| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

خالص عزمي

 

 

 

الأثنين 16/8/ 2010



من فيض مشاعري

خالص عزمي

ألاعظمية .. وذاك قرص الشمس يتحاور معها مودعا والصبية الذين ما زالوا يمرحون في ازقتها يلوحون لها وهي ترسل حرير خيوطها الذهبية ردا على تحيتهم
لقد تعود اطفال راس الحواش ؛ والسفينة ؛ والحارة ؛وراغبة خاتون ؛ والنصة ؛ والشيوخ .........
ان يحتفلوا باللعب ؛ والتقافز ؛ والصراخ احيانا ؛ بينما سماعات جامع ابي حنيفة النعمان تنقل حفل المولود النبوي الى ابناء الاعظمية وظيوفهم . اما العوائل القريبة من ساحل دجلة فقد اتخذت اماكنها على كورتيشها الهاديءمن زاوية الجسر الخشبي القديم في محلة السفينة حتى نادي النداء الاجتماعي الذي لايبعد كثيرا عن المقبرة الملكية . بينما تتولى عوائل البيوت القائمة على ذلك الكتف الأنيس من تلك المحلة ؛ بتقديم ما يتناسب وكرم الظيافة الى ذلك الحشد من الاسر الزائرة التي تنصت بخشوع الى المنشدين وهم يصعدون اصواتهم عاليا باشعار تمجد وتشيد بهذه السيرة العطرة . اما الطقس فرقيق المطلع ؛ ونث الشواطيء يزيده عذوبة وميسرة في الجلوس لساعات متأخرة ؛ ذلك ان الامان والأطمئنان وصيغة اللقاء وما به من حميمية تضفي كلها على الحاضرين حالة من الرغبة الملحة بالتواصل مع تلك السويعات السخية بالود والهناءة .

في الاماسي القمرية الصيفية : تنطلق عادة زوارق الشباب بألوانها الزاهية من جسر الاعظمية حتى جسر الصرافية وبالعكس وعلى جنبات أكثرها هواة العزف وقراءة المقامات المناسبة : كالاوشار ؛ والبهيرزاوي ؛ والجمال ؛ والخنبات ؛ واللامي الخ في حين تكون ضفاف دجلة عامرة بالجراديغ التي تحتشد عندها موائد عشاق السهر والطرب والحوارات الأنيسة ؛ من الذين يتلقفون ما يجود به مغنو تلك الزوارق من فصيح الشعر و بعض الزهيريات : ليرددوا بعد تسليم المقام ما تنطلق به حناجرهم من بستات تتلائم وتلك المقامات مثل ( يازارع البزرنكوش ؛ وعسنك ؛ وعلى شواطي دجلة مر ؛ وغنية يا غنية ؛ ويانبعة الريحان ؛وخيه لوصي المار ؛ والليلة حلوه وجميله ... وغيرها )

لقد كانت الاعظمية موئلا لمختلف طوائف العراق وملله ونحله ؛ وقد سكنها عدد كبير من اعاظم الشخصيات البارزة آنذاك في الطب والادب والفن والهندسة والقانون والعلوم والوعظ و أقطاب السياسة ( رؤساء وزراء ؛ ووزراء ؛ وسفراء ؛ وقادة احزاب ومحافظون وقضاة وغيرهم ) ؛ بالاضافة الىانها كانت مصيفا يعتد به لكثير من العوائل التي لم يكن يطيب لها السفر الى مسافات بعيدة بغية الاصطياف ؛ لهذا كنت تجد في تلك الفترة الزمنية مقاهيها ونواديها تجمعا لعدد وفير من فئات النــــــــاس ( وعلى مختلف الاهواء والمشارب ) حيث تلتقي كلها في جو من المحبة وصفاء الروح . اما المجالس فقد كانت هي الاخرى ملتقى كبار رجال الفكر والادب والشعر والفن والقانون ... الخ حيث تتلاقح بها الافكار وتنشد القصائد ؛ وتلقى المحاضرات وتتواصل المناقلة في الحوارت الهادئة وغيرها ؛ وعلى ذات المستوى ايضا كانت تقام معارض الفن التشكيلي لتتدفق بالوانها أو تزهو بمنحوتاتها وخزفها في اركان عدة من هذه المدينة الخلابة .كما كان للمسرح في بعض قاعات المدارس والمعاهد والنوادي الاجتماعية حضور واضح وتأثير مباشر على رواده الكثر

ومع ان اسواق الاعظمية على تلك الايام ؛ كانت بسيطة في مظهرها الا انها في ذات الوقت ؛ كانت غنية بموادها التي تعطي صورة حقيقية عن خيرها العميم ورخص اسعارها ؛ لذا فقد كنت ترى المتبضعين وهم يمثلون مختلف سكان المحلات وكأنهم في كرنفال عفوي لاتقف أمام تواصل عطائه اية عوائق او موانع ؛ لقد كانت تلك اللقاءات قريبة جدا من صورة واقعية لتجمع اسري واحد

في الصباح الباكر ايضا ؛ ترى افواج التلاميذ والطلبة وهي تتوجه الى مدارسها او كلياتها او معاهدها ؛ ولم اشاهد طيلة مكوثي هناك ان اما راحت توصل طفلها الى مدرسته خوفا عليه مما قد يتربص به ؛ ذلك لان مثل هذا الخوف لم يكن له اساس اصلا ؛وعليه فقد كان اعتماد الاطفال على أنفسهم مغروسا في طباعهم ؛ ولم يكن ذلك الاعتماد المباشر على النفس عفويا بل كان نتيجة للشعور بالامان والاطمئنان

اما حديقة النعمان فمع كونها صغيرة بمساحتها ؛ الا انها كانت متنزها عامرا تملأ حواشيه واركانه العوائل عصرا مع كل متطلبات النزهة والترفيه الاجتماعي ؛كما كانت السينما الوحيدة المجاورة لها هي الاخرى موضع اقبال جمهرة من الناس على عروضها المتواصلة . اما النادي الاولمبي في ساحة عنتر والذي اشتهر بأبهته واناقته وهيبته ؛ فقد كان موقعا متميزا من المواقع الرياضية والاجتماعية والترفيهيه ؛و قد كان لاعضائه دور هام في تفعيل الحركة الرياضية والثقافية والاجتماعية لا على مستوى مدينة الاعظمية وحسب بل على مستوى القطر بعامة .

لقد سقت تلك النبذة المتواضعة المشرقة ـــ وهي غيض من فيض ـــ لانتقل منها الى عرض لقطات سيئة سجلتها عدسة الوقائع اليومية لما حل بالاعظمية ؛ تلك الزهرة اليانعة العطرة ؛ من لحظة نزول قوات الاحتلال الغاشم على تربة الوطن الغالي مرورا بمآسي السنوات السبع العجاف وحتى يومنا هذا :

* جدران عازلة وفاصلة للمحلات والازقة والبيوت ؛ بطول خمس كيلو مترات وارتفاع ثلاث امتار ونصف المتر على الاقل .
* اهمال كامل للمدينة ؛ حيث ترى الازبال والنفايات مكدسة بشكل مقزز في الازقة والطرق العامة .
* انقطاع كبير في التيار الكهربائي ؛ وتوقف المولدات الخاصة عن التغذية لنفاد الوقود .
* انقطاع ماء الشرب عن البيوت لايام كثيرة دون اية معالجة فورية لذلك
* منع التجوال اولا ؛ ومن ثم مداهمات واعتقالات عشوائية تطال الاسر كافة صباح ومساء
* أعمال عنف مبرمجة و مدمرة تستهدف البيوت والمحلات ودور العبادة في مختلف بقاع الاعظمية .
* تعمد احداث نقص كبير في الاغذية والادوية وفرض حصار يومي خانق بطرق واساليب مختلفة .
* صعوبة التنقل من والى الاعظمية ؛ لانقطاع المواصلات وتوقف وسائط النقل
* انهيار تام لاقسام الطواريء في المستشفيات والمراكز الصحية في الاعظمية والتوقف عن قبول الحالات المرضية العاجلة ؛ مما اضطر العيادات الخاصة كافة لاستقبال المراجعات الطارئة كخدمة انسانية لتلافي تلك الازمة الحادة .

ان كل حرف في هذه الكلمة ينزف ألما مدمى من فرط ما اصاب مشاعري من احباط غمره الحزن على ما حل بتلك المدينة الوديعة النبيلة المتسامحة من أذى وحشي مدمر؛ ولقد سبق لي ان أتيت على وصف لجزيئات من شروره في مقالين سابقين نشرا لي على نطاق واسع (*) .

ان الاعظمية التي عرفت بشكيمتها وعلو مكانتهاعلى المستويين التأريخي والمعاصر ؛ سوف تنفض ــ لاشك ــ عنها غبار الظلم الهمجي الذي اصابها ؛ وستعانق شمس الحرية ثانية ؛ كما فعلت في كل ادوار مسيرتها الشجاعة ا الشماء .
 

(*) شارع عمر بن عبد العزيز ـ نشر بتاريخ 24/4 / 2006 ؛ ومحلة السفينة والاجتياح الاخير نشر بتاريخ 17 /5 / 2006



 

 

free web counter