| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. كامل العضاض
kaladhadh@yahoo.com

 

 

 

                                                                                      الأربعاء 7/12/ 2011


 

من بين الناس كان هناك شخص يُدعى نصير

د. كامل العضاض * 

لكم نرى بين الناس شخوصا ولا ندرك طوياتهم، إنما قد نحيط بما يتبدى لنا من مظاهرهم! وبهذا الخصوص نود أن نحكي اقصوصةً صغيرة من واقع حياتنا العراقية الصميمة، لنعرف كم يتضاهى المظهر مع الجوهر!

كنت مسافرا من لبنان الى العراق في واحدة من زياراتي الدورية الى بغداد الحبيبة. وكانت زوجتي، كالمعتاد، في غاية القلق عليّ لأسباب معروفة. وحينما وصلت مطار بغداد تفقدت هاتفي الجوال لأتصل بزوجتي لطمأنتها عن وصولي سالما، فلم أجده. وقررت أن أشتري هاتفا جوالا جديدا حال وصولي الى الفندق، او هكذا طمأنت نفسي. ولكني، حسب إرشاد المشرف في الفندق، ذهبت لهذا الغرض الى الكرادة - داخل لإقتناء هكذا جهاز، وحملت معي جواز سفري ووثيقة الأحوال الشخصية، بناءا على نصيحة المرشد العامل في الفندق. وحينما وجدت المحل التجاري الكبير المختص ببيع هذه الأجهزة، طلبت هاتفا جوالا بنوعية مقبولة، فأخرج لي صاحب المحل نوعا رضيت به، ثم سألني عن الوثائق المطلوبة، فأبرزت له جواز السفر ووثيقة الأحوال الشخصية، فقال هذه لا تكفي. فقلت وما غيرها تريد؟ قال بطاقة السكن وبطاقة التموين! فأجبته بأني لا أملكها لأني لا أقيم في العراق، فأجاب بلهجة قاطعة مانعة، إذن لا نستطيع أن نبيعك هاتفا جوالا! فأسقط في يدي. وجربت محلا مجاورا يبيع نفس الأجهزة، وكان الرد مماثلا، لا هاتف جوال بدون إستكمال جميع الوثائق، فرجعت خائبا للمحل الأول الذي كنت قد دخلته، محاولا هذه المرة إلتماس مساعدة صاحبه لي كي يسمح بإستخدام هاتفه الجوال لأكلم زوجتي ولو لدقيقة واحدة لإطمأنها بوصولي، وأدفع له ما يشاء من الأجرة، ولكنه رفض قائلا بأننا لا نقدم مثل هذه التسهيلات، وأنه لا يسمح لإحد أن يستخدم هاتفه الجوال الشخصي، فأسقط في يدي مرة أخرى، وإنتابني غضب مكتوم وحزن مشهود، ورأيت بأن لا فائدة تُرتجى من طلب المساعدة من الناس هنا في بغداد.

وبينما كنت أجر أذيالي خائبا وخارجا من المحل، لمحت شخصا نحيفا وملتحيا ويحمل مكبرة صوت في إحدى يديه، وبعض الأوراق التي بدت لي كبطاقات اليانصيب في اليد الأخرى يتبعني. إقترب مني الرجل وقال؛ "انا أعرف قلقك ورغبتك أن تطمئن عائلتك بوصولك الى بغداد؟" قلت له ، "نعم، صدقت، فعدم تمكني من ذلك خيب أملي من جهتين؛ الحظ العاثر من جهة، وبشهامة الناس، من جهة أخرى" فأجاب على الفور، "ليس كل الناس"، فهذا هاتفي الجوال تحت تصرفك، فهل تسمح برد الرقم الذي تريده، أينما يكون، وسأطلبه لك حالا!" وفرحت، وقلت له، "أنا أدفع لك ما تشاء"، ولكنه طالبني بالرقم الذي أود الإتصال به، فأمليته عليه، وسمعت صوت زوجتي متسائلا بلهفة، فكلمتها وطمأنتها وسألت عن إبنتي وأخبرتها بشأن فقدان هاتفي، وأن هذا الرجل الغريب عني قد سمح لي بالتكلم معها من هاتفه الشخصي، وطلبت منها ألا تقلق ريثما أشتري جهاز وأتصل بها كالمعتاد يوميا بعد ذلك، فإطمأنت، وانا رضيت تماما.

ثم أخرجت نقودا لإدفعها لهذا الرجل، وإذا به يرفض تماما، ويطلب زوجتي مرة أخرى قائلا لها؛ " هذا الهاتف سيبقى مع زوجك الى أن يتمكن من شراء جهاز جديد، فهو لا يملك كل المستمسكات، وقد يكلف صديقا له لشرائه له بالنيابة عنه، وفي كل الأحوال كلميه على هذا الهاتف الى أن يكلمكِ من خلال هاتف جديد يملكه". فتملكني عجب كبير!! وقلت له، "هل تعرفني يا رجل؟" فأجاب لا. "هل تريد مبلغ من المال؟"، أجاب لا والله؟. "إذن ماذا تريد؟ "لا شئ إطلاقا"، فأردفت قائلا، "لا شئ إطلاقا، وانت رجل على باب الله وتعطي هاتفك الجوال لشخص لا تعرفه ولم تلتقيه بحياتك؟!!" أجاب، "نعم أفعل ذلك، لأن هذا ما أشعرني به إيماني بالله، وهذا عمل لوجه الله!" فزاد عجبي وإعجابي هذه المرة بهذا الرجل، بل وتراجع شعوري بخيبة الأمل بالعراقيين، وهم أهلنا. فأردت أن أعرف أسمه وعنوانه وطبيعة عمله، فبين لي بأن أسمه نصير، نصير لا غير! أما شغله فهو كما أرى، أنه بائع جوال، وليس لديه عنوان، أنما أشار الى دكان خضروات وأخذني له، فقال "صاحب هذا المحل من أبناء العمومة، وإذا أردت إعادة الهاتف بعدما يتوفر لك غيره، فإرجعه الى هذا الشخص". ثم دلني على مطعم كباب ممتاز، ففرحت ظانا بأنه سيكون ضيفي، في الأقل، لرد الجميل، لكنه أبى ومن بعدها إختفى ولم أره قط بعد ذلك. وزاد عجبي وتملكتني الدهشة! هل لهذا الرجل دوافع أخرى؟ لا يبدو ذلك. هل ينتظر مني مالا كبيرا؟ سنرى. أم هل هو مجرد نصير من بين الناس؟ هكذا يفعل المكرمات ويختفي! يفعلها لانه يرى في ذلك معروفا في سبيل الله، أم أن ذلك من كرم الأخلاق ومن شيم الكرام؟ هل لا زال بين أهلنا مثله كثيرون، لا أدري، ولكنني أدري أنه جوال بسيط يحمل كرم الدنيا بين راحتيه.

وبعد مرور ثلاثة أيام، ريثما دبّر لي أحد الأقرباء هاتفا، إشتراه لي بالنيابة عني، قررت أن أعيد هاتف الأخ نصير له. كيف أفعل ذلك، ذهبت الى دكان الخضروات الذي دلني عليه في الكرادة - داخل، فأخذت هدية بسيطة ومبلغ لا بأس به من المال. وبعد السلام اعطيتهم الجوال وكيس الهدية، وظرفا فيه بعض المال ورجوت تسليمها الى نصير. فأخذوا الجوال وقبلوا الهدية وأعادوا الظرف، لآن تعليمات نصير لهم أن لا يستلموا أي مبلغ أو مال أبدا، وهذا شئ قالوا أنه " قطعي ولا يمكن الرجوع عنه، مهما حاولت"!! وهنا أسقط نصير هذه المرة بيدي، حيث لم يعطني فرصة بمقابلة شئ بسيط من كرمه الغزير!

وبعد أيام قلائل كلمني نصير يشكرني على الهدية ويعاتبني لأني كنت أحاول إفساد معروفه بالمال. وهنا وجدتني أقول له، " نصير، أريد أن أكون صديقا، هل يمكن أن أراك ثانية؟" فأجاب أرحب بك في كل وقت ولكني بائع جوال، فقد تصادفني يوما ما في أحد اسواق الكرادة، وداعا وليحفظك الله، وأغلق الهاتف"!!

ولم أجد نفسي إلا مرددا، وليحفظك الله يا نصير، فقد كنت من بين الناس شخصا يُدعى نصير.

 

7/12/2011 

- عضو اللجنة العليا للتيار الديمقراطي في العراق
* الكاتب، إقتصادي متخرج في جامعة ويلز في بريطانية، وله دراسات وبحوث إقتصادية قياسية عديدة، وعمل لسنوات
 بصفته مستشارا إقليميا في الأمم المتحدة في الحسابات القومية والإحصاءآت الإقتصادية.
 

 

free web counter

 

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس