| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

أ.د. قيس مغشغش السعـدي
drabsha@yahoo.com

 

 

 

                                                                                    الثلاثاء 1/11/ 2010

 

في الموروث الغنائي المندائي

أ . د. قيس مغشغش السعدي *

سؤلت مرة في جامعة برلين الحرة إن كان للمندائيين طريقة خاصة في قراءة النصوص الدينية كما هو معهود في قراءة القرآن تجويدا وترتيلا، وكما في القراءات التوراتية والإنجيلية، وكانت إجابتنا أننا للأسف لم نرث أسلوبا متميزا في القراءة بالكتب الدينية، وهي، أي القراءة، تتم اليوم بنسق قراءة كل رجل دين. ونرى أن السبب في ذلك يعود لأحد أمرين أو لكلاهما في آن. الأول، أنه يرد في الكتاب المقدس للصابئة المندائيين "الكنزا ربا" نص يشير إلى النهي بالقول: "لا تفسقوا ولا تزنوا ولا ترقصوا وتزمروا بزمرة الشيطان ولا تسبي ألبابكم مزامير الشيطان فكلها خبث وزيف وحيلة". وهذا النص وإن إرتبط بالتحذير من مزامير الشيطان، إلا أنه ربما تعمم في عدم القراءة الجهرية بنغمة معينة. والثاني، هو بحكم المعاناة وظروف القهر التي مر بها المندائيون في عصور عديدة، والتي أرعبتهم فأوقفت حتى تعلم لغتهم الأصيلة والتخاطب بها والقراءة الجهرية بالكتب الدينية. ومثلما صار المندائيون نتيجة لذلك أميين في لغتهم، نراهم قد فقدوا توارث طريقة للقراءة في الكتب الدينية يمكن أن تـُسمع صوت الله في النفس.

وسؤلت مرة من قبل مخرج عراقي يقوم بالتحضير لفلم عراقي فيه من التراث المندائي عن أغانٍ وتراتيل مندائية، وأجبت بأن الأغاني موجودة رغم فقدان توارثها أيضا، ولكن إشاراتها تظهر في القراءات التي تقرأ في المراسيم الخاصة بالزواج. وهنالك كتابان في الأدب المندائي أحدهما يسمى " النياني" التي تعني التراتيل والآخر" القـُلستا"، يتضمنان العديد من النصوص الشعرية والمقطوعات التي يمكن أن تغنى، بل أن هنالك أغنيتان يرددهما رجل الدين المندائي أثناء قيامه بإجراءات قطع المهر وينشدها ويطلب إلى الحاضرين مشاركته فيها.

ولأن الصابئة المندائيين هم الوجود العراقي الأصيل القائم في بلاد ما بين النهرين وبقاءٌ ممتد في جنوبه، فإن الكثير مما بقي محفوظا في التراث الغنائي العراقي للصابئة المندائيين إشتراكٌ فيه. وما يدلل على ذلك هو بقاء المفردات في اللازمات الغنائية بمفرداتها الآرامية المندائية التي بقيت محفوظة في لغتهم وإلى اليوم. ومن أمثلة ذلك الأغنية الشائعة " عالميمر" فالميمر ترد في اللغة المندائية على أنها تعني " الكلمة" ولذلك فهي تعني القول والعهد، وكأن المغني يثبت أنه باق على كلمته وعهده الذي عاهد به محبوبه. وهكذا في أغنية " هوّر يا بو الهوّارة" فكلمة " هوّر" ترد بمعنى أنظر، وبالتالي فالمعنى أن " أنظر يا صاحب النظر". وأكثر أغنية شائعة في لازمتها الغنائية هي " يا عين موليتين.. يا عين مولية" وقد ذهب البعض في تفسير كلمة " موليتين والمولية" مذاهب متباينة حتى فككنا عجمتها في أنها من الموروث المندائي، وأن الـ "موليتين" هي في الحقيقة "ميلا يتون" ومعناها إستفهامي" من أين يأتون؟ والـ " موليا" بمعنى من أين؟" وبالتالي فالشاعر والمغني إنما يسأل عينه مخاطبها قائلا:" ياعين من أين يأتون، يا عين من أين؟" وقد أدمجت الدهور وسنينها الكلمات، وبقت اللازمة تردد في الأغاني لجمالية لحنها الذي لم يتوقف بسبب عدم معرفة المعنى. ومثل هذه أيضا ترنيمة " هيّا وهاي وهيّا". لقد ثبتنا شروحات هذا وغيره في كتابنا " معجم المفردات المندائية في العامية العراقية المطبوع في المانيا 2008".

