| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

أ.د. قيس مغشغش السعـدي
drabsha@yahoo.com

 

 

 

                                                                    السبت 03/11/ 2012

 

الصابئة المندائيون بين العـراق والمهجـر

أ . د. قيس مغشغش السعدي *

لا تأريخ محدد لوجودهم، وهذا دليل الأقدمية حد أن يحار المرء في تلمس ذلك، وما لديهم غارق في الزمن، فأدبهم يشير إلى تعاليم آدم (ع) بكتاب، ومن بعده شيت ونوح وسام (ع).. أما النبي يحيى (ع) فيعدونه آخر معلم لهم.
 
وأما مكان الوجود، فمع دلالاته الرافدينية، إلا أن البناء على بعض المفردات والمدلولات في معتقدهم وطقوسهم وبيئة النبي يحيى(ع) قادت بعض الباحثين إلى الفرض بأن مكان وجودهم هـو فلسطين، وفي هذا جدال.
 
لم يدونوا هم تأريخا لهم ذلك أن إيمانهم بالروحانيات، وأن الحياة عابرة مرحلية حتى تعود النفس إلى موطنها الأول" عالم الأنوار"، لم يمل عليهم إهتماما بتدوين أحداث هذه الدنيا.
السلام وطلب الأمان وعدم الطموح في مغـريات الدنيا أبعدهم عن مساعي التنافس والسلطان، وظلت القناعة بأن الدنيا متاع الآخرة، وخير الناس للفوز بها من تزود بزوادة العمل الصالح.

حاربتهم المؤسسات اليهودية والمسيحية في بداية ظهور هذه الديانات، فآثروا الإبتعاد عن كل مسببات الصراع والعداء لأن التبشير ليس مسعاهم، بل الإنتماء للدين قناعة وليس إكراه.

حفظتهم بيئة جنوب بلاد ما بين النهرين لإمتداد سومري أصيل جذره أور وحتى مملكة ميسان وخوزستان وإشتراك بابلي متميز بدليل لغته الآرامية المدونة، وحتى إبان الوجود البارثي في بلاد ما بين النهرين ظلوا يحضون بالرعاية.

حين دخل الإسلام العراق سعوا لأن يلتقوا سعد بن أبي وقاص عارضين عليه دينهم وكتبهم ودلالة ذكرهم في القرآن الكريم، فكان أن أقرهم على دينهم ووجودهم وعيشهم ورعايتهم آمنين.

أغراهم البرتغاليون في القرن السادس عشر الميلادي حينما تعرفوا عليهم يوم دخلوا العراق بمبشريهم، وعرضوا عليهم أن يمنحوهم منطقة دبي في الخليج، فلم يقبلوها تمنعا من أن يكون لهم وطن غير العراق، وهكذا في مسعى المندوب البريطاني.
 
قـَدرُ الصابئة المندائيين إذا ًأنهم أبناء بلاد ما بين النهرين بزرا.. نخلا ًوآسا ًوسمسما.. ومياه سيح دجلة والفرات.. تعميد طهارة النفس والبدن جار ٍبمجراهما.

ولأنهم أبناء سلام، فحينما اشتعلت إوارات الحروب في وطنهم العراق منذ ثمانينات القرن الماضي، ورغم أنهم انتظموا في التجييش دفاعا وإلزاما، دفعهم حبهم للحفاظ على وجودهم وبقائهم إلى الفرار والنزوح طلبا للعيش الآمن بعد أن استهدف بعضهم وتهدد الآخر بالإستهداف. وهكذا صار لدينا، ولأول مرة في التأريخ، تسمية مندائيوا المهجر!

عقدان من الزمن اكتسحا وجودا في العراق يعود لآلاف السنين. وهكذا نجد أن النسبة الأعلى التي تصل إلى أكثر من 70% منهم قد "هاجرت". وليت أنه لمهجر واحد، بل أن التوزع صار في أربع قارات وفي حوالي عشرين بلدا وفي العديد من مدنها. وإذا عرفنا بأن تعداد الصابئة المندائين يناهز فقط ستين ألف نسمة ، أدركنا حجم تشتتهم وما سيقود إليه من ضياع.

المهجر، نعم! الأمان، لكنه جدة المكان والمجتمع واللغة والنظام والمهن، جدة التعريف بالهوية الخاصة، جدة الأنهار والسماح بالتعميد، جدة المناخ في أوربا وأمريكا وكندا وأستراليا. والأخطر في كل ذلك جدة ثقافة هذه البلدان على المندائيين وجيل أبنائهم الحالي بما تسحب له من توجهات قد تتقاطع مع خصوصيتهم ككيان في معتقدهم الديني الذي هو أساس تجمعهم وبقائهم.

هل يتزوج الشاب المندائي من غير مندائية، وهل تتزوج الشابة المندائية من غير مندائي خلافا لما تقره عقيدتهم الدينية التي تهددت سلطة إلزامها بأسباب ثقافة المجتمعات الجديدة وتوزع المندائيين بما لا يوفر فرص الإلتقاء والتقارب والإقتران؟ هل يستطيعون إجراء طقوسهم وبخاصة التعميد في غير مياه الأنهار الجارية بأسباب قساوة الظروف المناخية الباردة وطول فترتها من السنة؟ وإن أقروا التعميد في الأحواض بجعل الماء جاريا فكيف لهم بما يتطلبه بناء معابد جديدة في هذا العدد من البلدان، وهم الذين استنفذت امكانياتهم الهجرة غير الشرعية التي أجبروا عليها؟

البدء من جديد في تشكيل حياة كيان المندائيين في المهجر جعل جميعهم ينشغل بأن يعطي الأولوية لترتيب أمور حياته الخاصة والأسرية والمهنية، وهذا ليس سهلا. إنتظام الأبناء دراسيا وتقدمهم تعليميا ومن ثم التنافس في الحصول على فرص العمل قاد إلى تقدمهم في فرض القرار على الأسرة بما أضعف إلزامها لهم دأبا على ما درج عليه أسلافهم.
عدم القدرة على توفير دور عبادة لهم "بيت مندا" ليكون بيتا يجمعهم في مراكز تجمعاتهم قلل فرص اللقاء الذي يجمع الخصوصية ليعرّف ويزيد من فرص الترابط والتعليم والإقتران.

ونعم! شكلوا جمعياتهم ومجالسهم قياسا على الشكل التنظيمي الذي صار لهم في العراق منذ الربع الأخير من القرن الماضي، لكن الإمكانات في هذا والتجاذبات المقترنة بعدم نضج المسؤولية الديمقراطية لا تجعل مثل هذه الجمعيات فاعلة مقارنة بطبيعة الظروف والتحديات. هذه التحديات التي صارت مقلقة ومخيفة ومولدة لهاجس ضياع الكيان.
ويدور النقاش داخل كيانهم بين الأصول التي يجب التمسك بها وبين حداثة تمليها الظروف المستجدة بحسب العصر وثقافة البلدان الجديدة.

لا يضيع المندائيون كأفراد، فهم مثلما أثبتوا جدارتهم الإنسانية والعلمية والمهنية في وطنهم العراق، مازالوا يتقدون عطاء في البلدان التي صاروا يتواجدون فيها اليوم، لكن ضياعهم يكون في الكيان المتميـز بخصوصيات عديدة وقـيّمة لا يراد لها أن تُخسر عراقيا أو إنسانيا.
 
فقد كان ومازال حينما تـُذكر عراقة شعب العراق ومكوناته يذكر الصابئة المندائيون في رأس قائمة ذلك، والعكس صحيح في ذكر الصابئة المندائيين حيث تتجه قبلة التفكير إلى العـراق.

أحب الصابئة المندائيون العراق، فهل يحب العراق الصابئة المندائيين؟ وكيف يحبهم؟
أما شعب العراق فنعم! إذ لم نسمع عراقي شريف في الشمال أو الجنوب، في الشرق أو الغرب يمس المندائيين بسوء ذكر أو فعل، بل إنما هم يفخرون بهذا الذكر الطيب الذي لهم في نفوس ولسان عامة العراقيين. وأما ما عانى منه الصابئة المندائيون فممن أراد السوء للعراق عامة واعتمد التكفير وسيلة سهلة باعتماد رهان التعسف في الدين مع أن الدين يسعى للسلم والتسامح. وقد نجح هذا البعض فيما فعل مستغلا زحمة الإنشغال بمصيبة ظروف التغيير في العراق.

معاناة الصابئة المندائيين في المهجر أنهم صاروا فيه خاليي الوفاض وأن عليهم أن يبدوأ ليس من الصفـر، بل من تحت الصفـر في تعريف المجتمعات التي صاروا يعيشون بينها أولا من هم المندائيون. فقد تركوا كل ما لهم في العراق، واستنفذهم الوصول لبلدان المهجر ماديا ومشكلاتيا، وصار عليهم أن يبدأوا من جديد. وقد يضطر الكثير منهم قبول الجديد فيذوب فيه وهذه هي بداية ضياع الكيان.
 
وندرك تماما أن الصابئة المندائيين ما كانوا لينزحوا من العراق لولا ما آلت إليه ظروفهم فيه بحكم ما مر به، وما مر به كان أصعب من تحملهم ، بل مهددا لهم في الوجود، وعلى هذا فإن العراق يجب أن يبقى الراعي والمتابع لأنه الأب والأم للمندائيين منذ عهد التأريخ، ولأنهم بعض أبنائه الأصلاء الذين ليس لهم سواه وإن اغتربوا عنه.
 
فهل تمتد يد العراق للعون لتسهم في حفظ كيان الصابئة المندائيين الذي تتهدده ظروف العصر وبخاصة في بلدان المهجر طالما أن المآل الذي صاروا فيه كان من نتيجة ظروف العراق؟ هل يسهم العراق بتعـزيز إصرار الصابئة المندائيين على المحافظة على كيانهم؟
فإن وصلنا إلى مرحلة السؤال عن الكيف في الموافقة، نقول أن الأمر لا يزيد عن أن يبقى العراق مرجعية للصابئة المندائيين أينما كانوا وليس في العراق وحسب. وهذا يفرض أن يكون للصابئة المندائيين نصيب من خير العراق يمتد نسغا فيحيي تأسيس دور عبادة لهم في مراكز بلدان تواجدهم، ويسهم في إقامة النشاطات التجمعية لشبابهم وأبنائهم فيتعـزز اللقاء والترابط والإقتران تزواجا فيما بينهم طالما أنهم لا يقرون التزواج بغيرهم، ويسهم في توفير فرص التعليم والدراسة والبحث والتثقيف والتوثيق بناء على ما تأسس من بناء مادي في إقرار بيت المعرفة المندائية في بغداد، ويسهم في إقامة مناسباتهم التي تبعث الحياة فيهم وتذكي قدراتهم المعهودة فيكون مسعاهم شديدا في الإصرار على البقاء مدعوما بعون العراق أينما كانوا لأنهم عراقيون أصلاء.
 
نأمل أن يسرع العراق في هذا كي لا يأتي يوم، لا قدر الله، يمد فيه العراق يده فلا يجد يدا مندائية تمتد لتلتقيها أو تتلقى منها.


* أمين الرابطة المندائية لعموم ألمانيا
عضو مكتب سكرتارية إتحاد الجمعيات المندائية في المهجر
سفير السلام العالمي


 

 

 

free web counter

 

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس