| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

كمال يلدو

 

 

 

الثلاثاء 2 / 7 / 2013

 

بعد 50 عاما على الجريمة :

انصافا لشهداء "تلكيف" وعوائلهم

إعداد : كمال يلدو 

تمر الأيام والأعوام، وتخضّر اشجارا بينما تشيخ اخرى، تنمو مدنا وتختفي مدن، ويسلك الماء في مجراه ناحتا وراءه رموزا وحكايات عن اراض قطعها ومدنا زارها. هكذا هي دورة الحياة وذكرياتها، حدث مار وحدث باق، جرح يندمل وجرح نازف، وقد لا يكون للحكاية ضجيجا عارما ان كانت قد اتت على دار او مدرسة او قرية او شارع عام، فكثيرا منها قابل للتعويض، الا الأنسان! هذا الذي قال عنه كارل ماركس يوما انه "أثمن رأسمال".

وفي تقويمنا الحالي، وبمرور الثاني من تموز للعام 2013 يكون قد انقضى 50 عاما بالتمام والكمال على ذلك الثلاثاء الكئيب من عام 1963 وبالذات في مدينة "تلكيف" التابعة للواء الموصل (محافظة نينوى) حاليا.

في تلك الصبيحة، كان على سكان البلدة، رجالا ونساءا، شيبا وشبابا، من كل الأعمار، ان يحضروا احد اعراس (الحرس القومي) الأكثر دموية في تأريخها، الا وهو اعدام 6 من خيرة شبابها، في ساحة المدينة الرئيسية وأمام انظار اهاليهم، لا بل ان المشهد، وبغية اشباع سادية القائمين عليه كان يجب على اهالي الضحايا ان يصفقوا ويلعنوا الشهداء، هكذا وهم احياء يقادون للمشانق امام انظار الكل، مشهد يصعب على الذاكرة اركانه جانبا، لأنه سيؤرخ لاحقا لمسيرة شاقة كان على اهالي (تلكيف) دفع فاتورتها من خلال الأهانات او الأذلال او القمع والأعتقالات وحتى التشريد ولاحقا اختيار الغربة ملاذا من تلك اللعنة.

تعود بنا الأحداث الى آذار من العام 1959 حين قاد العقيد عبد الوهاب الشواف مؤامرة للأطاحة بحكم الزعيم عبدالكريم قاسم منطلقا من محافظة الموصل كبداية. وحينما توجه قاسم وقادة الثورة معه ووسائل الأعلام للجماهير في حماية الثورة والأنقضاض على الأنقلابيين، فقد كان لمدينة "تلكيف"، والوطنيين من ابنائها - سوية مع مدنا ومحافظات اخرى - دورا كبيرا في تحشيد المواطنين وضرب طوق امني حول الموصل، ليحصلوا بعد ذلك على وسام الكره والحقد من اعداء ثورة 14 تموز والبعثيين والقوميين والأقطاع الذين تضرروا من قوانين الثورة. هذا الغليان الشعبي، وفشل حركة الشواف كان بمثابة بركان صعب السيطرة عليه، ليعيد تكرار اخطاء تحملها الوطنيون الشرفاء وقادة ثورة تموز ايضا، تمثلت اما بالعفوية وترك زمام المبادرة بيد العامة (الأغلبية)، او من خلال اندساس اعداء الثورة وقيامهم بجرائم احتسبت على الثورة لاحقا.

في يوم 9 آذار من عام 1959، كان راديو الجمهورية العراقية يبث بيانات تشجيعية للمواطنين يطالبهم بدحر حركة الشواف التي شارفت على نهايتها، ويطالب بالأقتصاص من اللذين ايدوا المؤامرة، من اشخاص مدنيين وعسكريين وقادة عشائر، صادف ان مر في مدينة تلكيف الحاكم امجد المفتي ومرافقه عمر الشعار، وهم من اهل الموصل وكانوا افتراضا محسوبين على ملاك حركة الشواف، وتنفيسا عن احتقان قديم لأهالي تلكيف مع السيد المفتي، فقد حاصر العديد من شبان البلدة سيارتهم، مما اضطره للجوء الى مركز شرطة المدينة وطلب حمايتهم من الجموع الغاضبة. ولم تنفع دعوات التهدئة، بل على عاليا صوت الأنتقام والثأر، فما كان من مدير المركز الا ان دبّر عملية تهريبهم خلسة عبر الطريق الترابي الذي يربط "تلكيف" بالموصل، وهنا حدث ما لم يكن في البال، الرواية الأولى تقول : ان سيارتهم تعطلت في الطريق الترابي، فوصل اليهم بعض المحتجين، والرواية الثانية تقول : انهم اوقفوا من قبل سيارة اخرى ترجل منها بعض الشبان الذين انقضوا على المفتي والشاعر وقتلوهم ومثلوا بجثثهم ثم احرقوا السيارة ولاذوا بالفرار. هكذا تمت الجريمة.

لكن السلطات الرسمية كانت مطالبة بالكشف وألقاء القبض على (الجناة) أو (القتلة)، فجاءت عملية الأنتقام من ابرز القادة السياسيين والوطنيين وحتى المستقلين في المدينة، والذين القي القبض عليهم في ايلول من العام 59، فقدموا للمحاكمة وصدرت بحقهم احكاما بالأعدام شنقا حتى الموت بتهمة قتل السيدان المفتي والشعار وهم كل من : (1- ابراهيم داوود - معلم - من مواليد 1930)  (2 - كوركيس داوود - سائق سيارة - من مواليد 1928)  (3 - بحـي دويا جربوع - قصاب - من مواليد 1940)  (4 - بطرس زيا بـزي - عامل في مقالع الحجر - من مواليد 1930) (5 - حنا مايس - قديشا - فــلاح - من مواليد 1925) (6 - ميخائيل ججو شنكو - معلم - من مواليد 1937).

        

                                بحـي دويا جربوع                                     بطرس زيا بـزي

        

                                  حنا مايس - قديشا                                         كوركيس داوود


ابراهيم داوود

اما الأثنان الآخران فكانا كل من : بحـي بـزّي، وسالم جميل شقيق الشهيدان ابراهيم وكوركيس ، حيث كانت اعمارهما اقل من سن 18 اذ خففت محكوميتهما الى 15 عاما، ثم افرج عنهما بعد سنتين وأكثر في المعتقل.

منذ الأيام الأولى للحادثة وما تلاها من تداعيات، اختلف اهالي "تلكيف" حولها اختلافا عموديا يصل احيانا الى حد التعصب. فقوم يقول انهم ضحايا وآخر يقول انهم شقاة، بعضا يحملهم تبعات تطرفهم السياسي والآخر يحمّل الطرف الآخر (المفتي والشعار) تبعات الأهانات الدائمة لأبناء تلكيف، قسم يعتز بهم كأناس وطنيون قضوا في قضية لفقت لهم تلفيقا، والقسم الآخر يعتقد انهم استحقوا ما جنته اياديهم، فهم عرضوا تلكيف لأخطار الأهانات والأستباحة والتمييز العنصري، مما حدا بمعظم اهاليها الى هجرتها والنزوح للمحافظات العراقية الأخرى، لا بل حتى لمغادرة العراق وسكن الغربة. لكن ومهما تكن وجهات النظر تلك (مع او ضد)، فأنها تبقى محترمة حينما تجتمع في فضاء عادل ومنصف ويعطي كل ذي حق حقه. فلا (امجد المفتي وعمر الشعار) كانا يستحقان هذا القتل الشنيع على يد مجموعة من المتهورين، ولا تلبيس الجريمة لهذه المجموعة وتعريضهم لشتى انواع التعذيب والبطش على مدى 4 سنوات ومن ثم تنفيذ حكم الأعدام بهم والأنتقام من اهاليهم ومن ثم الأنتقام من اهالي القضاء لاحقا كان منصفا، ان لم أقل انه كان تطبيقا للأنتقام الجماعي لجريمة قتل المفتي ومساعده. اما الأمر الآخر فيما يتعلق بهذه الحادثة وتبعاتها وهي عملية الخوض في السياسة، فما زالت بعض الأصوات تداعي بالتخلي عنها وتركها للسياسيين، نازعين عنهم حق مشروع كفلته القوانين والدساتير، حتى وأن لم يكن موجودا اليوم، فسيأتي اليوم الذي يمارسه كل ابناء الوطن، اذ لابد من بداية، ولو اردت الغور اكثر في هذا الموضوع فيطرح السؤال نفسه بألحاح : ماهي مقومات الآخر حتى اتنازل بالسياسة له ؟ ها هي الخارطة السياسية امام الكل، ولتكشف الأوراق وليعلم الجميع، عن من خان الوطن او باعه للغريب او ورطه في حروب كارثية، عن من يسرق الوطن في النهار او يريد تقسيمه الى قطع وكانتونات، هل هؤلاء هم من نأتمن لهم، ام من حقنا، نحن كما لغيرنا ان نمارس السياسة ونبقي ايادينا نظيفة !

لقد عرفت "تلكيف" العمل الوطني مبكرا، كما كان باع ابنائها وبناتها طويلا في حركة التحرر العراقية، والحركة الثقافية والفكرية والأدبية والأنسانية والمعرفية، ولعل الأسماء كثيرة لمن يريد الخوض فيها، وربما كان الأستاذ (سيار الجميل) وغيره، واحدا من الرواد الذين ارخوا لهذه المرحلة وهذه الأسماء، لكن ومما لاشك فيه، وأمر لا جدال حوله، بأن هذه الحادثة قد وضعت اسم "تلكيف" على خارطة السياسة العراقية المتقلبة سيما وأن هناك عواملا كثيرة تظافرت لذلك، ولعل ابرزها : ان تلكيف قضاءا ذو اغلبية مسيحية يعود اداريا الى لواء الموصل ذو الأغلبية السنية، وذات التوجه (على العموم) القومي والذي لم يتفق مع ثورة قاسم او نشاط وجماهيرية الحزب الشيوعي، وثانيا كانت "تلكيف" من المدن المفاجئة للكثيرين في مستوى تنظيمها الحزبي او المهني وتأييدها الحار لثورة تموز وقاسم وللشيوعيين، مما مهد لها ان تكون في طليعة القرى والقصبات الشمالية ذات الغالبية المسيحية ونموذجا قياديا لها، لا بل ان هذا الأمر انعكس (سلبا او ايجابا) لاحقا في تسمية كل المسيحيين ، ومن شتى القرى والقصبات ب "التلكيفي"، اما تيمنا بما امتلكته هذه المدينة من شهرة، او تسهيلا لعملية الأقتصاص او الأهانة المتعمدة. لقد تقلدت مدنا عراقية كثيرة شهرتها بالعمل السياسي الوطني او الرجعي، في مقاومة المحتل او الأنقضاض على الثوار والوطنين، في تخريج القتلة والمجرمين او المناضلين والأبطال، لكن عواملا تأريخية ومذهبية وقفت بالمرصاد في تقلد "تلكيف" سمعتها الوطنية في حماية الثورة او محاربة قوى الردة في الموصل. اما لمن تسعفهم الذاكرة فلعل التذكير بالثمن الباهض الذي دفعته المدينة وأهاليها قد ينفع لمن يهمهم انصاف الناس الوطنيين، تأتي في المقدمة منها : حالة الترقب والهلع بعد جريمة اغتيال المفتي والشعار، وتعرض الكثيرين للأعتقال او الضرب، والمشهد الثاني كان عرس الدم البعثي في 2 تموز 1963، وثالثا كانت حملة التشهير والأنتقام اثر قيام السيد (منير روفا) باللجوء الى اسرائيل مع طائرته، ورابعا كان عرس الدم البعثي بصيغته المستحدثة عام 1969 بأعدام مجموعة من ابناء تلكيف والقرى الأخرى فيما سمي آنذاك ب (شبكات التجسس لأسرائيل).

كان من الممكن لهذه الذاكرة ان تستريح وتنسى وأن تجعل من الماضي ماضيا، لكن استحقاقات الحياة تطالب بالأنصاف، تطالب بكشف الحقائق للناس، وأن يعي المواطن – ايا كان – بأن ثمن الموقف السياسي الوطني يجب ان لا يكون قتلا وذبحا وأرهابا، وأن لا يكون تهميشا وتجريحا وأهانة ، وأن ترتقي ذاكرة العراقيين الى مستوى احترام الرأي والرأي الآخر وأن يأخذ القضاء مجراه في العدالة وأن تجـّرم اعمال الأنتقام الجماعي او الأقصاء الجماعي تمهيدا لعقد الصلح فيما بين العراقيين انفسهم، حينما يعرفون بأن ما من قوة تستطيع اعادة الحياة لموتاهم اكثر من قوة التآخي ومحبة الوطن! تلك القوة التي يخافها تجار الدين والقومية الشوفينية، تجار القتل والسلب والنهب والحروب.

خمسون عاما، وكأنها مرت بسرعة البرق، ولعل من المصادفات ان يتزامن يوم الثاني من تموز عام 2013 يوم ثلاثاء، تماما مثل ثلاثاء 2 تموز عام 1963، فيا لها من مفارقة. ان الكتابة عن هذه المناسبة ربما تمثل عرفانا للشهداء الأبرياء الذين قضوا ولم تسمح السنين نتيجة تبوء الأنظمة الرجعية سدة الحكم على مدى النصف قرن الماضية لكشف الحقائق، وهو ايضا تضامنا مع اهاليهم، مع عوائلهم وأبنائهم وبناتهم، ودعوة لمجتمعنا ان يتملك تلك الروح السامية في احترام مبدأ الشهادة وتقدير رواده ، لا بل ان يتحلى بالشجاعة ويطالب بأعـادة الحق لمستحقيه حتى وأن كان في فتح ملف اغتيال الضحيتين (المفتي والشعار) مجددا، ليس ترفا بل انصافا للضحايا. ولعل من نافلة القول، ان قاعدة انسانية قد جرى تجاوزها في هذه الحادثة او غيرها، حينما يصر البعض على معاقبة الضحية مرة، او مرتان او ثلاث، فيما يمنح الجاني شـــيك البراءة بدعاوي واهية ، وكأن ابناء هذا الشعب يجب ان يكونوا خارج دائرة العمل السياسي او الوطني، المسجل (حسب رأي البعض) بأسم الطرف الآخر، الأقوى او الأكثر قابلية على القتل والتدمير!

اما اللقاء ببعض من اهالي الشهداء، واعادة تقليب الأوراق والذكريات والحوادث، فمن المؤكد انه سيمنح رحلتنا هذه طعما آخرا، رغم ما لها من مرارة في حديث وذكريات الشهود.

السيدة "أميرة"
زوجة الشــهيد بحـــي جربوع

"كيف لا اتذكر اليوم ؟" تقول اميرة وهي كانت عروسا لعامين فقط، وأما لفتاتين جميليتين، يوم اخذت الشرطة منها حبيبها وزوجها مرة وللأبد في ايلول 1959. لم تكن رحلة ال 54 عاما سهلة ابدا، اقولها صراحة. لقد نلت قسطا صغيرا من التضامن لكن معاناتنا كانت اكبر، ان كان داخل العائلة الكبرى (العشيرة) او حتى من المجتمع بصورة عامة، فقد كانوا ينظرون اليهم على اساس مجرمين قتلة، بينما هم مناضلون سياسيون، وعلاوة على ذلك، فقد كان زوجي الشهيد "بحي" بطلا من ابطال الساحة والميدان ويشار له بالبنان. تنوعت زياراتنا له في السجون، انا وألمرحومة امه وأحيانا كنت اصطحب بناتنا ايضا. لقد فرحنا كثيرا بتخفيض حكم الأعدام الى المؤبد ، ثم الى 15 عاما، وقيل لنا بأنهم سينالوا حريتهم في يوم 14 تموز 63، اليوم الذي لم يأت ابدا!

في يوم الأثنين 1 تموز 63 كنا في بغداد لغرض الزيارة (المواجهة) فقالوا لنا انهم رحلوا الى الموصل، فعدنا في اليوم التالي، ولما كانت سيارة النقل تقترب من "تلكيف" شاهدت افواجا من الناس، ومن بعيد لمحت ايضا مقاصل الشنق، لم استطع ربط المشهد، فتوجهت للجموع ، وأذا الجريمة كانت قد انتهت فصولها، وأعدموا ودفنوا!

ولأني لم الحق بهم وهم يساقون للموت، فقد ظل الشهيد يبحث عني بين الجموع، ثم نادى على شقيقه وطلب منه اعطاء (حلقة الزواج) لــي وأن يقبل ابنتي (وفاء وكفاح) بدلا عنه. تصور، هذا المشهد الحزين والمربك حتى في ممات هذا المناضل الصلب. لم يكتف البعثيون بهذه الجريمة الصلفـة بل عاقبوا اهالي القرية الذين شيعوهم الى مثواهم الأخير، وحين أقام الأبوان (سليمان دنحا وروفائيل كنو) مراسيم وصلاة الموتى، تعرضوا للضرب والأهانة ، فيما اعتقل بعضا من المواطنين عقب ذلك ايضا.

لم تكن رحلتنا اللاحقة سهلة، لكن اشكر موقف عائلتي التي احتضنتني وبناتي وساعدتني في تربيتهما. وبعد ســنين في الغربة، تيسرت لي الفرصة من جديد ان ازور العراق، و"تلكيف" بالذات. وقفت على قبره، حيث رفاته الزكية، وجددت له حبي وأحترامي ، وأخذت من تلك التربة حفنة (صـّم تراب) وجلبتها لبناتي، ففيها شيئا من ابيهم ووطنه الذي ضحى من اجله. لقد لازمتني صورته وصوته وذكرياته طوال حياتي، ولم يغب يوما. كنت ومازلت دائمة الحديث له، في مشهد يصعب على احد تخيله، انه دائم الحضور ، وأستعين به كثيرا في مواجهة صعوبات الحياة.

أشعر بالفخر ان زوجي مات وطنيا مناضلا بطلا، نظيف اليدين والسيرة والسمعة، وأدعو السياسيين اليوم الى انصاف هذا الفصيل من الشهداء، شهداء انقلاب البعث عام 63 ورفع الغبن عنهم وأعادة الألق الى اسمائهم وعوائلهم، كما لا يسعني الا ان اشكر الوطنيين والشرفاء الذين يشاركونني كل عام في الأحتفال بيوم الشهيد، فرغم مرارتها، لكنها تبقى حلوة بعيوني.

السيد ســالم جميل
الشقيق الأصغر للشهيدين ابراهيم وكوركيس داوود

"ان واحدة من اهم المآخذ على حكم الزعيم كانت في تعطيل الحياة الدستورية ووضع البلاد تحت سلطة المجالس العرفية، هذه التي كان يلجأ اليها الحكم الملكي ولفترة وجيزة جدا. هذه المجالس وعلاوة على شكلها وأحكامها الصورية، الا ان اعداء الثورة والشيوعية عرفوا كيف يتسلقوها وينتقموا عبرها من اخلص الناس المدافعين عن ثورة 14 تموز".

"لم تكن اوضاع تلكيف طبيعية عقب مقتل السيدين "امجد المفتي وعمر الشعار" وكان مدير المركز مطالب بتحديد هوية المتهمين أو الجناة. وهكذا تم تشخيص اهم القيادات الحزبية والمهنية في المدينة وألقي القبض عليهم وسيقوا للتحقيق في ايلول من العام 1959، وبين التعذيب والأستجواب صدرت الأحكام يوم 1/1/1960 بالحكم شنقا بحق 6 من ابناء تلكيف، بينما خففت الأحكام علـّي وعلى السيد بحي بزي بسبب عمرنا الذي كان يبلغ ال 16 عاما".

"جرت حملات غير قليلة لأطلاق سراحنا، تكللت بأطلاق سراحي بعد ان احتسبت فترة التوقيف والمراحم، الأ ان الشهداء كان بالأمكان ان يفلتوا من مصيرهم لو ان القاضي كان قد احتسب فترة التوقيف، اذ بقوا في السجن لفترة أطول ثم حدث انقلاب 8 شباط وكانت اعادة المحاكمة ومن ثم الأعدام.

لقد سمعت بأعدام اشقائي ورفاقهم بينما كنت في السجن بعبادان، بعد ان هربت من العراق ووقعت بيد الأيرانيين، فكان الخبر من مذياع في صالة السجن".

"في حادثة فريدة، زار تلكيف عضو لجنة العدالة السيد ابراهيم الطويل، سوية مع السيد شمس الدين عبدلله رئيس المحكمة، وطلب منه الصعود الى سطح المركز، وألقاء نظرة من هناك على موقع الجريمة وسأله : هل ترى مكان حصول الجريمة ؟ اجاب شمس الدين : لا، قال له اذن، كيف تمكن مدير المركز ان يشهد على كل هؤلاء ويقول انهم هم الجناة! ان هذه الحادثة وغيرها تثبت بأن التهم جرى الصاقها بالمتهمين، كلهم او بعضا منهم، ولم يكن هناك شاهد اثبات، بل هي انتقام من المناخ السياسي الذي ساد المدينة وأنحيازها لجانب ثورة 14 تموز ، ونشاط المنظمات المهنية فيها، حتى وصلت نسبة مكافحة الأمية فيها الى 95% بفضل جهود الطلبة والشبيبة ورابطة المرأة والجمعيات الفلاحية."

" اني اعلم بأن هناك اناسا تضامنوا معنا ومع عوائلنا، بينما هناك اخرين كانت مواقفهم العكس. أفهم ان قسما كان بسبب انتمائهم للبعث، ولكن نسبة غير قليلة ساقها الخوف الى هذه المواقف. لم يألف البعض ان تنتفض مدنا صغيرة، وبأغلبية غير مسلمة وتأخذ زمام المبادرة في بلد مثل العراق."

"وبالعودة الى سني التوقيف والسجن وصدور احكام الأعدام، فقد سؤلت مرات ومرات، انا والشهداء عن القاتل الحقيقي، وكنت ارد عليهم، بأننا لسنا نحن القتلة. وهكذا توصلت الى قناعة بأن محاكمتهم كانت محاكمة بسبب انتمائهم السياسي وليس بسبب الجرم الذي اتهموا به"

"في العراق، وفي بلاد الغربة، لم تكن هذه التجربة بالسهلة عليّ او على عائلتي. فقد دفعنا ثمنا كبيرا، ومن جانبي فأني اسعى وكلما اوتيت لي الفرصة بالحديث عن تلك الحادثة والأشادة بالشهداء وبسيرتهم وسمعتهم الوطنية النظيفة. كتبت بعض القصائد الشعرية عنهم، وظهرت في برامج محلية اذاعية وتلفزيونية في ذكرى استشهادهم، ولابد لي من تقديم الشكر لكل من تضامن معنا او من ترحم على الشهداء، الذين قضوا على يد عصابة اثبت التأريخ بأنها كانت معادية لمصالح العراق والعراقيين."

"اليوم، وأنا على اعتاب السبعين من عمري، وبعد تلك التجربة والتجارب المرة والحلوة، اعتز بهذا الرعيل الوطني، ومنهم اشقائي. لقد ضحوا بحياتهم من اجل غيرهم، ولم يكن لهم اية مصالح شخصية من عملهم الوطني، لم يكونوا يبحثوا عن المال او السلطة. اني اعدهم ابطال، عظماء، مثقفين، شجعان وشهداء من اجل الوطن."

يقول الكاتب البريطاني جورج أليوت:" ان موتانا لن يعودوا موتانا ابدا، حتى اللحظة التي ننساهم بها!"

كلمة لابد منها : اتقدم بالشكر للسيدة (م،آ) والسيد (ك،ك) لتشجيعهم وأرشادي في الموضوع، وللسيد داود برنو على مقالته المنشورة في عينكاوة دوت كوم والمعلومات الغنية فيها، ولكل من فتح قلبه لي ، كون هذا الموضوع كبير وشائك ومحزن، وبحاجة الى دقة وأمانة.


تموز 2013






 


 

free web counter