكس موقف المفاوض العراقي الذي يحرص كامل الحرص على عدم التفريط بأي حق من حقوق العراق والعراقيين».
كما وأكد نائب رئيس الوزراء العراقي برهم صالح، في تصريحات أدلى بها لقناة تلفزيون العربية الفضائية، "أن الاتفاقية الاستراتيجية طويلة المدى المزمع إبرامها مع الولايات المتحدة لن تعطي القوات الأمريكية في العراق حرية الحركة وإن أي تحرك لهذه القوات لن يكون إلا بموافقة السلطات العراقية." ومضى إلى القول "هذا شيء أستطيع أن أؤكد عليه دون تردد، لن يكون هناك حرية مطلقة للجانب الأمريكي في تحريك قواته كيفما يشاء." (
موقع عراق الغد، 6/6/2008). وكذلك أكد رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي إثناء زيارته لإيران أن العراق سوف لن يكون منطلقاً ضد دول الجوار.

كذلك نعرف من تاريخ العلاقات الأمريكية مع الدول التي أقامت معها أمريكا مثل هذه الاتفاقات، أنها لم ترغم أي من تلك الدول على التوقيع، وإذا ما وقعت هذه الدولة أو تلك اتفاقية معها ثم طالبت فيما بعد بإلغائها فتستجيب أمريكا لرغبات تلك الدولة، كما حصل مع فرنسا في عهد ديغول مثلاً. كما ونعرف أن تركيا التي هي عضو في حلف الناتو، رفضت السماح لأمريكا استخدام أراضيها في شن الحرب على نظام صدام حسين عام 2003، واحترمت أمريكا قرار تركيا.

إذنْ لماذا كل هذه الضجة ضد الاتفاقية؟
يقول المثل "إذا عُرِفَ السبب بطل العجب!" قلنا أن المعترضين على الاتفاقية ليسوا أجانب فقط، بل وحتى من قبل بعض العراقيين. فلماذا يعترض العراقيون على الاتفاقية؟ لا نستغرب أن يعارضها فلول وأنصار البعث الساقط، ولكن الغريب هو أن من بين المعترضين عراقيون نتوسم فيهم الحرص على مصلحة بلادهم. فما هو سبب ذلك؟
السبب هو أن العراقيين قد أدمنوا على معارضة الحكومة حتى ولو كانوا جزءً من هذه الحكومة، وما حصل لما يسمى بالتيار الصدري، وحزب الفضيلة وجبهة التوافق وقائمة العراقية، ودورهم في شل الحكومة رغم أنهم كانوا مشاركين فيها، لدليل واضح على ذلك. ولم تستطع الحكومة القيام بوظائفها المطلوبة إلا بعد خروج هؤلاء منها. فمنذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 بدأ العراقيون معارضتهم للحكومات المتعاقبة في جميع سياساتها، سواءً كان ما تقوم الحكومة به في صالح الشعب أو ضده. ومعاهدة عام 1930 مع بريطانيا أفضل مثال، حيث وصفها معارضوها بأنها معاهدة إسترقاقية، الهدف منها استعباد الشعب العراقي، وجعل العراق قاعدة عسكرية بريطانية ضد الاتحاد السوفيتي. وبعد زوال العهد الملكي ودخول العراق في نفق مظلم على أيدي التيار القومي العروبي، راح أولئك الذين شتموا نوري السعيد وسياساته، يذكرونه اليوم بالخير، ويصفونه بالداهية، وأن تلك الاتفاقيات التي أبرمها السعيد مع بريطانيا كانت في صالح العراق. ولكن المفارقة أن أولئك الذين يثنون على نوري السعيد والاتفاقيات التي أبرمها، هم أنفسهم عادوا إلى لعبتهم القديمة، فيعارضون اليوم الاتفاقية الأمنية المزمع عقدها مع أمريكا رغم تشبيههم لها بمعاهدة عام 1930. ونستنتج من كل ذلك أن هناك شريحة من العراقيين، مدمنين على معارضة الحكومة، والعداء للغرب وبالأخص الدولة العظمى، في كل شيء وفي جميع الأحوال، وحتى لو كان هذا الشيء في صالح الشعب العراقي.

أما اعتراضات إيران على الاتفاقية، فهي الشهادة على أن الاتفاقية في صالح العراق، فلو كانت ضد العراق لصفقت لها إيران وكل الدول العربية. السبب هو أن حكام إيران ومعظم الدول العربية، يريدون العراق أن يبقى ضعيفاً ومفتتاً لا تقوم له قائمة، يستطيعون هم أن يعيثوا به كما يشاؤون. لذلك عارضوا الحرب على نظام صدام، وفضلوا بقاءه في الحكم ضعيفاً مقلم الأظفار والأجنحة على إسقاطه وإقامة دولة عراقية حديثة ديمقراطية. وهذا هو السبب الذي جعل حكام إيران وسوريا يفقدون صوابهم ويعملون كل ما في وسعهم لإفشال العملية السياسية في العراق، رغم تصريحاتهم الكاذبة أنهم يريدون استقرار العراق وازدهاره.