ويبقى طور الصبي من أجمل الأطوار الغنائية العراقية في الأبوذيات وهو مبتكر ومنسوب إلى مغني صابئي مندائي معروف.

وأما كلمة " الجوبي" التي تطلق على الرقصة العراقية المعروفة والتي تقابل كلمة "الدبكة" في اللغة العربية والمعتمدة في جميع البلدان العربية، فقد ذهبنا في النظر إليها أنها من كلمة" شُبا" التي تعني في اللغة المندائية العدد سبعة. وإستخدام الكلمة قد يعود إلى تقسيم المجموعات في أفراحها إلى سبعات تقديرا للعدد سبعة وهذا شائع في عموم الحضارات وبخاصة في بلاد ما بين النهرين، وأن جمع كلمة " شُبا" يكون" شُبي" في اللغة المندائية. وبقلب لفظ حرف الشين إلى جيم ثلاثية النقاط، كما مألوف، يكون لفظ كلمة " الجوبي". ويقترن الأمر باللعب " جوبي" ولذلك يقال" هلا باليلعب جوبي"، ولعب الـ" شُبا" هو ما تحذر منه التعاويذ المندائية التي تكتب سابقا والتي تتضمن نصوصها " أن ليبعدك الحي العظيم من أن تلعب بك السبعة في إشارة إلى الإبتعاد عن تأثير الكواكب السبعة".

ويقترن بالأفراح حماس المستمعين ومشاركاتهم في التصفيق والرقص، وفي هذا مازالت تعتمد كلمات هي من أساس اللغة المندائية كما في كلمة "شوه" التي يطلقها المغني محفزا الحاضرين للحماس والمشاركة. وكلمة "شوه" ترد في اللغة المندائية فعلا لكلمة "حماس"، فكأن المغني يطلب الحماس الذي يظهر في المشاركة بالتصفيق مثلا. ومن الكلمة ذاتها يأتي الإعتماد الشائع لكلمة" شالوا" مفردة تعني التصفيق العالي والشديد. فهذه الكلمة نراها من " شوه إلو" والتي تعني حماس عالي، ذلك أن لا معنى للكلمة تأسيسا على فعل" شال يشيل" المعتمد في اللغة العربية. ثم أن هذه المفردة معتمدة في التراث ومبدأ التراث يقوم على التناقل وأن الأساس فيه قديم حتى في مفردات لغته الرافدينية.

وبقت لازمة الأغنية العراقية التراثية المعروفة " دللول يلولد يبني دللول" تدور في خلدي. ولأني أعرف أنها من الإرث العراقي وبخاصة من جنوبه، فمازلت أنقب وأمسح عنها تراب الدهور حتى تيقنت أنها من التركيبة الآتية: يرد في اللغة المندائية الفعل" دول" بمعنى: هـزَّ، حرك، أما كلمة " لول، لوليتا" فترد على أنها الرضيع/ الرضيعة، ومنها كلمة" لوليلا" التي تقال لتحريك الطفل الرضيع. وعلى هذا، وبدمج المفردتين في الفعل" دول+ لول" تشكلت مفردة " دُلـّلول" بمعنى أهـزُ الرضيع، وصارت منها الترنيمة العراقية المشهورة للأمهات العراقيات" دللول يلولد يبني دللول.. عدوك عليل وساكن الجول". وكلمة " جول" بجيم ثلاثية، هي من كلمة " شيولا" التي تعني عالم الجحيم والموت في اللغة المندائية وعديد اللغات السامية، كما ترد بمعنى المكان القصي والبعيد.


* أمين الرابطة المندائية لعموم ألمانيا
عضو مكتب سكرتارية إتحاد الجمعيات المندائية في المهجر
سفير السلام العالمي


 

 

 

free web counter

 

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس