| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

قيس قره داغي

keradaghy@yahoo.de
keys_karadaghy@hotmail.com

 

 

 

الأثنين 6/9/ 2009


 

كلمة وفاء في حق الأديب حافظ القاضي

قيس قره داغي

أكملت قرآءة آخر صفحة من مذكراته المطبوعة في مجلدين بدهوك وطويت المجلد متأملا حياة رجل عاش حياتا تستحق الأفتخار في محطات مضيئة سواء في عالم الأدب أو في عالم النضال في سبيل الوطن والامة ، وأنا أتنقل بين هذه المحطات البعيدة القريبة بدءا من دهوك فبغداد فمناطق ثورة أيلول المحررة فسجن ( قصر النهاية ) وعودة الى الى دهوك ثانية وأنتهاءا بالمنافي وهو في خريف العمر وأذا بجرس التلفون يرن والرقم ظاهر من كوردستان والمتصلة بريخان القاضي ( الابنة الصغرى للشهيد عبد الرحمن القاضي ) وهي تقول بحنكة وحزن :
- قيس عمي حافظ مات!! .
- كيف ومتى ؟
- عاد لتوه من النمسا مع أبنة عمي أم سيروان لكي يدليا بصوتيهما في كوردستان وقد وقع أمام داره وهو يهم الدخول !
أجبتها بما يشبه الهلوسة ،
- كيف وقد أتفقت أن أزوره في النمسا قريبا وقد فرح بالخبر كثيرا !؟
- ما العمل ، هذه مشيئة الله .
- إ نا لله وإنا إليه راجعون .

لم يكن المرحوم رجلا عاديا ، فهو عصامي خاض الحياة بأرادة قوية متحدا كل الصعاب والعراقيل التي زرعت في طريقه وطريق أقرانه من المناضلين ، متخذا في نهجه هذا تعاليم معلمه الأول كما يؤكد دائما في مذكراته اللواء المدفعي الشهيد عبد الرحمن القاضي الذي ضرب في حياته مثلا رائعا في التفاني والأخلاص في سبيل أمته الكوردية مدافعا صلبا أزداد صلابة في سجن نقرة السلمان الرهيب وعاش وفيا لمعلم المناضلين الراحل مصطفى بارزاني .

حافظ القاضي ، الأبن البار لمدينة دهوك التي أنجبت الكثير من رجالات الفكر والأدب والسياسة ، مدينة دائمة الحيوية ترنو للناظر وكأنها ثغر طبعت عليه أبتسامة سرمدية ، وقد أحبها الفقيد ودافع عن ألوانها بكل أخلاص وشائت الأقدار أن يتخذها دارا أبدية له فبوركت أرض المدينة برفاته وبورك الجثمان بتلك الأرض المعطاء العزيزة .

ولد الفقيد في تلك المدينة عام 1929 م ولم يبلغ تمام الرابعة من عمره عندما قضى والده نحبه دون أن يترك لصغيره ولصغير العائلة أيضا حتى صورة فوتوغرافية كي يتعرف على قسمات وجهه ، وعندما بلغ السادسة من العمر أدخله عمه عثمان القاضي وكان أماماً متقاعداً في الجيش العثماني مدرسة دهوك الأبتدائة وكانت المدرسة الوحيدة آنئذ يديرها الموصلي عبدالله مخلص الذي وافق على قبوله كتلميذ مستمع لعدم بلوغه السن القانونية وكان من بين زملائه الدكتور سعيد محمد كتانة والذي شغل عمادة كلية الزراعة في جامعة الموصل فيما بعد .

أكمل الأبتدائية في دهوك وأضطر أن يلتحق بشقيقه الأكبر رشدي ليكملا المتوسطة في مدينة الموصل لعدم وجود متوسطة في دهوك آنذاك ، ومن ثم قصد بغداد ليستقبله هناك عمه طاهر القاضي المنقول تواً من معاونية شرطة راواندوز الى بغداد وهناك بدأ مواصلة الدراسة في الأعظمية وفي بغداد أيضا أخذ يلتقي بعم آخر ومن طراز آخر علمه مبادئ الوطنية والقومية الا وهو الضابط المدفعي عبد الرحمن القاضي ( اللواء والسفير الشهيد فيما بعد ) .