مبررات الاتفاقية
ليس خافياً على أحد، أن لأمريكا قواعد عسكرية في أكثر من سبعين دولة في العالم، وهذه الدول هي المستفيدة من هذه الاتفاقيات مع أمريكا. فالعراق الآن يمر في دور النقاهة بعد العملية الجراحية الكبرى لاستئصال السرطان البعثي على يد الجراحين الأمريكيين والبريطانيين. وما زال يمر في مرحلة بناء مؤسسات الدولة، وقواته المسلحة مازالت في طور التكوين، فما زالت أراضيه ساحة لعبث الإرهابيين من أتباع القاعدة وفلول البعث الساقط، وعصابات الجريمة المنظمة، ويحتاج إلى وقت طويل ليتعافى وينهض على قدميه كدولة ديمقراطية قوية تعتمد على قواها الذاتية في حماية أمنها الداخلي وحدودها من العدوان الخارجي.

فنحن نعرف ما تريده إيران وتركيا من العراق، إذ هناك تاريخ من العدوان يمتد إلى خمسة قرون عندما اتخذت الدولتان، إيران الصفوية، وتركيا العثمانية، من العراق ساحة لحروبهما واستعماره على التناوب لقرون، وإثارة الفتن الطائفية فيه. فالعراق مهدد من قبل هاتين الدولتين الآن كما كان مهدداً في السابق، إضافة إلى أطماع دول الجوار الأخرى مثل سوريا البعثية. ولهذا فمن مصلحة العراق أن يرتبط باتفاقية أمنية مع الدولة العظمى، أمريكا، لحمايته من أعدائه التاريخيين والجدد.

ومما يجدر ذكره في هذه المناسبة، أن كتب عالم الاجتماع ورئيس مركز ابن خلدون، الدكتور سعد الدين إبراهيم، قبل أسابيع، مقالاً يدافع به عن وجود أكبر قاعدة أمريكية في دولة قطر. وسبب تبريره لوجود هذه القاعدة، هو أن قطر دولة صغيرة مهددة بدولة كبيرة مجاورة وهي إيران التي احتلت الجزر العربية الثلاث عام 1971. لذلك فمن الحكمة أن تقيم قطر علاقة دفاعية ضامنة لأمنها مع الدولة العظمى أمريكا والسماح لوجود أكبر قاعدة عسكرية أمريكية على أراضيها، وليس هناك خيار آخر. وعليه نقول للأشقاء العرب، أن ما تجيزوه لدولة قطر، فمن النفاق أن تحرموه على العراق، فالعراق هو الآخر مهدد من قبل دول الجوار، وليس لديه خيار آخر سوى عقد اتفاقية أمنية مع الدولة العظمى.

من المستفيد الأكثر من الاتفاقية؟
وبناءً على ما تقدم، نعتقد أن أية اتفاقية مع أمريكا لا بد وأن تكون في صالح العراق، والعراق هو المستفيد الأكثر من هذه الاتفاقية، لأن المسألة تتعلق بوجود وسلامة العراق كدولة ديمقراطية حديثة تستطيع مواكبة الطور وتتبني الحداثة، وحتى لو كان من بنودها إقامة قواعد عسكرية في العراق. فمنذ الحرب العالمية الثانية، صارت القضايا الأمنية والاقتصادية لها الأولوية في حياة الشعوب، وخاصة في عصرنا الحاضر، عصر العولمة. هناك حساسية مفرطة لدى العراقيين والعرب حول السيادة الوطنية. فأية سيادة كانت للعراق في عهد الجلاد صدام حسين؟ ألم يضطهد هذا الجلاد الشعب العراقي وتحت ظل هذه السيادة المزيفة، حيث جعل العراق البقرة الحلوب للملايين من الأجانب الذين جلبهم إلى العراق، واحرق العراقيين في محرقة حروبه العبثية، وحرمهم من ثرواتهم، وشرد خمسة ملايين منهم في الشتات؟

خلاصة القول، لأمريكا قواعد عسكرية في أكثر من سبعين دولة، ومن بينها اليابان وألمانيا، وحتى بريطانيا العظمى، دون أن تتأثر السيادة الوطنية لأي من هذه الدول، لأن هذه الاتفاقيات مبنية على أسس المصالح المشتركة. لذلك نهيب بالعراقيين من جميع انتماءاتهم ومشاربهم، أن ينتبهوا إلى ما يحاك ضدهم من لعبة قذرة، وأن لا ينخدعوا بالشعارات الخلابة الخادعة الفارغة التي أكل الدهر عليها وشرب، وأن لا يُلدَغوا من جحر عشرات المرات، فقد كفاهم الخداع والضحك على الذقون. لقد نجح أعداؤهم في تضليلهم في الماضي، وجروهم إلى صراعات دموية فيما بينهم، وتدمير وطنهم تارة باسم السيادة الوطنية، وتارة باسم القومية العربية، وأخرى باسم محاربة الاستعمار. يجب على العراقيين أن لا يفرطوا بمصلحة وطنهم في سبيل مصلحة إيران وسوريا باسم العداء لأمريكا، وأن لا يتأثروا بما يبثه الإعلام العربي والأجنبي من سموم. فالاتفاقية الأمنية العراقية-الأمريكية هي في صالح العراق، وليس فيها أي ضرر على العراق، بل هي فرصة ذهبية وضرورة تاريخية يجب عدم التفريط بها.









 


 

free web counter