| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

خالص عزمي

 

 

 

الأربعاء 30/1/ 2008



التربيــــــة المســـــرحية في العراق

خالص عزمي

(الى اساتذة المسرح العراقي ورادته التربويين)

ان التنشئة المسرحية التربوية في المجتمعات المتحضرة تبدأ منذ عهد الطفولة لترسيخ مفاهيم قواعد الثقافة المسرحية ؛ قراءة ؛ وعرضا ؛ ليأتي بعدها دور الدراسة ثم الممارسة لذوي المواهب والرغبة الحقيقية الجديرة بهذا الفن المتميز . قبل فترة من الزمن ؛ ادهشني بناء مسرحي كارتوني فوق سطح قاعة دار الابرا في فينا ذات الطابع الباروكي الفخم ؛ فلما استفسرت عن وجوده مستغربا ؛ قال لي أحد مسؤولي القاعة < لقد خصص هذا الموقع لتقديم عروض الاوبرات الشهيرة بعد اعادة كتابة حوارياتها بلغة تربوية مبسطة لكي تعرض خصيصا للاطفال فتكون بذرة معرفة تناسب سنهم في هذه المرحلة المبكرة .ولتتحول بعدئذ الى علاقة ثقافية متواصلة مع هذا اللون المسرحي العريق > .

كنت في الخامسة من عمري يوم شاهدت ذلك الساحر البارع الذي جاء من لبنان وقدم عروضا ادهشتنا ؛ وخاصة تلك التي كان يتحاور فيها مع مساعده ؛ او بعض افراد الجمهور ؛ بطريقة تمثيلية بارعة ؛ لقد بقيت لايام وانا احلم بمشاهدة ثانية لذلك العرض الذي شد حواسي اليه .
مرت فترة طويلة من الزمن دون ان انعم بشيء يقترب من ذلك الابهار ؛ حتى كانت تلك الفرصة الثمينة وانا في الثالثة عشرة من عمري ؛ فقد قررت متوسطة كربلا ء تقديم مسرحية ( شمعدانات الاسقف ) المقتبسة عن البؤساء لهوجو ومن اخراج الاستاذ مهدي الجاسم ؛ وكان ممن ادوا ادوارهم بتـميز الطالب ( بدري حسون فريد ) حيث انيط به دور (برسميه) . ؛ اما انا فقد اقتربت هذه المرة من المسرح كثيرا حيث أديت مهمتي كملقن اجاد في ايصال الحوار الى الممثلين ؛ فنلت التقدير .

بعد سنتين من هذا الحدث الهام ؛ وكنت يومها قد انتقلت من متوسطة كربلا ء الى متوسطة الاعظمية ؛ زارنا الرائد والمربي الكبير الاستاذ حقي الشبلي متحدثا عن اهمية المسرح في حياة الشعوب توعية وثقافة ؛ وقبل ان ينصرف قال لاستاذنا في الادب العربي جاسم الرجب راجيا ان يحفظنا بعض النصوص الشعرية من مسرحيات(شوقي مثلا) لكي نستوعب مفهوم الادب المسرحي ونتواصل معه ؛ ثم التفت الينا يحثنا على حضور مسرحية فرقة الطليعة المصرية بقيادة ( محمود السباع ؛ وامينة نور الدين ؛ ومحمد توفيق ) ؛ التي تزور العراق و تواصل تقديم عرضها لمسرحية ( مرتفعات وذرنج ) على مسرح قاعة الملك فيصل الثاني وباسعار مخفظة للطلاب ؛ بعدها اشار الى انه ذاهب الى ثانوية الاعظمية للبنات لذات الغرض التربوي النبيل .

. حينما انتقل حقي الشبلي من معهد الفنون الجميلة الى وزارة التربية كمفتش اختصاصي ؛ لم يقتنع بتلك الجهود المتواضعة المبذولة للتنشئة المسرحية ؛ فقد عكف على اعداد منهج تفصيلي شامل للنشاط المسرحي ؛ قام هو بتنفيذه شخصيا وبمعاونة من اختار من طلابه خريجي معهد الفنون الجميلة الذين عينوا في بعض المدارس ؛ لقد اقنعته تجاربه الكثر على خشبة المسرح وتجواله مع فرقته المسرحية ؛ ان التوعية الحقيقية تشرق من نافذة النشاط المدرسي ؛ و تأكيدا لذلك قام بجولات واسعة شملت كثيرا من الالوية ( المحافظات ) ؛ حث من خلالها مديريات المعارف وبذل اقصى الجهود لتشجيع الحركة المسرحية في مختلف دور التعليم ؛ و مدارس البنات منها بخاصة . هنا يحسن التذكير بان مسرح العشرينات و اوائل الثلاثينات ؛ اعتمد اساسا على العنصر الرجالي لتمثيل ادوار المرأة في المسرحيات ؛ حتى استطاع هذا الفنان المربي المقدام ؛ وبجهود شاقة ؛ ان يشجع بعض الفتيات على اقتحام هذا الفن الرفيع وكان ان صعدت على خشبة المسرح يومها الرائدات ؛ مديحة سعيد ؛ ونظيمة وهبي وليلى العبيدي وفوزية القطان ؛ ثم سلسبيل ؛ وماجدة عبد القادر ...وتوالى بعدذاك اعتلاء السيدات الاخريات تلك المنصة العريقة بكل شجاعة كما هو معروف ومثبت تأريخيا .

لقد كان للتوعية التربوية اثرها الكبير في ازدهار النهوض المسرحي العراقي ؛ حيث ساعدت عوامل مهمة اخرى في دعمه والتشجيع على ازدهاره و لعل من اهمها : ـــ افتتاح معهد الفنون الجميلة ـ قسم المسرح ـ والسعي الحثيث على تشجيع الشباب للانتماء اليه ؛ ارسال البعثات المسرحية ؛ الى فرنسا ؛ وانكلترا ؛ وامريكا ؛ وايطاليا وغيرها للافادة من التطور العلمي والتقني في التمثيل والاخراج ثم عودة خريجيهالاداء مهمتهم التربوية والفنية ؛ عروض الفرق المسرحية العربية والاجنبية في اهم المدن العراقية ؛ تدفق المسرحيات المترجمة والمجلات الفنية المشهورة على المكتبات المعروفة يومها ؛ كالعصرية ؛ والمثنى ؛ ومكنزي ؛ وبغداد ؛ والنهضة ... الخ اضافة الى توسع مكتبة معهد الفنون الجميلة واستقبالها لاساتذته وطلابه يوميا للاطلاع على المصادر الاساسية والدوريات الفنية ؛ ازدياد نشاط مسارح النوادي والجمعيات والدورات الطلابية الصيفية ؛ الافلام السينمائية المنقولة عن المسرحيات العربية الاجنبيـــــــــــة كـ ( راسبوتين ؛ وكرسي الاعتراف ؛ وبنات الريف ؛ ولعبة الست ؛ ويوليوس قيصر ؛ وهاملت ؛ وعربة اسمها اللذة ؛ والكل اولادي ؛ ولعبة الحيوانات الزجاجية ؛ وجحر الثعبان ؛ والقتلة ؛ ووشم الوردة ؛ وحافة الموس ؛ وقطة فوق سطح صفيح ساخن ؛ و... الخ ) ؛ تعاون اساتذة الفنون التشكيلية والموسيقى والمكياج والديكور ... الخ في دعم المسرح بكل ما اوتوا من مكنة ؛ كما كان للصحافة والاذاعة (ومن بعدها التلفزيون من عام 1956 ) دورها البناء في دعم وتطوير وتنشيط تلك المسيرة ؛ بخاصة وان بعض الصحف الرئيسية افردت اركانا خاصة للمسرح بل وخصص بعضها صفحات اسبوعية للنشاط المسرحي ؛ ومما اذكره شخصيا بهذا الشأن انني خصصت بابا واسعا للمسرح في مجلتي الاسبوع الصادرة عام 1952 ؛ وقد تبرع العميد الفنان حقي الشبلي بتولي تحرير ذلك الباب بكل ترحاب وتواضع لمدة عامين ؛ دعما للتوعية المسرحية .

لقد اعطت تلك الحركة التربوية الاجتماعية زخما للنهوض المسرحي ؛ بحيث برزت على ذات المستوى ـ بعد ئذ ـ عطاءات الفرق المسرحية العراقية المعروفة ؛ كالزبانية ؛ والشعبي ؛ والمسرح الفني الحديث ؛ والمسرح الحر ؛ واتحاد الفنانين ؛ و14 تموز ؛ و الطليعة ؛ و اليوم ؛ وغيرها ؛ و وقد توج هذا الزخم من الفرق بقيام رائد المسرح حقي الشبلي بتأسيس الفرقة القومية للتمثيل عام 1968 فحقق بذلك حلما طالما نادى به منذ بداية الاربعينات من القرن الماضي .

لقد صاحبت ( كل هذا النهوض المسرحي ) حركة جريئة ونشطة للتأليف والترجمة والتعريق تولاها عدد من رجال الثقافة المعروفين كعبد المجيد شوقي البكري ؛ وصفاء مصطفى وعزيز شلال عزيز وخضر الطائي ؛ ومحمد الهاشمي ؛ وخالد الشواف ؛ وعلي حسن البياتي ؛ وعاتكة وهبي الخزرجي ؛ ويوسف العاني ؛ وخليل شوقي ؛ ومحي الدين زنكنة ؛ وسليم بطي ؛ وسانحة امين زكي ؛ وشهاب الكصب ؛ وعادل كاظم ؛ وعبد المسيح ثروت ؛وبدري حسون فريد ؛ وشفاء العمري ؛ وطه سالم ؛ ومعاذ يوسف ؛ وسعدون العبيدي ؛ وصلاح القصب ؛ ويوسف الصائغ ؛ وقاسم محمد ؛ ووجدي العاني ؛ وجواد الاسدي ؛ وسليم البصري ؛ و عبد المرسل الزيدي وعوني كرومي ؛ وعبد الوهاب الدايني ؛ .... وغيرهم عشرات

لقد انتشر على الساحة المسرحية عدد من الرادة التربويين البارزين في مجالات التمثيل و الاخراج والبحث ؛ من امثال ؛ ابراهيم جلال ؛ وجعفر السعدي ؛ واسعد عبد الرزاق ؛ وعبد الواحد طه ؛ وبهنام ميخائيل ؛ وخليل شوقي ؛ ويوسف العاني وسامي عبد الحميد ؛ وسعدون العبيدي ؛ وبدري حسون فريد ؛ وقاسم محمد ؛ومحسن العزاوي ؛ وجميل نصيف ؛ وعمر الطالب ؛ وعبد الجبار ولي ؛ وجاسم العبودي ؛ وكمال نادر ؛وعلي الزبيدي ؛ وجلال جميل ؛ .. وغيرهم ؛ فعلموا وهذبوا اولا ثم طبقوا كل ذلك واقعيا على منصة المسرح؛ اذ لم يكتفوا بقاعات الدرس وحسب بل انطلقوا بطلابهم ليمثلواعروضا مسرحية عراقية او عالمية متنوعة على القاعات العامة ؛ فانطلقت صيغ مسرحية أكثر حداثة تمثلت بتجارب جريئة مستمدة من اساليب بريشت ؛وستانسلافسكي ولكن بوعي عراقي أستوحى الواقع الاجتماعي ولغة المفهوم الشعبي دونما استنساخ آلي .
لقد نال المسرح العراقي بعد سنوات الجهاد والتأسيس والبناء ثم الانطلاق ؛ موقعا متميزا في التأليف والاخراج والتمثيل كان من نتيجته ؛ ان حصد ابناؤه الاساتذة البررة الاوفياء ؛ جوائز تقدير متميزة ؛ اعترافا واقعيا رصينا بكل ما قدمه هؤلاء الافذاذ للمسرح عبر مسيرتهم المشرفة .

واليوم ونحن نلتفت الى كل تلك الجهود والتضحيات التي بذلت نرى الدمار العدواني الهمجي وقد هدم اهم ما شيد من تلك الصروح العريقة ؛و بذات الطريقة الوحشية التي نالت من ( متحـــــف العراق ومتاحف المحافظات الاخرى ) و ( المكتبـــة الوطنية ) و ( مــــعرض الفنون التشكيلية الدائم ) و ( وكتب ومخطوطات شارع المتنبي ) ؛ و(آثار بابل ؛ ونمرود ؛ والحضر ؛ وأور ) و (بيت المقام العراقي ) و ( مدرسة البالية والموسيقى ) ....وغيرها من معالم الحضارة والمدنية والابداع .واليوم ايضا نشاهد قلاع المسرح العراقي التربوية وقد هُجّرمنها اساتذتها الاجلاء قسرا وعنتا ؛ لكي يكتب عليهم الضياع في بيداء من منافي الالم والحسرة والعذاب النفسي .


 


 

Counters