| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

قيس قره داغي

 

 

 

 

الثلاثاء 17/10/ 2006

 

 

على ذكر النضال والمناضلين

 

مصطفى القرة داغي

رغم إن كلمة النضال هي كلمة قديمة قِدم البشرية إلا أن هذه الكلمة ومفهومها الفكري قد فُعّلت في بدايات القرن العشرين المنصرم بفعل إنتشار مبدأ الشرعية الثورية الذي رُسّخ وأسس له وطُبّق عملياً في الثورة الفرنسية الشهيرة ضد نظام لويس السادس عشر في فرنسا والتي إتكأ على تجربتها وجعل منها منهج عمل وإسلوب حياة فيما بعد أصحاب ومنظروا ودعاة الفكر الثوري في بدايات القرن العشرين من إشتراكيين وقوميين وروجوا الى كونها الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها تحقيق الغاية التي كانوا يصبون إليها ألا وهي محاربة وإسقاط أنظمة الحكم التي كانت قائمة في العالم آنذاك والتي كانت توصف في أدبياتهم الحزبية بالرجعية والبرجوازية والرأسمالية..ولقد كان من ضمن المصطلحات التي تبنّتها هذه الأحزاب ومنظروها هو مصطلح النضال الذي يمثل الوسيلة والطريق الذي يجب إتباعه لتحقيق هذه الثورات وإسقاط تلك الأنظمة ورغم أن هذا النضال كان يأخذ أشكالاً عديدة إلا أن أبرز أشكاله هو مايُمكن أن نطلق عليه ( النضال السلبي ) الذي إتسم بالعنف وإستخدام السلاح والتخوين والتسقيط لتصفية الخصوم وتحقيق الغايات والذي سالت بسببه دماء غزيرة في الكثير من أجزاء العالم كان بالإمكان حقنها لو حُكّم العقل وإنتُهِج أسلوب الحوار الحضاري البَنّاء بين المختلفين .
وفي العراق الذي لم يكن مختلفاً في هذا الجانب عن باقي أجزاء العالم والذي عَصفت به أيضاً رياح الشرعية الثورية كان من ضمن التيارت التي تًبنّت هذه المفاهيم وهذا المصطلح وجعلت منه منهاج عمل وأسلوب حياة كما أسلفنا التيّارين اليساري والقومي لذا كان كل من ينضم الى صفوفهما وينخرط في العمل معهما يوصف بالمناضل ويُعد مناضلاً ضد النظام القائم آنذاك.. فالأحزاب اليسارية والقومية في العهد الملكي كانت تَصِف أعضائها بالمناضلين ضد ذلك النظام وفي عهد الزعيم قاسم وبعد أن ناصبه القوميون العداء أصبحوا يَصِفون أعضائهم بالمناضلين ضد نظامه وفي عهد عارف وبعد أن إنقلب على البعثيين أصبح البعثيون يَصِفون أعضاء حزبهم بالمناضلين ضد حكمه وبعد أن إستولى حزب البعث على السلطة أصبح كل من يناصِبَه العداء يَصِف نفسه بالمناضل.. ولم يقف الموضوع عند هذا الحد بل كان من تداعياته أن جميع هذه التيارات كانت تَصِف أي مستطرق يقوم بعمل مسلح أو حركة مسلحة ضد الأنظمة التي كانت تناضل ضدها بالمناضل وتَصِف ما قام به بالثورة..
- فإنتفاضة العشائر العراقية عام 1920 ضد الإحتلال البريطاني وُصِفت بالثورة ومن قاموا بها وُصِفوا بالمناضلين من دون مراجعة الأسباب والدوافع .
- وحركة مايس عام 1941 وُصِفت بالثورة ومن قاموا بها وُصِفوا بالمناضلين من دون مراجعة الأسباب والدوافع .
- وإنقلاب 1963 وُصِف بالثورة ومن قاموا به وُصِفوا بالمناضلين من دون مراجعة الأسباب والدوافع
- وإنقلاب 1968 وُصِف بالثورة ومن قاموا به وُصِفوا بالمناضلين من دون مراجعة الأسباب والدوافع
والقائمة تطول.........
والأدهى والأمر في هذا الموضوع هو أن هذه الصفة تبقى وتظل ملازمة وملاصقة لهؤلاء حتى بعد أن يُكتًب لحركاتهم المسلحة تلك النجاح ويستولوا على مقاليد السلطة والحكم بل وتُثبّت فيما بعد من ضمن الألقاب والصفات الألوهية التي يصف بها الرؤساء والزعماء أنفسهم بعد أن يصلو الى سدة الحكم بل وتُكسبهم حصانة عن أي نقد أو تلميح من الممكن أن يطال تصرفاتهم أو أعمالهم تجاه البلاد والعباد وأفضل مثال على ذلك صدام حسين الذي كان يُلقّب خلال فترة وجوده كنائب للرئيس السابق أحمد حسن البكر " بالرفيق المناضل " ثم تحول اللقب الى " الرئيس القائد المناضل " بعد أن إستولى على الحكم عام 1979 وظل هذا اللقب ملازماً له في أوساط حزب البعث وبين صفوفه لحين سقوط نظامه وإحتلال العراق على أيدي القوات الأمريكية عام 2003 .
واليوم وبعد سقوط النظام السابق وبعد أن ظننّا بان مثل هذه المصطلحات الرنانة والأوصاف الجاهزة ستزول بزوال ذلك النظام الى غير رجعة ولن يكون لها وجود في خطاب النخبة السياسية التي ستأتي بعد ذلك النظام فوجئنا بها تعود الى الظهور وبقوة في أدبيات وعلى لسان الكثير من القوى والأحزاب والشخصيات السياسية التي إمتهنت السياسة قبل وبعد سقوط ذلك النظام ولاتزال صفة المناضل ملازمة للكثيرين حتى بعد سقوط النظام الذي كانوا يناضلون من أجله وياليت الأمر قد توقف عند هذا الحد خصوصاً وأن المناضلين الحقيقيين ومن يمتلكون تاريخاً نضالياً حقيقياً ضد النظام السابق معروفون لغالبية أبناء الشعب العراقي سواء في الداخل أو الخارج.. إذ أن رقعة التمسح بهذه الصفة وإكتساب حصانتِها قد إتسعت الى الحد الذي لايمكن بعده السيطرة عليها فبعد سقوط ذلك النظام زحفت على العراق جحافل من المناضلين من كل حدب وصوب ليس لدى الكثيرين منهم أي تاريخ نضالي يريدون أن يجعلوا من أنفسهم زعماء وقادة سياسيين مانحين لأنفسهم ما لايستحقونه إستناداً على هذا النضال المُدّعى بل إن مطاليبهم في إزدياد يوماً بعد آخر فهم يريدون أن يصبحوا قادة وزعماء على هذا الشعب ويريدون منه أن يجازف بحياته ويخرج ليصوت لهم في الإنتخابات ويريدون منه أن يساندهم وأن يصبر على ماهو فيه وأن.. وأن.. رغم عدم إمتلاك هذا الشعب المسكين لأي مُقوِّم من مقومات الحياة الطبيعية أصلاً.. وهنا يحضرني مقطع من أغنية للمطرب العراقي الراحل سعدي الحلي تنطبق على حال الشعب العراقي مع هؤلاء المناضلين يقول فيه " كُلهة كُلهة كُلهة تريد مِنّك ما أحد إنطاك " !
فبحجة النضال ضد النظام السابق نصّب الكثيرون أنفسهم اليوم حكاماً علينا رغم أننا لم نسمع يوماً عنهم بل ولا حتى بأسمائهم ولاندري أين كانوا يناضلون وكيف ومن أجل ماذا إلا أنهم وبعد 9 نيسان 2003 وبقدرة قادر أصبحوا من المناضلين السابقين الذين قارعوا النظام السابق وبالتالي من حقهم اليوم ( أوتوماتيكياً ) أن يتحكموا بنا كما يشاؤون ويفصلون حياتنا كما يريدون بل ويبيعون ويشترون فينا كما يشاؤون فيقسموننا مرة الى سنة وشيعة ومرة الى أكراد وعرب وتركمان ومرة الى مسلمين ومسيحيين وصابئة وإيزيديين دون أن يتذكروا أهم جزء من الموضوع وهو أننا جميعاً عراقيين مما أعطى إنطباعاً واضحاً لدى الكثير من العراقيين بأن نضال أغلب هؤلاء كان من أجل هذه الخصوصيات لا من أجل الأعم والأشمل وهو العراق وإن تجرأت وإنتقدتهم قيل لك على الفور بأنهم كانوا مناضلين ضد النظام السابق ( والله أعلم ).. وبحجة النضال ضد النظام السابق تستباح اليوم محافظات العراق الحبيب ويُروَّع أهلها وتُنتهك حرماتهم ودمائهم من قبل عشرات الميليشيات والتنظيمات المسلحة التي لاتمتلك أي صفة قانونية والتي إن تجرأتَ وإنتقدتها هي الأخرى قيل لك ( هذا إن بَقيتَ على قيد الحياة ) بأنها ميليشيات مناضلة قارعت النظام السابق وأن أعضائها مناضلون كانوا يقارعون النظام السابق ( والله أعلم ) !.. بل أن أغرب ما في الموضوع بل ومهزلة المهازل في العراق الجديد هو ظهور اليوم مايُسمى بمخصصات النضال التي تضاف اليوم الى رواتب البعض في أغلب دوائر الدولة العراقية وفي أغلب محافظاتها.. هذا من دون أن ننسى ذكر أبناء بعض المناضلين الذين يكتسبون حصانة آبائهم المناضلين بالوراثة ويقومون تحت ستارها بأعمال وتصرفات مستهجنة تطال كل أجزاء الدولة من شعبها المُستضعف الى خيراتها المنهوبة ولنا في السابقين منهم واللاحقين خير مثال على ذلك .
ورغم أن المناضل بشكل عام هو ذلك الشخص الذي يؤمن بقضية أو فكرة ويكافح ويحارب من أجل تحقيقهما لقناعته الشخصية بصوابهما من دون أن ينتظر أو حتى يفكر بالحصول على مردود مادي بل ولا حتى معنوي كنتيجة لكفاحه هذا وفق ما تعلمناه وعرفناه في الأدبيات الثورية وهو ما كنا نتوقعه يوماً ممن توسّمنا في الماضي خيراً منهم وممن كانوا في رعيل المعارضة العراقية السابقة.. إلا أن الحقيقة التي تبيّنت وظهرت فور سقوط النظام السابق هي أن الغالبية من هؤلاء المناضلين لم يناضلوا من أجل سواد عيون العراق وأهله فقط بل إن الكثيرين منهم كانوا ينتظرون اللحظة الموعودة ليتسلّموا أجور نضالهم هذا ( كاش ) ومن دماء وقوت الشعب العراقي الصابر بشتى الطرق القانونية منها وغير القانونية وخير مثال على ذلك الرواتب الخيالية والفلكية التي يُقِرّها هؤلاء المناضلون لأنفسهم منذ أن وطئت أقدامهم أرض العراق ونصبوا أنفسهم حكاماً على أهله بأثر رجعي لذلك النضال إضافة الى حالات الفساد الإداري والمالي التي تستشري اليوم في جميع مفاصل الدولة العراقية حتى باتت تزكم الأنوف .
الكارثة هي أن بعض مثقفي هذه التيارات السياسية لايزالون اليوم يتبنّون نفس هذا الثقافة ( أي ثقافة النضال السلبي ) ضد الخصوم ويخاطبون بها عقول ومشاعر الناس في كتاباتهم وطروحاتهم السياسية في الوقت الذي من المفترض فيه أن يعمل هؤلاء المثقفون على تثقيف الشارع العراقي بعدم واقعية وعدمية جدوى هذه الثقافة أللهم بإستثناء ( النضال الفكري ) الذي يمكن إعتباره الأساس الحقيقي لفكرة النضال ودعوة جماهير هذا الشعب المبتلى الى عدم الإنسياق وراء مصطلحات هذه الثقافة التي يلصقها البعض في هذه الأيام بأسمائهم خصوصاً في الفترات التأريخية والمصيرية التي تمر بها البلاد كفترات الإنتخابات وفترات الإستفتاءات على الدستور أو مايتبَعَه من قوانين تحدد مصيرهم ومستقبل أجيالهم القادمة وأن يتم الترويج لثقافة إختيار الأكفأ والأصلح والأكثر نزاهة ووعياً ( والذي يمكن أن نطلق عليه بِحق صفة مُناضل فكري ) وغيرها من الصفات التي يجب منطقياً توفرها لدى أي زعيم أو قائد سياسي يريد أن يخدم شعبه وأبناء بلده بإخلاص وفعّالية بعيداً عن الأغراض الشخصية والحزبية والفئوية الضيقة .
وللتأريخ هنالك كلمة يجب أن تقال في نهاية هذه المقالة وهي أن غالبية أحزاب المعارضة العراقية كانت تناضل في السابق من أجل تحقيق أهداف حزبية وفئوية ضيقة ولكن في أغلب هذه الأحزاب أيضاً كان هنالك أشخاص لايجب أن نبخسهم حقهم وتأريخهم النضالي المتميز والمعروف وسط فوضى وزحمة المناضلين التي شهدها العراق عبر عقوده الطويلة السابقة ويشهدها خلال أيامه الأطول الحالية واللاحقة والذين تشهد تضحياتهم على أن هدف نضالهم الأول والأخير كان حسب خبرتي المتواضعة هو رفعة وخير العراق رغم إختلافي مع بعضهم فكرياً وفي عدمية جدوى هذا النضال في العهد الملكي بالذات وفي سلبية الآليات التي إستخدمت في هذا النضال تجاه الخصوم في العهود الجمهورية الأولى.. والدليل على قولي هذا هو أنهم وبعض المستقلين الديموقراطيين تقريباً الوحيدون الذين لم ينقضّوا على السلطة والكراسي فور سقوط النظام السابق كما فعل غيرهم ولم ينشؤوا ميليشيات ليروّعوا الناس وليتقاتلوا بها مع الآخرين وليقتلوا بها الآخرين ويستبيحوا دمائهم من أجل تسلّق هذه الكراسي والوصول الى تلك السلطة في الإنتخابات الأخيرة والتي سبقتها كما فعل الآخرين وكانوا حتى حين تبوأ بعضهم بعض المناصب عن إستحقاق في العراق الجديد مثالاً للوطنية والنزاهة على عكس الكثيرين غيرهم ممن غرقوا في قضايا الفساد وأحابيل الفتنة الطائفية .
أقول للسابقين واللاحقين وللأولين والآخرين ممن كانوا في السابق معارضة أو هم اليوم معارضة أو سيصبحون في المستقبل معارضة.. لانريد من أحد أن يناضل من أجلنا ومن ناضل في السابق فسيُعوض مايستحقه ولكن ليس من جيوبنا ومن دمائنا وله منا كل الإحترام والتقدير إن كان نضاله في السابق من أجل العراق والعراق فقط أما قيادة البلاد وتسيير دفتها فهي من إختصاص ذوي الخبرة والكفاءة السياسية والعلمية والإدارية والإجتماعية أما تجار السياسة والحروب ومن تملأهم عقد النقص والخاوين وعياً وقدرات ثقافية وسياسية وعلمية فلا مكان لهم في قيادة العراق.. إن من ناضل في السابق ويناضل اليوم وسيناضل في المستقبل عليه أن يعلم ويعي بأن نضاله هذا لأهله ولوطنه وعيب على أي عراقي حقيقي ينتمي لهذا الشعب الجبار وأكل من خيرات هذا الوطن العظيم وشرب من ماء دجلته وفراته أن ينتظر من أهله ووطنه مكافأةً مالية أو منصباً حكومياً كتعويض منهما له على هذا النضال.. فالعراقيون بعد أن يستعيدوا وعيهم لن يرضوا بعد الآن بأن يقودهم ويُستأزر عليهم سوى إبن العراق الكفوء الذي هو فعلاً أهل لذلك ومن يمتلك وعياً ومؤهلات تؤهله فعلاً لقيادة بلد عظيم مثل العراق .