| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. كامل العضاض
kaladhadh@yahoo.com

 

 

 

الخميس 6/8/ 2009



هل صار العراق حلما بعيدا ؟
مآزق وتداعيات خطيرة

د. كامل العضاض

1. المقدمات:
لا ينبع الحلم في مخيلّة الناس من فراغ، فهو وإن كمّن، كهواجس في الضمير اللاوعي، لكنه، بالتأكيد يعبّر عن رغبات وتمنيات وتوق الى أشياء لم تتحقق، او حال دون تحقيقها ألف سبب و سبب. والحلم، بهذا المعنى، هو ليس فقط الرؤية المنامية، بل الآمال التي يبنيّها الأفراد والناس والجماعات، على مختلف مشاربهم، في يقظتهم وفي سعيهم اليومي لتحقيق رغباتهم، سواء بالفعل المباشر أو بمجرد دعم سعي آخرين لتحقيق نفس الآمال، او حتى بمجرد الإنتظار لتفرج قوادم الأيام، وربما السنين، عن شروق شمس هذه الآمال الوردية. ولكن، للآسف، بين الأحلام، سواء كانت أحلام منام أو يقظة، وسواء كانت وردية، خيالية، أو رمادية، أو شبه واقعية، وبين معطيات الواقع الميداني وتفاعلات او صراعات العوامل الفاعلة فية، بون شاسع، بل هو بون قد يصل في حدته الى عمق إسفين! ولسنا هنا نتحدث عن كل الأحلام التي يمكن ان تخالط مخيّلات الناس، بل نحن نتحدث عن أولئك الذين يحلمون، (بل ومنهم من ينتظر أو يترقب)، بوصول سفينة العراق الواحد الموّحد، والمسالم والديمقراطي والرافل بموارده الطائلة والسائر بثبات نحو شاطئ المجتمع العراقي القائم على المواطنة والإنسانية والحرية والعدالة، بل والمتهيأ ليلعب دوره الحضاري الإنساني، الإقليمي والعالمي، كما كان شأنه في التأريخ. نحن نتحدث عن مثل هذه التطلعات، او لنسميّها الأحلام، وهي أحلام بالمقارنة مع واقع العراق اليوم. هل هذه هي أحلام فئة قليلة من الناس العراقيين أم هي أحلام الغالبية الساحقة منهم؟ على صعيد الصوت الشفاهي، لم اجد، حتى اليوم، من لا يصادق على مثل هذا الحلم، ناهيك عن القائلين بإستحالة تحقيقه خلال ما تبقى لهم من سنوات العمر. فهناك من يقول ان هذا الحلم أصبح حلم مستحيل، ويقدمون أسبابهم، وبعضها او حتى أغلبها اسباب معقولة وموضوعية، وليست هي مجرد إرهاصات تشاؤمية. نقول، هل أضحى بقاء العراق موّحدا، غير منقسم او غير مفتت، جغرافيا، و/او سياسيا، مستحيلا فعلا؟ وهل صار متعذرا على العراق أن ينجب قادة جدد، وحكومات تمنع إستباحة موارده، وتعيد له ليس فقط لحمته الإجتماعية الممزقة اليوم، بل ضوابطه الأخلاقية الفردية والإجتماعية التي تهشمت بفعل تزييف وعية، وبفعل الطبخ الطائفي والعرقي الذي اَضحى مصدرا لتسميم كل النفوس المستهلكة لطعام هذه المطابخ المتعفنة، بما افرزته من أخلاق فاسدة، نلمسها اليوم مباشرة ونراها طاغية، سواء بغياب، الصدق أو بتفشي الفساد، بل والغدر والخيانة، و بمقاييس غير مسبوقة بتأريخ العراق، حتى بأتعس مراحله التأريخية، أو سواء بما يشهده العالم ونشهده، نحن كعراقيين، يوميا، من كراهيات منتجة ومن مماحكات ومساومات وإلتفافات ورشاوي وأكاذيب على صعيد الناس، ( ليس كل الناس طبعا)، والمنظمات والأحزاب، بل والأخطر من كل ذلك على صعيد الحكومة و مؤسساتها، وخصوصا التشريعية منها؟ ولعلنا اليوم، بفعل ما نرى من إنحطاطات، اصبحنا نميل الى ترجيح المدرسه القائلة بتسييد العوامل الذاتية، أي الأخلاقية والإجتماعية والنفسية، على فعل العوامل الموضوعية، أي التأريخية والجغرافية والإقتصادية والسياسية، كواجهة للصراعات من أجل السلطة والموارد. نقول نعم، في حالة العراق، وبشكل خاص، نجد أن الغلبة في خذلان قضية خلاصه من محنه الراهنة، اليوم، هي لعوامل ذاتية، نشأت بفعل تراكمات العوامل الموضوعية، فاضحت الآن هذه العوامل الذاتية، هي بذاتها، أفعال مسببة، وليست مجرد عوامل ناشئة بعوامل موضوعية. فالنتيجة هنا قد تحوّلت الى سبب، أي أن آثار أو نتائج المرض أصبحت هي المرض!!
ونقدم هذا المقال الموجز، هنا، كمقدمة، سنلحقها، كما نأمل، بتحليلات مفصّلة نسبيا عن إشتباكات العوامل المتضافرة الآن لتدمير العراق، ليس فقط كحلم براق للمستقبل، إنما أيضا، كماض زاه، تهالكت عليه، في غفوة التأريخ، الغربان، فطردتها، بعد ليل طويل، الثعالب، وتركته، يا للمأسآة، جيفا مرمية تتناوشها الضباع اليوم من كل حدب وصوب!! ولعلنا في هذا المقال الموجز، سنتناول خمسة أسباب أساسية لإدعائنا بإحتمال ضياع العراق، سواء كما كنا نعرفه، أو كما نحلم به للمستقبل، ثلاث منها رئيسية، ونصفها، هنا بالموضوعية، وإثنان من هذه العوامل نصفهما بالذاتية، او الأخلاقية، ومن ضمنها تشويهات الوعي والعقل، بما أفرزته من مآزق وتداعيات.

2. عوامل تهدد وجود العراق، كما نعرفه أو نريده:

ألف؛ عوامل موضوعية:

أولا؛ الموروث التأريخي:
في مقدمة العوامل الموضوعية، ياتي سبب موروث تأريخيا، وهو ذلك المتعلق بنتائج الحرب العالمية الأولى، إذ أُلحقت منطقة شمال العراق التي كانت اصلا جزء لا يتجزأ من العراق الآشوري والكلداني، ومن ثم العربي الإسلامي، على مدى قرون التأريخ المكتوب، أُلحقت بالعراق، على الرغم من نزوح ثم إستيطان أقوام كردية، دانت بالإسلام منذ خروجه من الجزيرة العربية ، ولكنها تملك مع ذلك، سماتها وخصائصها الأثنية ولغتها او لهجاتها اللغوية الخاصة بها، فضلا عن تقاليدها في العيش الرعوي تحت مظلة كيانات عشائرية. وهي وإن لم تفلح في تأريخها بتأسيس أو إنشاء دولة مركزية أو إمبراطورية تمتد الى دول الجوار، مثلا، بغض النظر عن الإدعاء بقيام الدولة الميدية، كحاضرة وحضارة تأريخية كردية قبل نشؤ الدولة العربية الإسلامية، فهناك مئات المصادر، ومنها كردية، تنفي هذا الإدعاء. ولسنا في سبيل الدخول في خضم هذا النقاش، لأن دعوتنا، هنا، تقوم ليس على إنكار حق الأكراد بدولة خاصة بهم، سواء كانوا أقوام رعوية وافدة أو أصلية في شمال العراق، بل على العكس، دعوتنا تقوم على أساس التسليم بهذا الحق، بغض النظر عن مبرراته التأريخية. فنقول إن من تبعات مؤتمر سانت ريمو الذي عقده الحلفاء في عام 1919، لتقسيم ميراث الدولة العثمانية، هو أنهم نقضوا ما إتفقوا علية في مؤتمر سايكس بيكو في العام السابق لمؤتمرهم هذا، بحق الكرد بإنشاء دويلة خاصة بهم شمال العراق. بل والأتعس من ذلك هو أنهم لم يقروا لهم حتى بنوع من الحكم الذاتي الذي قد يلبي حاجاتهم وخصائصهم القومية. وهكذا، أُخضعوهم لدولة مركزية عراقية، بأغلبية عربية ساحقة، مما خلق الشروط المسبقة لقيام تمردات وحروب لا تنتهي بين الحكومة العراقية المركزية والأكراد في أعالي جبالهم. ونفس هذا الوضع تكرس في إيران، اما في تركيا، فوضع الأكراد، وهم يشكلون الغالبية العظمى من كل الأكراد المنتشرين في أربع دول متجاورة، أخذ طابع الإلغاء الكامل للوجود الكردي، لغة وشعبا. وفي سورية وإيران كان القمع والتشريد سياسة ثابتة ضد الأكراد. من هنا ولدت شروط التمرد والحروب و ما صاحبها من دمارات وضحايا بشرية، عزيزة لبشريتها، بغض النظر عن طبيعة القضية التي ماتوا من أجلها أو بسببها. من هنا نشأت مشكلة أثنية عنيدة واجهت كل الحكومات العراقية المركزية منذ نشؤ الدولة العراقية، بحدودها التي حددها الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى، وسلخوا منها ما شاؤا، والذين قسموا وتقاسموا أسلاب الدولة العثمانية الشاسعة. فهُدرت موارد نادرة في الحروب التي كانت تشن ضد الأكراد قي شمال العراق، ومات مئات الألوف من المتقاتلين والأبرياء، وضاعت فرص عظيمة للتنمية والإزدهار والتآخي. ورغم محاولات كثيرة لإعطاء حكم ذاتي للاكراد في منطقة سميت بإسمهم، كردستان العراق، لتمييزها عن الكردستانات الأخرى التي يسعى لها الأكراد في دول الجوار، تركية وإيران وسورية، لم يستتب الأمن ولم يحل الوفاق بين الكرد والحكومة المركزية العراقية، أيما كانت هويتها، حتى مع المتعاطفة منها مع تطلعات الكرد، كما كانت عليه الحال مع حكومة عبد الكريم قاسم الذي إحتضن ملا مصطفى البرزاني، ووضع شعار الكرد كجزء من شعارالعلم الذي أقترحه للعراق. ولعل المشكلة، في اساسها، تكمن في ذلك التغاضي المتغابي عن طموح الأكراد بإنشاء دولة خاصة بهم. فالعقل الحصيف، يقول، أن لا وحدة لشعب بالإكراه، إذ لابد، آجلا أو عاجلا، أن يختل ميزان القوى، فينفصل الأكراد. ثم أن مبادئ حقوق الإنسان و حق تقرير المصير، تقّر للأكراد بحقهم في الإنفصال، إن هم شاؤا. فلماذا الحروب وحرق الموارد والبشر الأبرياء؟ لماذا لا يُجابه الأكراد بتحديد إنتمائهم؟ هل يودون الإنفصال، أم البقاء بعلاقة فدرالية مع العراق؟ ولكن، الأكراد حتى قبل حسم خيارهم هذا يتصرفون الآن، كدولة مستقلة، وذلك، على الرغم من ان ما حققوه من مكاسب قومية عبر تأريخهم في العراق المعاصر، لا يقارن بحالهم في أية دولة من دول الجوارالتي يوجدون فيها الآن. علما أن تعدادهم السكاني في العراق هو الأقل بكثير بالمقارنة الى أعدادهم في تركيا وإيران، وبدرجة أقل في سورية. بل هم اليوم يطالبون بتوسيع حدود دولتهم غير المعلنة، لتشمل مناطق عراقية، معروفة بعراقيتها عبر التأريخ، بل حتى كركوك، فهي لم تكن منذ ماض غير بعيد ماهولة بأغلبية كردية، بل تركمانية وطوائف اخرى عربية وغير عربية.

