| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

خالص عزمي

 

 

 

 

الخميس 21/2/ 2008

 

نزيــــــــــهة ســـــــــــليم كما عرفتها

خالص عزمي

أربعة اولاد وبنت واحدة ؛ جميعهم يتشابهون في السحنة فلا تكاد تفرق واحدا عن الآخر في المظهر الخارجي ؛ شعورهم سوداء مجعدة ملتفة على بعضها كأنها حزمة متشابكة ؛ وجبهاتهم عالية الوسط منبسطة على الجانبين ؛ اما أنوفــــــــهم فضخامتها مشهود بها ؛ بل هي نسخة طبق الاصل مما كان يتباهى به والدهم بقوله ( شم ألانوف ) . أما اصواتهم المتدهجة المتلعثمة احيانا و الضاحكة كثيرا فهي تمنح المصغين رقة وتقربا .

كان بيت الفنان الحاج ( محمد سليم علي الموصلي ) ؛ يعج بالحركة ؛ لما عرف به رب الاسرة من كرم واريحية ؛ .. حدثني سعاد الرسام والمصمم البارع عن اسرته مرة فقال : ( لايكاد المرء يدخل بيتنا القديم الا ويرى بعض الفنانين من زملاء الوالد في الجيش ؛ كمحمد صالح زكي وعاصم عبد الحافظ وعبد القادر رسام ؛ او حتى من الجيل التالي لهم كفتحي صفوت وناصر عوني , بل ولوالدي علاقات متينة ببعض كبار قراء التراتيل الدينية و المقامات العراقية؛ ولطالما رحبنا بهم في بيتنا ) .

فتحت نزيهة عينيها على دنيا زاخرة بالحيوية والتعاطف الاسري المؤطرة بالوان من العشق الحقيقي للفنون ؛ وحينما أختارت الاسرة بيتا حديثا في محلة الوزيرية عاشت نزيهة واشقاؤها بذات العمق من المحبة والتواصل والألفة . في بداية الاربعينات ؛ اصبح ذلك البيت أكثر تطورا مع صيغ الحياة العصرية ؛ حيث حل الراديو الخشبي من نوع ( ويستنجهاوس )على الاسرة كغيث ربيعي منعش ؛ واضافة الى ذلك ؛ فقد افاض جواد على اسرته هو ايضا من ينابيع فنه حينما راح يعزف على الجيتار الحانا من تأليف فنانين عالميين وبخاصة ما حفظه من موسيقا ( الفلمنكو) المشهورة في جنوب اسبانيا .

في عام 1947 أكملت نزيهة دراستها في الرسم وتخرجت في معهد الفنون الجميلة ؛ واتيح لها ان تغادر الى فرنسا لاكمال تعليمها شأنها شأن بعض الذين سبقوها ؛ كفائق حسن ؛ وجواد سليم او كالذين زاملوها في تلك الفترة مثل جميل حمودي وحميد المحل واسماعيل الشيخلي ... الخ ؛ وبعد دراسة جادة ونجاح متفوق في فن الرسم ؛ عادت الى بغداد عام 1951 لتندمج في التدريس ؛ ولتتعرف بشكل مباشر على نشاطات التجمعات الفنية ؛ كأصدقاء الفن ؛ والرواد ؛ والانطباعيين ؛ و جماعة بغداد للفن الحديث ؛ فتجد نفسها الاقرب فنيا وتراثيا الى التجمع الاخير الذي كان يقوده شقيقها المثقف المبدع جواد سليم ؛ فشاركت بكل طاقاتها في مختلف المعارض التي اقامتها تلك المجموعة الفعالة النشطة .

اما على الصعيد الاسري فقد كانت قريبة جدا من جميع اشقائها في حياتهم العائلية والاجتماعية ؛ ومن نماذجه هذه اللمحة الخاصة التي لمستها شخصيا : ـ
في جلسة فنية أدبية من عام 1953 اهداني جواد سليم لوحة تخطيطية فريدة بعنوان ( الرحيل عن الوطن) لتأخذ مكانها على غلاف مجلتي ( الاسبوع ) (1) حيث خصص العدد لمحنة اللاجئين الفلسطينيين ؛ وهو ما تبرعنا بريعه لرابطة المناضل الجريح في فلسطين (2) ؛ وفي ذات الفترة ؛ نال جواد الجائزة الاولى عربيا ؛ والسادسة عالميا ؛ وذلك عن عمله النحتي المشهور ( السجين السياسي ) من خلال المسابقة الدولية التي اقيمت في ( تيت كلري ) في لندن ؛ فوجدتها فرصة ثمينة لكي افرد له في ذات العدد نصف صفحة عليها صورة ذلك الانجاز مع تفاصيل كافية عن المسابقة ونتائجها المشرفة للعراق . وازاء هذا دعانا جواد الى بيته لقضاء سهرة كريمة بتلك المناسبة ؛ وما كدنا نأخذ اماكننا ؛ حتى دخلت نزيهة وقد بان عليها التعب والارهاق من جراء انجازها لوحة للمعرض القادم ؛ وان هي الا لحظات حتى تحولت نزيهة الى شخصية مرحة لطيفة النكتة نشطة الحركة ؛ بل وتولت ايضا مهمات الضيافة الاساسية لوحدها لكي تفسح المجال لزوجة اخيها الفنانة لورنا لتعزف على الكمان مشاركة زوجها جوادفي عزفه على الجيتار .
وأكثر من ذلك هو ما لاحظته لاحقا اثناء ترددي وزوجتي المستمر على بيت نزار في المنصور فقد كنا قريبين بصداقتنا مع اسرته حيث وجدتها ـ ولاكثر من مرة ـ مندفعة وسباقة بحنان متميز في مشاركتها باعياد ميلاد شقيقها نزار ؛ او زوجــــــــته ( جنهلد ) او اولاده ( رشاد وسليم وريا وربا ) . وما رسائلها المتبادلة مع اشقائها ؛ ألا صورة حقيقية عن مدى اصالة و تلازم هذه الاسرة النموذجية في علاقاتها الحميمية في السراء والضراء وعبر مختلف المناسبات (3)

ان ارتباطها المتين باشقائها الذي اشرنا اليه ؛ لايعنى بتاتا عدم استقلالية شخصيتها في اتخاذ القرارت الخاصة بمواقفها (كما تبادر للبعض )؛ والحادث الذي أروي واقعته هنا مثال واقعي على متانة قناعتها وبمعزل عن اي تأثير جانبي آخر : ـ
تقرر عقد اجتماع لبعض الفنانين التشكيليين في دار الراحل الفنان خالد الجادر يوم 17 /1 /1955 لغرض الاتفاق على تأسيس ( جمعية الفنانيين العراقيين ) وقد لبى حضور هذا اللقاء التأريخي عدد من ابرز الوجوه الفنية وكان عددهم (16) فردا ؛ كان من بينهم ا ثلاث سيدات هن ؛ نزيهة سليم و زوجة محمود صبري ؛و عالية القره غولي ؛ وبعد نقاش وتداول وافق االمجتمعون على التقدم الى وزارة للموافقة على اجازة الجمعية . . وكان الملفت للنظر هو توقيع نزيهة سليم على المحضر لقناعتها بما جاء فيه ومن دون الرجوع الى اشقائها الفنانين ( سعاد ؛ جواد ؛ نزار ) كما توقع الآخرون (4)

لقد كانت نزيهة سليم شديدة الالتزام بالمشاركة في مختلف معارض الرسم داخل العراق او خارجه ومع انها قضت زمنا طويلا في اوربا ؛ الا انها بقيت نبعا صافيا من ينابيع العراق في الفكرة ؛ والاسلوب ؛ واللون ؛ فلو نظرت الى لوحاتها التي امتلأ بها بيتها في الوزيرية وفاض على مئات المعارض ؛ لوجدتها متفردة ا ليس في اختيارها للمرأة العراقية في لوحاتها وحسب ؛ بل وفي مختلف مواضيع الطبيعة او المحلات البغدادية او الحياة الاسرية او الموروث الشعبي حيث اضفت على كثير من لوحاتها الوانا زاهية براقة نابعة من ذاتها وخزينها المتراكم ؛ وان براعتها في كل هذه الاوجه يضاف اليها اجادتها المشهورة في رسم لوحات (البورتريت ) . ومنها تلك اللوحة الفريدة التي رسمتها لزوجتي عام 1992 ووشحتها بتوقيعها.. والتي ما زلنا نحتفظ بها فخـــرا واعتزازا في صدر غرفة الجلوس .

كان آخر لقاء لي مع نزيهة سليم وانا اودع الوطن ؛ في ذات البيت من حي الوزيرية ؛.. والذي التقينا به كثيراكما أسلفت ؛ كانت هذه الزيارة ( الوداعية ) مع صديقي الاقتصادي الآكاديمي الدكتور طارق العزاوي والذي كانت اسرته هو الآخر مجاورة لآل سليم في ذات الحي ؛ ما كدنا ندخل البيت الغارق باللوحات المنجزة وتلك التي اجلت موعدها مع الفرشاة الى زمن مجهول ؛ حتى التقيناها (مع شقيقها الفنان الكبير سعاد سليم )؛ وهي لاتستطيع ان تتحرك الا بصعوبة بالغة من كثرما عانت من اوصاب وامراض ومحن ؛ في تلك اللحظة المؤلمة وانا انظر اليها وهي مهدمة متداعية : مرت على الذاكرة صورتها مع ست من زميلاتها (فراشات الخمسينات) وهن بملابسهن العصرية الملونة الزاهية لتأدية دورهن كتشريفات في حفلة البولو التي اقيمت برعاية الملك فيصل الثاني في بداية عام 1957والتي خصص ريعها لدعم جمعية الفنانين العراقيين .

وقبل ايام ؛ ودعتنا الفنانة الكبيرة الرائدة نزيهة سليم ؛ بعد ان تركت أورادها الزيتية الملونة وهي تنثر شذاها على النادر مما تبقى من لوحاتها اللائذة بالطبيعة الخلابة ؛ والهاربة الى عوالم الحرية ..بعيدا ... بعيدا ...عن وحوش غابة النهب .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)  مجلة الاسبوع العراقية ـ العدد19الصادرة بتاريخ 15 نيسان 1953 ـ بغداد
(2)  خالص عزمي ـ صدى السنين ؛ رابطة المناضل الجريح ـ الحوار المتمــــدن العدد (274) بتاريخ 2 / 8 / 2005
(3)  خالص عزمي ـ نزار سليم رساما ـ مطبوعات وزارة الثقافة والاعلام ـ 1988
(4)   موقع جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين ؛ ـ حكاية التأسيس ـ منارات وحقائق


 


 

Counters