ومن عمه أيضاً بدأ يلتقط أخبار ثورة بارزان عام 1943 التي ألقت بالقوات الملكية ضربات موجعة مما أضطرت الحكومة أن ترسل النائب ( نوري باويل آغا الراواندوزي ) ليحاور البارزاني وينقل طلبات الثورة الى الحكومة وعندها أيضا عانقت عيناه أول بيان رسمي صادر من حزب هيوا تستنكر مظالم الحكومة ضد الكورد .

في عام 1946 بدأ الأدب والشعر الكوردي يغزو فكره عن طريق مجموعة من زملائه ومنهم الشاعر المرحوم كامران موكري الذي كان يسمعه الجديد من قصائده الوطنية بين الحين والآخر .

عشية القضاء على جمهورية مهاباد الفتية التي يعزي القاضي سببها الى عقد أتفاقية طهران قبل الانهيار بين كل من الرئيس الأمريكي روزفلت والسوفيتي ستالين والبريطاني جرجل وتنفيذا لبنودها دعت الحاجة الى أعادة سيطرة الجيش الشاهانشاهي على منطقة كوردستان أيران كما يقول في ( ص 28 ) من مذكراته ج1 ) بدأ يتعرف على العاملين في الحقل السياسي ومنهم السياسي المشهور الشهيد صالح اليوسفي والمحامي محمد شاهين الصوفي وآخرين ومنهم أيضا سمع نبأ أعدام الشهيد القاضي محمد رئيس جمهورية مهاباد الذي ألمه وهو في عنفوانه السياسي وقد زاد ألمه مؤخرا بإقدام السلطات الملكية العراقية بأعدام الضباط الكورد الأربعة ( عزت عبد العزيز ، مصطفى خوشناو ، خير الله عبد الكريم و محمد محمود قدسي ) عام 1949 بأشراف من الوصي عبدالأله بن علي خال الملك الصغير فيصل الثاني وشقيق الملكة عالية .

مع بداية عقد الخمسينات وفي عام ( 1950 ) تحديدا أتجه حافظ القاضي وبتأثير الكراريس السرية التي كانت توزع آنذاك كما يقول هو الى اليسار العراقي وهو لا زال طالبا في كلية التجارة ببغداد .

جالس الفقيد الكثير من الشخصيات السياسية والأدبية والثقافية والأجتماعية الكوردية والعراقية ومن يقرأ مذكراته يقف عند أسماء بارزة في تلك الميادين فقد زار بصحبة حسن بك الجاف السياسي العراقي المعروف كامل بك الجادرجي الذي كان من رواد اليسار العراقي الوطني وكذلك عقد لقاءات مهمة مع الكثير من الساسة والبرلمانيين والوزراء ومنهم الوزير المشهور سعيد بك قزاز وزير داخلية العراق .

شارك القاضي مع نخبة من مثقفي الكورد في بغداد في أعادة تشكيل نادي الأرتقاء الكوردي الملغاة من قبل السلطات العراقية بسبب أحداث ثورة بارزان وقد تمكن السياسي والمحامي الكوردي محمود بك بن جميل بك بابان من مدينة كفري بأنجاز المهمة وأصبح معتمدا للنادي فيما كان القاضي ضمن الهيئة الأدارية وتم أختيار مقر للنادي في شارع الزهاوي القريب من ساحة الميدان وسط بغداد عام 1954 ، ومن أجل توفير المال الللازم للنادي أدار القاضي حفلا خيريا لصالح النادي حضره خيرة فناني الكورد والعرب وقدموا نتاجاتهم الغنائية مجانا ومنهم ناظم الغزالي ، عفيفة أسكندر ، مائدة نزهت ، رضا علي ، أحلام وهبي من العرب وعلي مردان ، طاهر توفيق ، رسول كردي حسن جزراوي ، نسرين شيرواني وآخرين وجميعهم أنتقلوا الى رحمة الله رحمهم الله بالاضافة الى فرق موسيقية وتمثيلية عديدة كثيرة وقد عدت تظاهرة فنية كبيرة في ذلك الزمن.

كان القاضي زميلا قديما للمرحوم سليم الفخري وبتزكية منه فاتحته وزارة الدفاع في العهد الجمهوري بأستحداث قسم باللهجة الكرمانجية في الأذاعة الكوردية وعن طريق القاضي تم توظيف كل من الأستاذين صادق بهاء الدين وتحسين برواري في الاذاعة وقدموا الالأف من البرامح بهذه اللهجة الكوردية الجميلة عبر سنين خدمتهم هناك وتم أجراء لقاءات مشوقة مع عمالقة الكورد في الميادين المختلفة نذكر منهم البروفيسور قناتي كوردو وكامران بدراخان و عصمت شريف وانلي وقدري جان وعلي سيدو الكوراني والشيخ عمر وجدي مسؤول الرواق الكوردي في جامعة الأزهر وموسى عنتر .

كان حافظ رئيسا لتحرير مجلة هيوا وبصفته الصحفية التقى الرئيس العراقي الأسبق عبدالسلام عارف الذي كان في حينه وزيرا للداخلية في حكومة الشهيد عبد الكريم قاسم وعندما أثار قضية الدراسة الكوردية ووجوب دراسة الادب والتاريخ الكوردي في المدارس جن جنون عارف كما يقول حافظ في ص 64 من الجزء الاول من مذكراته وقال أنك كررت كلمة الكورد وكوردستان لمرات عديدة في كلامك وسوف أعاقبك بالسجن ولكن القاضي أهدأ من ثورته حين قال أفتخر أن أكون أول صحفي يسجن في عهد الثورة و .........الى آخر الحديث .

يفتخر المرحوم القاضي بأستقباله للاب الروحي للكورد حين عودته من الاتحاد السوفيتي السابق فيقول عن البارزاني بأنه كان يسأل كل من يصافحه سؤالا وعندما جاء دوره قال أنا حافظ القاضي يا سيدي ، فرد عليه من أي القضاة ؟ فقال من قضاة دهوك ، فسأل عن عمه العقيد المدفعي عبدالرحمن القاضي ؟ فقال أنه بخير ويشغل منصب آمر حامية أربيل ، ( كان للعقيد عبد الرحمن القاضي علاقات وطيدة وقدم مساعدات مخلصة لثورة بارزان وزار المرحوم البارزاني في الاربعينات وهو ضابط في الجيش العراقي كما جاء في مذكراته المخطوطة المحفوظة لدي كاتب السطور ) ، هذا وقد ألتقى القاضي بالبرزاني مرات عديدة وقد حضر الزعيم بنفسه في حفلة شاي أقيمت في نادي الأرتقاء الكوردي ببغداد وحتى بعد أن تحول مقر أقامة البارزاني من فندق سمير أميس الى قصر نوري السعيد أستمر القاضي بزيارة القصر وذات مرة رافق كامل بك الجادرجي الى القصر .

أثناء عمله في الاذاعة الكوردية قام القاضي بأول أتصال بالشاعر الكوردي المعروف قدري جان ودعاه الى الاذاعة بعد أن ساهم في برنامجه الأسبوعي - شعر وموسيقى - ومجلة روناهي بالكثير من نتاجاته الأدبية ومنها رائعته المشهورة ( بشرى ) الخاصة بأستقبال المرحوم البارزاني - قدري جان نشأ في قصبة ديركي وميردين في شمال كوردستان ، أكمل دراسته في قونية ومارس التدريس في أنطاكيا والأسكندرونة وكانت علاقاته جيدة مع العائلة البدرخانية وخصوصا جلادت بدرخان وعن طريقه قدم الى كوردستان سوريا وعمل في مجلة هاوار ويعتبره الكثير من المتطلعين على سيرة التجديد في الشعر الكوردي رائدا أولا في هذا الميدان .

ربما يطول الحديث بنا أذا وقفنا في كل محطة نزل فيها القاضي وواكب الاحداث بعين أمينة وواعية ، ففي محطة من محطاته رحمه الله يصف زياراته الى مقر أقامة المرحوم الملا مصطفى البارزاني في بغداد بعد أن عاد الى الوطن من هجرة مباركة دامت أثني عشر عاما في الاتحاد السوفيتي السابق حيث يستشف القارئ بساطة البارزاني الخالد وخاكيته ، تلك الصفة المتميزة لدى عظام القادة في التاريخ التي تجعل الجماهير تنظره نظرة الاب والاخ الكبير والمعلم ، وأما سفرته مع البارزاني الخالد الى لواء البصرة لأستقبال البارزانيين الثوار الذين عادوا الى الوطن بعد عودة البارزاني فهي جديرة بالمراجعة والتأمل وقد سبق وأن قام الاستاذ الفاضل عربي الخميسي بشرح تلك الزيارة وكيفية أستقبال أهالي البصرة للبارزاني مرة وللبارزانيين مرة أخرة بصفته عضوا في لجنة الاستقبال حيث أن عربي الخميسي لا زال على قيد الحياة ويقيم في نيوزلندا أمد الله من عمره وهو من الضباط الأحرار الذين قادوا ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة ، فيقول الخميسي أنه نال شرف الحديث مع سيادة البارزاني لبضعة دقائق معدودة وسط ذلك الزحام الشديد ويتعجب كل العجب أن الأخير حفظ أسمه بعد مرور سنوات عدة على تلك المناسبة حيث زج الخميسي الى معتقل نقرة السلمان الرهيب بعد اتقلاب شباط 1963 وبدأت شقيقته المقيمة في كركوك رحلة مضنية للعثور على الشقيق السجين وإيجاد واسطة خير لفك طوق الأسر عنه الى أن سلكت الدرب أخيرا حسب نصائح المعارف الى معقل الزعيم مصطفى بارزاني في كلالة فأستقبلها الزعيم خير أستقبال وقال لها أنا أعرف عربي الخميسي وقد ألتقيته في البصرة عام 1959 وأمر بأكرامها وإعادتها الى كركوك سالمة وفي أول مفاوضات للحركة الكوردية مع حكومة عبد السلام عارف أشترط من ضمن ما أشترط فك أسر مجموعة من السجناء من الكورد والعرب وكان أسم الخميسي من ضمن تلك الأسماء على حد قوله وهو حي يرزق الآن ، يصف عربي الخميسي وكذلك حافظ القاضي ذلك الأستقبال الفخم الذي لم تشهده البصرة عبر تأريخها الطويل ، حيث الجماهير المحتشدة في المطار العسكري في موقع البصرة عندما أقلت طائرة عسكرية خاصة البارزاني الى البصرة و عند وصول الباخرة فكتوريا العملاقة التي حملت البارزانيين من المهجر الى الوطن ، ولم ينسى البارزاني أن يشكر أهل البصرة وحكومتها المحلية والاحزاب والمنظمات الجماهيرية التي قامت بواجب الاستقبال وذكر في خطبته الارتجالية باللغة العربية كرم أهل البصرة الكرام مع الشيخ أحمد البارزاني الذي كان مبعدا الى البصرة في العهد الملكي المباد ، وأنا أرى أن يقوم كل من حضر تلك المناسبة بالحديث عنها كونها حلقة من سلسلة الأحداث التأريخية سواء في العراق أو كوردستان أو في مدينة البصرة .

من يقرأ مذكرات القاضي يجد فيها زادا وفيرا من المعلومات حول مجموعة كبيرة من رجالات السياسة والادب والثقافة ، وكل معلومة يصب في خزين ما نعرفه من سير تلك الشخصيات الرائعة التي تركت بصمات واضحة على التاريخ السياسي والثقافي للمجتمع الكوردستاني وسوف نسرد حلقات أخرى من حياة هذا الأديب والاعلامي والصحفي الرائد .

لو كنت مسؤولا في دهوك لخلدت ذكرى المرحوم حافظ القاضي مثلما قامت بلدية أربيل بتخليد عمه اللواء المدفعي الشهيد عبد الرحمن القاضي بتسمية ساحة بأسمه وهو الأبن البار لمدينة دهوك ودرس في المدرسة الابتدائية الوحيدة في دهوك أبان عشرينات القرن المنصرم .

رحم الله حافظ القاضي ويقينا ان أعماله الجليلة ستخلده أبدا .

 



 


 

free web counter