| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأربعاء 7/3/ 2012

 

قصة قصيرة

مناسبة مخيفة

جيكور 

لم تكن أمي تعد الفراش القطني الكبير وتغلفه بالشراشف المطرزة بالغزالات الثلاث وتمده في غرفة الضيوف إلا في المناسبات المهمة جدا كما تعتقد هي ، في العيد ، وعندما عاد أبي من الحج ، وكذلك عندما يزورنا ( السيد )(*) القادم من مدينة العمارة فيقضي بالايام الثلاثة التي يمكث فيها عندنا على كل مؤونة البيت من دجاج وسمك ودهن حر، ثم يحمل معه ما لم يستطع أكله في تلك الايام الثقيلة .

لم يكن هذا الصباح عيداً ، ولم يذهب ابي الى الحج ، ولم أر السيد الذي تجرش معدته ما تعجز عنه رحى الطحين ، لكن الفراش السميك والشراشف المطرزة بالغزالات الثلاث مُد على أرضية غرفة الضيوف ، لإول مرة يحضر أبي لإيقاظي ، حملني وقبلني وقال لي: قم يا ولدي ستصبح رجلا إبن رجل ، قبلتني أمي ايضا بحرارة وفرحة ترتسم على وجهها.

عمتي وزوجها وأولادها وأحد أعمامي حاضرون في غرفة الضيوف ، أخي الصغير يلعب ويقفز من حضن الى أخر وهو يرتدي دشداشة جديدة مثل التي ألبستني أمي أياها بعد أن رشتها بماء الورد..
العيون مصوبة نحوي ، يضحكون، يتبسمون ، يقبلوني بحرارة لم أعهدها ، كل شيء نظيف ومعطر ، أجلسوني على ذلك الفراش الوثير وأسندوني بوسادتين عليهما ذات الغزالات الثلاث..

خوف لا أعرف مصدره يتسرب الى قلبي ، بدأت اقلق ، كل شيء يدعو الى الريبة والترقب، تنبهت الى طاولة غريبة تشبة طاولة المكواة لكنها أعرض بقليل ، غلفت بشرشف أبيض بلا غزالات ، شعرت بالضيق من هذا الفراش الوثير والوسادتين ، لم أعهد هكذا نظرات وإهتمام ، شعرت بحاجة ملحة للتبول ، لا أعرف ربما بسبب الخوف والرهبة اللذين بدءا يدبان الى قلبي من هذا الجو المشوب بالغرابة والمجهول..

موسيقى صاخبة خلف الباب ، دربكة ، طبول ، نهض الجميع ، فتح أبي الباب ، سيل عارم من الناس إندفع الى داخل الدار يتقدمهم رجل بدين يضع طبلا كبيراً على كرشه ، يضرب عليه بعصا ذات رأس قطني كبير وأخرى أصغر بلا رأس، طاهر المضمد يحمل حقيبته الخشبية المخيفة ويشق طريقه بدفع الحشود الهائجة ، كنا نخاف من هذا الرجل ونخشى النظر الى الشارع الذي يسكن فيه ، بل نخشى حتى من أولاده لاننا كنا نرى فيهم طاهراً ..

أخرج أبي مسدسا قديما وراح يطلق النار في الهواء، إختلطت رائحة البارود بمطهرات الجروح التي تفح من حقيبة طاهر المضمد ، عمتي مريم لفت عباءتها حول ظهرها وأمسكت بأطرافها وراحت ترقص مثل دجاجة ربطت من قدميها ، لم أر عمتي ترقص بهذا الهوس من قبل.

لا أعرف كيف ركضت الى درج البيت ، تسلقته بسرعة جعلت الراكضين خلفي يعجزون عن الامساك بي الا بعد أن حاصروني في إحدى زوايا السطح ، أصبحت أعتقد أن الركض الى الدرج والسطح هي غريزة في داخل الانسان وذلك لهرعي اليهما لا إرادياً عندما أسمع صوت توقف سيارة قرب باب الدار أثناء هروبي من الخدمة العسكرية أيام الحرب اللعينة.

أخي الصغير يصرخ ويبكي حمله عمي وهو نصف عارٍ والدماء تسيل على ساقيه ، أمسكوا بقدمي ويدي ، كنت أرفس في الهواء وأصرخ ، بٌلتٌ على دشداشتي الجديدة ، طرحوني على تلك الطاولة الغريبة التي تشبه طاولة المكواة ، عشرات العيون تدور حولي أكثرها رعباً عينا طاهر المضمد ، أنوف كبيرة وصغيرة ، أفواه تتبسم وأخرى تلوك الحلوى التي طشتها أمي فوق الرؤوس، دارت بي الارض والوجوه ، دوران سريع، دوران بطيء، توقف الزمن ، لم أعد أميز الاصوات، ما أسمعه هو صدى أصوات ، ضحكات ، قهقهات..

أفقت على صوت أبي ورائحة مطهر الجروح تنتشر في المكان : قم لقد أصبحت رجلا إبن رجل ، بينما راحت أمي تدس الفراش الوثير ذا الغزالات الثلاث تحت الاغطية في إنتظار مناسبة مهمة جداً كما تعتقد هي.


(*)
السيد: هو الذي ينتسب الى الرسول محمد (ص) وفي العراق وخصوصا في المناطق الريفية يكون لهذا الشخص مكانة واحترام بغض النظر عن سلوكه ومستواه العقلي والثقافي

 


 

free web counter