من هنا نشأ لدينا عامل موضوعي تاريخي، لصراع محتمل، سيستمر حتى لو أستقل الكرد في دولة مستقلة او خاصة بهم، كما هم عليه الآن، من الناحية العملية. إذ ليس امامهم للإستقلال التام، الآن، سوى خطوة ونصف خطوة، ولكنهما الأصعب، فمن سيعترف بهم؟ وهل ستسكت دول الجوار عنهم، لاسيما تركيا وأيران؟ وعليه، نؤشر هذه المشكلة، هنا، بانها ستكون سببا في ضياع المزيد من موارد العراق المستقبلية وإستقراره ووحدته الجغرافية، وحقوق مواطنيه من غير الأكراد في شمال العراق، ومن هنا نرى بان العراق، كما نعرفه، سوف لن يعود، وإذا عاد بالقسر و القوة، فسيكون عراق أشبة بعراق صدام، وعندئذٍ سوف لا يرغب به أحد من الحالمين بعراق ديمقراطي إنساني مسالم!

ثانيا؛ صراع الموارد:
تمور أرض العراق بالموارد الطبيعية، وفي مقدمتها النفط والغاز، ومعادن أخرى. كما يخترقها رافدان أو نهران عظيمان، هما دجلة والفرات، ولكن منابعهما تقع في تركيا، الجارة الشمالية، ويصّب بدجلة بعض الروافد التي تنبع من أراض إيرانية مجاورة الى الشرق منه. فما هو البعد الجيوسياسي المتعلق بهذه الخصوصية؟ يتلخص هذا البعد، بوجود مطامح ورغبات شديدة لدول قوية، تعتمد البترول والغاز في صناعاتها ولنموها ولتعزيز أستراتيجياتها الأمنية والدفاعية به. ونظرا لندرة هذه الموارد على سطح الأرض، تصبح لهذه الدول المتحكمة اليوم في موازين القوى، حاجات وجودية، اي حاجات من أجل البقاء، طالما لا يتوفر بديل عنها. أما الموارد المائية التي هي عصب الحياة للإقتصاد والشعب العراقيين، فما دامت منابعهما تأتي من دول أجنبية، فمعنى ذلك، أن هناك من يستطيع التحكم بكميات المياه المسموح بإنسيابها للعراق، وفقا لمصالحه الحقيقية أوالمفترضة. وحينما تغيب هذه الحقائق الجيوسياسية عن العقل الإستراتيجي العراقي، سيفشل في رسم منهجه الإستراتيجي للتعايش السلمي مع دول منابع مياهه، وإدارتها بحكمة، كما سيفشل في إدارة وحماية موارده الطبيعية، وخصوصا من النفط والغاز، لاسيما وأنه يعرف أنه يملك الإحتياطي الأغزر والأطول بقاءا في الأرض. فحينما تغيب هذه الرؤى العقلية عن كيفية حماية العراق، كموارد وأرض ومياه، أساسأ، لابد أن يتخبط وقد يضيع العراق، وخصوصا، حينما يقوده ربابنة، متحاصصون ومتشاحنون، وغير أكفاء، ولمعظمهم أجندات خاصة، وبعضهم مرتبط، بشكل أو بآخر، بمصالح أو أجندات أجنبية، مجاورة أو غير مجاورة، ناهيك عن عدم تورعهم عن التوظيف الإستحواذي الفج للدينقراطية، سواء بادوات تخدع المواطن وتزيّف إرادته، كإدارتها بقانون إنتخاب يعتمد القائمة المغلقة، أوبتوظيف الدين، ولكن المزيد حول هذا الموضوع لاحقا. إن النقاط الجوهرية هنا، كما أفرزتها التطورات السياسية منذ إحتلال العراق حتى الآن تشي بالظواهر الخطيرة الآتية؛
1- من المعلوم لدى المختصين بإدارة الصراعات، بأن من المبادئ الميكافيلية لإدارة أي صراع بين طرفين، هو أن لا تحتدم مع الطرف الآخر إلا بعد إنهاكه، لأن في ذلك توفير في التكاليف والتضحيات البشرية. وحينما تتمكن منه، فينبغي إضعافه الى أبعد الحدود، أو حتى تقسيمه، إن أمكن، لتفرض عليه شروط مصالحك المستقبلية. ويبدو أن هذين المبدئين قد طبقا من قبل دولة الإحتلال، بدعم من حلفائها، فقد أُُنهك النظام العراقي السابق لثلاثة عشر عاما قبل الإنقضاض عليه، بحجج واهية، وبعضها ملفق. وإبان السنوات الأولى من الإحتلال، أُقيم نظام حكم محلي طاثفي وعرقي، يقوم على المحاصصات والمساومات، ويضع كل الشروط اللازمة لنشؤ الصراعات العنيفة المذهبية، والتفرّدات العرقية؛ بل ووصل الحال الى نشوب ما يقرب من حرب أهلية، لاسيما وإن تأجيجها لم يكن صعبا، طالما هناك لاعبون متضررون، وقوى سلفية وإرهابية مسلحة، وبقايا فلول نظام يملك الأموال الطائلة، وجحافل من العسكريين المطرودين والمبعدين من البعثيين السابقين، او الحاليين، وطالما هناك دول جوار لها مصلحة في جعل الوجود الأمريكي غير مريح في العراق، وهكذا مضت عمليات التوظيف والإرهاب والتدمير، كل جهة تأخذ منها ما يناسبها، ولكن الثمن الأساسي كان ولا يزال يدفعه الشعب العراقي، اما الأمريكان، فيدفعون بعض الكلفة الهامشية. وحينما تيقن الأمريكان، حتى قبل مجئ إدارة أوباما، أن اللعبة قد تمادت أكثر من اللزوم، كان لابد من إحياء بعض الوجود لدولة عراقية، ومساعدتها بجد لكبح الإرهاب القاعدي والسلفي، ثم الإلتفات لإستمالة من يستجيب من هؤلاء لإموالهم، و قسم منهم، هم من سميوا، بعد ذلك بالصحوات. وإستدعى الأمر، أيضا، الإلتفات، لوضع الطعم، نحو الجماعة المسماة بالمجلس السياسي للمقاومة، اي البعث بفلوله وأجنحته، بهدف شلّهم أو التهديد بهم، واللعبة مستمرة! ولكن يبدو، بأن الأوان قد آن لدولة الإحتلال وحلفائها لقطف الثمار، وهو النفط وإمتيازاته، وضمان تدفقه للولايات المتحدة ولحلفائها لثلث قرن من الزمن الآتي، في أقل تقدير. فقد أوصلوا القوى الحاكمة الان في العراق الى حالة من الضعف، بحيث صارت تقارن بين أن تُزاح أو يُعاد إنتخابها، فما هو الثمن المطلوب منها دفعه، فإذا كان ذلك بمنح إمتيازات نفطية لعقود قادمة، فلم لا، إذ يمكن تبرير الأمر، بأنها بحاجة الى عوائد لإعادة بناء العراق! وان لا أحد سيأخذ النفط مجانا.

2- اما الموارد المائية، فلأنها عصب الحياة للعراق، فإن تدخلات دول المنبع، و حبسها لحصة العراق في مياهه، سترقى الى مستوى خنقه إقتصاديا وبيئيا. ولكنه من الضعف بحيث لا يستطيع أن يوقف تركيا وإيران عن ذلك، لذا فأنه سيحتاج العون الأمريكي، اي انه سوف لا يجد مجير له في بلواه سوى الولايات المتحدة ونفوذها الدولي، مما يعني ان العراق لم يعد حرا في إيجاد حلفاء لنصرته، ولا حتى القوانين الدولية لتنظيم إنسياب المياه في الدول المتشاطئة. الا يعني ذلك ان العراق يفقد إستقلاله وخياراته، ويصبح بلدا مستباحا، تُملى عليه الشروط؟!

ثالثا؛ تدخلات دول الجوار وأجنداتها:
ليس هنا مجال للإسهاب في هذا العامل، ولكن خلاصته تتجلى بإيصال العراق الى حالة من الضعف والوهن، ولتحويله الى ساحة للتفاوض، عبر العنف والسلاح القاتل للعرافيين، بصورة أساسية، مع الولايات المتحدة، فإيران لها مطالب، وسورية لها مطالب، ودول الجوار الأخرى لها مطالب، ليس عند العراق لذاته، بل لدى الولايات المتحدة التي يسميها الجيران الشرقيون بالشيطان الأكبر، ويسميها الجيران من الغرب، برأس الإمبريالية، ويسميها المقاومون والإرهابيون، على حد سواء، بدولة الإستعمار الجديد، أو الإستكبار، وهكذا! ولكن لا مانع لدى كل هؤلاء، " المجاهدين"، من التفاوض معها عندما تحين الساعة، وذلك حالما تلتفت إليهم الولايات المتحدة بعين العطف، او قل بعين الإعتبار!!

فمعلوم لدى كل من دول الجوار هذه بأنها، حين لا تستطيع إجتزاء العراق، توظّفه، عبر وكلائها ومن ترسله من مرتزقتها وبهائمها لتدمير الناس والحياة في العراق، بهدف إيصال رسائلها الى الأمريكان. كما تستطيع إيران التي تملك القدح المعلى في النفوذ والحلفاء والقوى المذهبية و ميليشياتها التي رعتها وموّلتها، قبل سقوط النظام السابق، ومدتها وتمدها بالأسلحة والمتفجرات لسنوات بعد سقوط ذلك النظام، تعتقد أنها تستطيع أن تفرض أجنداتها ليس فقط على دولة الإستكبار، الولايات المتحدة، وإنما على دولة العراق المترنحة من كثرة الضربات والمصائب، لاسيما منها ما تصنعه الأخيرة هي بيدها عبر أحزابها الطائفية المهيمنة على السلطة ومؤسساتها، ومن خلال التناحر والمحاصصات والفساد والتسقيطات المعنوية والمادية والولاءات الخفية، وهنا يأتي دور العوامل الذاتية التي سنتناول منها عاملين فقط في أدناه. فهل سيبقى العراق سليما كما كان؟ وهل سيؤول الى عراق أفضل كما نحلم أو نريد؟

باء؛ عوامل ذاتية:

أولا؛ الإنقسام الطائفي والعرقي
بعد سقوط النظام في عام 2003، توافدت مع المحتلين قوى ومنظمات وأحزاب، تشكّل معظمها في الخارج، كمعارضة للنظام السابق. وحمل بعضها معه أجندات متوافقة مع الأغراض السياسية للدول التي آوتهه و موّلتهه، بل والتي شكلت لبعضهم مليشيات عسكرية. ويمكن تقسيم هذه القوى الى قسمين، الأول وهو الأكثر تنظيما وتمويلا وتسليحا، وهذا يشمل القوى والأحزاب الدينية أو بتعبير أدق الدينية المذهبية الإسلامية، وخصوصا الشيعية منها. ومعروف ان الأخيرة كانت هي الأقوى تمويلا وتنظيما، وإن إيران كانت مقرها وملاذها. والقسم الثاني، وهذا يشمل قوى وأحزاب وشخصيات تقيم شعاراتها على أساس الديمقراطية والعلمانية، ولكنها لم تكن تستند الى جماهيرية منظمة داخل العراق. ومقابل هذه القوى الأكثر تمويلا وتجهيزا، كانت هناك قوى ديمقراطية، لم تبرح قياداتها العراق، بل لاذت الى شماله الذي انفصل عمليا عن سطوة صدام، بعد هزيمته في " ام المعارك" في عام 1991. وفي مقدمة هذه الأحزاب، كان الحزب الشيوعي العراقي الذي لم يكف صدام عن ملاحقته وتدمير قواعده داخل العراق. وكان الحزب الوطني الديمقراطي قد لاذ بالصمت، بعدما لم يعد هناك مجال لأية قوى، أو حتى أفراد لممارسة أي نشاط سياسي تحت قبضة صدام الحديدية. اما الحزبان الكرديان، فقد وجدا متنفسهما في كردستان العراق، موطنهما، تحت حماية الولايات المتحدة والحلفاء، إذ إنفصلا عمليا، واسسا لهما أدارة إقليمية، كانت تتلقى دعما دوليا، وحصة من موارد العراق المحجوزة تحت نظام، "النفط مقابل الغذاء".

ان هذه الخريطة السياسي للقوى التي تصدت للعمل السياسي بعد سقوط النظام وإحتلال العراق، كانت أمام مفترقات، إذ لم يجمعها برنامج سياسي، ولا إستراتيجية لكيفية إدارة النضال أو العمل السياسي تحت الإحتلال، على الرغم من أن الجميع تنادوا لتأييد أقامة نظام ديمقراطي تعددي. و كان هناك، بلا شك، في صفوف جميع هذه القوى أفراد وشخصيات حسنو النية، و لهم حس وطني، ولكنهم لم يملكوا خيارات كثيرة أو واقعية. ولا يمكن مضاهاة القوى والأحزاب الدينية وتلك التي جاءت بمعية المحتلين، من جهة، مع الأحزاب التأريخية العراقية التي لم تبرح العراق، في الأقل، كقيادات، رغم قسوة الظروف، من جهة أخرى. فهذه القوى الأخيرة قد لا يشك أحد في وطنيتها وتاريخها النضالي، ونحددها، دفعا للإلتباس، بالحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي، فهذان الحزبان، صفيت قواعدهما التنظيمية داخل العراق، تحت نظام صدام، فالعودة الى الساحة وهي تحت الإحتلال تطلبت منظورا عمليا، لإلتقاط الأنفاس ولإعادة بنا تنظيماتهما. وعليه، فالحديث سينصرف الى القوى السياسية التي هيمنت على الساحة السياسية، وقبلت التعاون مع المحتلين، لإقامة مجلس حكم يقوم على المحاصصة الدينية والعرقية، متناسين مبدا المواطنة العراقية. وكان ذلك هو المدخل المهلك الذي أدى الى تأسيس النظام السياسي الطائفي، بعيدالإحتلال، لأن القوى الدينية التي كانت لها الحصة الأكبر في مجلس الحكم، هي التي بنت كل وجودها السياسي اللاحق على أساس التعبئة المذهبية والشحن الطائفي، مما قاد، بطبيعة الحال، الى تعبئة وشحن طائفي سني مقابل شيعي، وقابل كلاهما شحن آخر، عرقي. وهكذا إنقسم العراق الى طوائف وأقوام، شيعية وسنية وكردية، وهكذا تم توظيف الدين والعرق من اجل المحاصصة والتقسيم، وهكذا ضاع العراق او أُختزل الى هذه المكونات الثلاثة. فبدلا عن ثقافة الإنتماء الوطني، تفشت ثقافة الطوائف والأقوام، وبدلا من إقامة دولة عراقية مدنية موّحدة، تصاعدت دعوات هذه القوى من المكونات الثلات، للتقاسم، مرة بأسم الوفاق، ومرة بأسم حكومة وحدة وطنية، و هكذا أخضع كل شئ للمحاصصة، إبتداءا من الدستور الى الصلاحيات الى الدعوة لإقامة فدراليات، كما تداعى لها جماعة الحكيم، كنظير للفدرالية الكردية، وهكذا تمت محاصصة المواقع، والمناصب والإمتيازات، وهكذا خيضت الإنتخابات العامة مرتين، بتوظيف الدين والمذهب والمرجعية، ناهيك عن الأثنية والقومية. أليس في كل هذا إرساء لمشاريع لتدمير العراق وإنهائه، كوطن تأريخي لكل العراقيين؟ من هنا، نضع هذا العامل، إن بقي مفعولة في الإنتخابات العامة القريبة القادمة، في مقدمة العوامل التي ستفضي الى غياب العراق الواحد والموّحد خلال نصف العقد القادم من الزمان.

ثانيا؛ تدهور الأخلاق الفردية والعامة، وتصفية الطبقة المثقفة؛
تتدهور أخلاق الأفراد والجماعات، ليس فقط بغياب التربية العائلية والمدرسية، إنما، أيضا، حينما يعمّ نظام حكم سياسي لا يستطيع معه الفرد ان يكسب فيه قوته بدون نفاق، و لا يستطيع ان يتسائل دونما تعريض نفسه وعائلته للموت، وعندها يصبح الكذب ليس فقط تقية، بل وسيلة أيضا للعيش والتكسّب وبلوغ المقامات. و تتدهور الأخلاق عند إنحلال القيم لدى أولي الأمر والقادة، كما حصل بعد سقوط الدولة بكاملها، حيث اصبحت الحالة، حالة، " كلمن إيدو إلو"، كما يقول أخواننا السوريون. فإبتداءا من التعليب والشحن الطائفي، وبإسمك يا حسين الشهيد، سُرقت الأموال الطائلة، وُسرق النفط الخام و زُورت الشهادات. وتولى الروزخونيون أرفع المقامات، وزُيفت إرادات الناس الإنتخابية تحت شعارات المرجعية، وسُيرت قوافل وحشود اللطم والعزاءآت لما يقرب من نصف عام من كل سنة. أما التدخلات الفاضحة لجارة العراق الشرقية، فيسكت عنها قادة البكاء على آل البيت، ولم يدنها أحد منهم على مدى ما يقرب من سبع سنوات من التدخل والتجاوز على إستقلال العراق وحقوقه، بما فيها حقوقه في شط العرب و حقوقه في مصبات الروافد التي تصب في نهر دجلة، وحقوقه في حقوله النفطية المتاخمة لحدود إيران.
والأدهى من كل ذلك، أن تفلت الأمور الى حد القتل على الهوية، بل وتجري عمليات إغتيال المثقفين والعلماء وتصفيتهم، ناهيك عن تحريم كل الحريات الشخصية، للنساء، وللاقليات غير المسلمة، وتبادل نسف الجوامع والحسينيات، وما شابه. والعراق يغرق على مدى سبع سنوات في حمامات القتل والتفجير المتقابل. وهكذا توفرت بيئة خصبة للبهائم السلفية القاعدية ولموآزريهم في الداخل والخارج لتحويل العراق كله الى مقبرة سوداء، فتعطلت الحياة، وضاعت الخدمات، وطمس العراقيون في الظلام؛ لا كهرباء، إلا لماما، ولا ماء صالح للشرب، ولا فرص عمل، ولا حتى أفق للحياة! فما هو المتوقع إذن؟ لاشك، إن طلب النجاة، في هذه الحالة، سيكون هو المخرج المنطقي. فالهروب و الهجرة وبيع الغالي والنفيس، للخروج الى المهاجر، لطرق الأبواب ولتلمس كل السبل، بما فيها التهريب، والمغامرة حتى بالنفس في هذا السبيل، كان هو أحد المخارج. فهرب الملايين من العراقيين، وفي مقدمتهم زبدة العراق من المثقفين والكتاب والعلماء، فأخليت الساحة ليستحوذ جهلة ومشعوذون على الكثير من المواقع في مفاصل الدولة والمجتمع. وهناك من وجد الإنتماء للطائفة والمذهب هو المخرج للنجاة، بل وشارك في قتل آخرين لا يعرفهم من المذهب الآخر، لأن تلك اصبحت وسيلته ليبقى. وهناك، من وجد إمتهان الرشوة، وهناك من النساء من إمتهنّ حتى البغاء ليبقين، وهناك، من زوروا واعتلوا المنابر لينالوا الحضوة، تحت خيمة المحاصصة. فغاب العقل الذي قد يعي هذه الحقائق الجديدة السوداء و ما ستتركه كل هذه السلوكيات اللاأخلاقية على مستقبل الأطفال والأحفاد. فالكذب في كل الأحوال، اصبح القاعدة لا الإستثناء، وأصبح إحتراف السرقة لدى الموظف والعامل، وحتى الوزير وبطانته مألوفا. اليس غريبا أن يسمع المرء على مدى ثلاث سنوات عن سرقات ورشاوي، وتهريبات وتزوير شهادات، بل وتفجيرات وإغتيالات، ومنها ما طال ناس من أهلنا، ولم نسمع، إلا نادرا، بكشف الحقائق، ولا بمحاكمات، ولا أحكام صدرت على محكومين، حيث نسمع بإحالات على القضاء، وماذا بعد ذلك؟ لقد إغتالوا شقيقي، مثلا، منذ ما يقرب من سنتين، ومنذ اشهر سمعنا بإعتقال القاتل، ونسأل هل سيحاكم؟ هل سنعرف شيئا؟ فلا جواب، علما ان شهيدنا هذا كان واحد من قادتهم في المجلس الإسلامي الأعلى. وإذا كان هذا هو أمر القادة، فماذا سيكون عليه أمر الناس العاديين البسطاء، الذين ثقبت رؤوسهم بأجهزة الحفر الكهربائية؟!
ان هذا الوصف المركز لتدهور وإنحطاط الأخلاق، بهذا الشكل المريع، وخصوصا، بعد سقوط النظام السابق، من المسؤول عنه؟ هل هم الناس أنفسهم، أم القادة الجدد، ممن قفزوا للسلطة بعتلات أمريكية واموال إيران، أم غيرهم ممن وجدوا لهم رعاة آخرين، أم الإرهابيون الظلاميون؟ أم هو المسؤول الذي يدير دفة الحكم أو يشارك فيه؟. وكل ذلك كان يجري تحت عين المحتلين الذين يعلنون، ليل نهار، أنهم جاءوا لبناء الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. فكيف تمر هذه المشاهد كل يوم، و لا يفعلون شيئا لفضحها، ناهيك عن وقفها؟ اليس هذا سؤال وجيه؟؟
نخلص من كل ذلك ، بان الأمر لا يتوقف عند إنهيار الأخلاق والخيانة والغدر، بل أن العراق فقد افضل مثقفيه، واكثرهم اخلاقية وإلتزام بالمهنية والكفاءة، وإن تعويض مثل هؤلاء لا يتم بسنة أوسنتين. و هكذا فقد ويفقد العراق طبقته المتوسطة، وهي المحرك الإجتماعي والفكري للإبداع والتقدم. وهكذا فقد العراق فرصه للخلاص من واقعه المدمّر. ومع ذلك نجد أن تلك القوى المحاصصية، تحاول تغيير جلدها، وتتقدم بثوب جديد لتطالب الناس بإعادة إنتخابها لأربع سنوات أخرى، وتتمسك بالقائمة المغلقة للتزييف؛ وكل هذا تفعله ولا تتوارى عن الأنظار خجلا او خوفا!!
فهل من إشارة الى طريق جديد، للخروج من هذه الأنفاق المظلمة؟

3. علامات للإرشاد الى طريق جديد:
أمام حصيلة ما تقدم، نحن أمام مآزق حقيقية. هل سنخلي الساحة لمن هشموا العراق وسينهوه، ام ثمة أمل في الأفق؟ لا يكفي القول المنطقي، أن طريق العراق الديمقراطي مرهون بوجود سالكيه من الديمقراطيين العراقيين الاحرار الذين لم يتلوثوا بكل هذه الآثام بحق الناس والعراق. فهل هؤلاء حاضرون لتلقي أعباء المسؤولية لإنقاذ العراق في الإنتخابات القادمة ؟ أين هم ؟ وما هي برامجهم، فالتحديات قد بلغت مبلغ الحياة أو الموت ؟ لماذا لم ينظموا أنفسهم، لماذا لا يخرجوا الى الناس ببياناتهم وخططهم وبرامجهم؟ كلها أسئلة مشروعة، يسألها رجل الشارع، وهو لا يدري بما يدور، من جهود بعضها يخيب، وبعضها يصيب. فهذا هو الأمل المرتجى، ولكن، لمن لا يعلم، فأنها جهود لا تزال تمثل مشروعا متأخرا وتتنازعه، حاليا، عواصف وأهوال و مشاكل، بعضها ذاتية أيضا.

هذه هي طريق محتمل للنجاح، وهي في دور المخاض، فما هي عوائقها، و ما هي إشكالاتها؟ وما هي آفاقها، وفرص توّحد من بقيّ نظيفا من الديمقراطيين الحقيقيين العراقيين، للدخول الى الساحة السياسية كبديل، أو في الأقل، كمعارض للتخفيف من غلواء من قتلوا ويقتلون العراقيين كل يوم؟؟ فهذا سيكون موضوعنا في مقال لاحق، بإذن الله

 


آب- 2009


 

free web counter

 

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس