| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأربعاء 4/4/ 2012

 

قصة قصيرة

بيوت في حَينا
(2)

جيكور 

في بيوتنا التي لا ملامح لها ولا ألوان .. دفء لا تجده في القصور ، .. قد تبدو للوهلةِ الأولى متعبة ، حزينة ، شاحبة ، لكن هنالك رضا وفرح يعجُّان في أرجاءها.

البيت الأول : بيت سيد جابر أبو الطحين..
دكانه في الجهةِ المعاكسة لدكانِ عبد عون ، بينهما أحد عشر بيتاً ، يتوسطها بيتنا ، يميزُ هذا الدكان اللون الابيض الذي يغطى كل شيء ، حتى الأشياء القليلة الملونة أصبحت باهتة من غبار الطحين المتطاير من الأكياس المتناثرة هنا وهناك ، يبقى سيد جابر مغبراً طوال يومه ، أبيض الشوارب والرموش والرأس ، لم تتعرف عليه أمي عندما دفع أجرتها في الباص الصغير المتجه الى الباب الشرقي ، نَهَرتهُ أمام الناس ، أنقذه أحد الركاب بعد أن أقسم لها أنه السيد جابر صاحب الدكان وليس شخصاً أخر..

وما يميز هذا الدكان أيضاً ، هو الحِمار الحساوي الأبيض الذي يقف عند بابه مثل أبي الهول ، يخشاه الكثيرون، قالوا إنه ليس حماراً بل كلباً يحرس المكان ، وقال أخرون أنه مسخ !! ينسجم هذا الحيوان ويتألف مع بعض الناس ، يتمسح بهم ، يُصدِرُ أصواتاً خافتةً كأنه يكلمهم ، وينفر من أخرين ، يهربون عندما يُزفّرُ بحنقٍ ، ويصوب مؤخرته نحوهم بعد أن يضرب الأرض بحافرهِ إستعداداً لرفسةٍ لا تخطيء وأثر لا يمحى..

عضّني مرة عندما كنت أختبيء خلف عباءة أمي ، تَعَّجَبَ الناس كيف أن الحمار يَعّض ؟! وحدي الذي يعرف لِمَ فعل ذلك !!
إلتقيت إبنه قبل سنوات ، سألته عن سيد جابر، قال مات .. قلت والحمار الحساوي ؟؟ ، ضحك : مازلت تذكره ؟!!

البيت الثاني : بيت أم ناجي..
تزوج ناجي من سليمة ، كان أول عرس في الحي ترقص فيه الغجريات ، سُحِرنا نحن الصغار بالألوان والزينة التي يرتدينها ، وسَكِرَ الكِبار بعطورهن وتمايلهن بدلالٍ وغنجٍ لم يجدوه عند أمهاتنا ، أبي أول من دسَّ الربع دينار في صدر إحداهن ، رمت عليه (التفريعة) (1) تنّسّمها بعمقٍ ثم ناولها الى عمي الذي نَشقَ هو الأخر ذلك العطر المُندّى بعرقِ النهودِ..

ناجي أنساه تمايل المؤخرات المكتنزة وإهتزاز النهود أنه العريس ، فَسَكرَ ورقص معهن حتى أصابه الأعياء وأغمى عليه ، ظلت سليمة تعيّره وتعتب على تصابيه ، ظنت أن ما حدث هو فأل شؤم جعل من ليلة عرسها ليلة سوداء كما تسميها هي..

إلتقيت ناجي بحانة الزرقاء في شارع أبي نؤاس ، لم يتغير كثيراً لولا الصلعة التي إمتدت حتى بداية رقبته والشيب الذي غزا ما تبقى من شعره..
سألته عن سليمة .. قال : مازالت تَجتّر الماضي وتلوك بتلك الحادثة ، حتى بعد أن أقترب عدد أولادنا من الدزينة..

البيت الثالث : بيت أبو شاكر..
شاكر وحنون توؤمان لا تستطيع حتى أمهما التمييز بينهما ، يتشابهان في كل شيء عدا الطباع ، حنون ماكر ولعين ، تتعجب أمه من هذا التباين ، قالت مرة لإمي كيف يمكن أن يكون مثل هذا الاختلاف وقد رضعا من ثدي واحد ، حَبَوا معاً ، لعبا معاً ، كبرا معا ؟؟ تَعّجّبت أمي مثلها !!..

لم يَعُد التمييز بينهما عسيراً بعد أن شجَّ فخري المطيرجي جبهة حنون بشظيةِ طابوق قذفها من بُعدِ بيتين لخلافٍ على طيرٍ ضلَّ طريقه ،هدّهُ التعب والعطش فحطَّ على سطح فخري ، ثم ما لبث أن طار ليحطَّ مع طيور حنون .لم يُجدِ نفعاً إدعاء فخري عائدية الطير له ، لإن حنون يعرف حمامات فخري مثلما يعرف نفسه كما يقول..
رغم تلك العلامة ، ظلَّ الناس لا يعرفون من هو صاحب الجبهة المشجوجة ، أهو شاكر أم حنون ؟!
دخل شاكر الأمتحان الوزاري بدلا عن حنون الذي تأخر سنتين عن أخيه لإهماله وتسيبه ، كذلك رخصة القيادة لم تكلف حنون سوى لصق صورته على بدلها الضائع..

رأيت حنوناً في حانة ليالي الصفا بالكرخ ، شعث ، حزينأ ، سألته عن شاكر ، بكى ، ضربَّ الطاولة بقبضتهِ قال : مات في تلك الحرب اللعينة.

البيت الرابع : بيت بدرية ..
صحن من القيمر ، لبن شائط مغمور برغوةِ زبدةٍ صفراء ، أرغفة خبز مُقمَّرة تغري من يَمّر أمام بيتها بالتوقف وطرق ذلك الباب الازرق ، تمتد يدان دافئتان بطاساتٍ مترعةٍ بالطيوبِ ، تعود تلك الكفّان بقطع نقديةٍ ضئيلةٍ ، تردُّ المشتري بأبتسامة مختلجة بصوتها الحنون ( بالعافية يُمة ) سَلِّم لي على أمك..

مات زوجها في معركة عشائرية دعي اليها دون أن يعرف سببها ، قُتل هو وأخرين لخلافٍ تافهٍ على بقرةٍ وردت ساقية لعشيرةٍ مجاورة ، قالت بدرية ماتوا ومازالت الساقية تجري والبقرة حية..

شقيت في بدايات أرمَلتها من العيون الوقحة والمتصنعة لشهامةٍ مزيفة ، لاحقتها تلك العيون بلا رحمة ، دُقت عليها الأبواب في ساعاتٍ متأخرةٍ من الليل ، تستمد قوتّها من عِفتّها النقية ومن حُبِ صغيرتيها ملكية وهالة .. عانت من أجلهما طويلا ، لم تتزوج رغم حسنها الذي كان يسيل له لعاب الرجال ، شَهقَ عند قدميها كثير من أولاد الحرام متملقين وِدها بخبث ، لكن على مَن ؟؟ أنا بدرية أخت الرجال وأم هالة وملكية ..هكذا قالت لإمي..

رأيت بدرية قبل سنوات ، سألتها عن هالة وملكية .. قالت تزوجتا ، لديهما أولاد وبنات ، قلت واللبن والقيمر؟؟ ، ردّت بأسفٍ : المعلبات غزت الأسواق .. لا طعم ولا نكهة.. آهٍ على أيام الحي وأهله..

البيت الخامس : بيت جاسب وجاسبية..
تَعجبَّ الناس كيف أن الصدفة جمعتهما وهما يحملان ذات الاسم ؟!! جاسب نحيف ، بطولِ زوجته ، لم يكن قصيراً لكنها كانت طويلة ، جميلة ، دلوع وطيبة ، مخضبة الكّفين بالحناء ، داعبت شعري وسألتني عن إسمي عندما زارتها إمي في إسبوع زواجها .. جاسب يبيع شبابيك الحلوى بعربةٍ صغيرةٍ مزينة بالدبابيس النحاسية والمصابيح الملونة ، يَدورُ بها نهاراً في حّينا والأحياء الأخرى ، وفي المساء يتخذ له ركناً قرب دكان عبد عون ، يكش الذباب والبعوض بعصا رفيعة ذات رأس مزركش بخيوط ملونة..

في ( كُلةٍ ) تَهفُّ بها نسائم الصبح ، تتمطى جاسبية بغنج ٍ ودلال ، النعاس يسيل على وجهها الدائري الجميل ، أثوابها المخملية الملونة تسحرني ، كنت أتلصص على تلك الكٌلة الساحرة كل فجر.. حلمت بها كثيراً وتمنيت أن أكون جاسباً..
إلتقيت جاسبية قبل أعوام ، سألتها عن جاسب ، قالت مازال يدعى أبا غايب (2) وأنا أم ذلك الغائب..

البيت السادس : بيتنا..
لم يكن أبي يبريء نفسه مما يُساور أمي من وساوسٍ وظنون ، فبين شكّها ويقّينها فضاء يتلاعب فيه بنبرته الواثقة ، يوهمها أنه لها وحدها وليس لإحدٍ سواها.. هو يعلم أنها تستشعر ما يخفيه ، يحبها بطريقةٍ لا تفهمها هي ، ربما صمته ولا مبالاته اللعينة من يُذكي مخاوفها تلك..

لا دخان بلا نار هكذا تقول أمي ، رأته يهمس بإذن فوزية في إحدى الأعراس ، وتأخر عندما أوصل أم نجم ليلاً الى بيتها الذي يبعد مسيرة دقائق عن بيتنا ، وغاب مراتٍ لليلةٍ أو أكثر دون أن يبرر لها ذلك الغياب ! ..

ظَنَّ كثيرون أن ما يجمعهما هو القرابة والأولاد وليس حميمية الحب والزواج ، لكني رأيته يبكي بالخفاء عندما رقدت أمي في المستشفى مع اختي الصغيرة ، سمعته يُغني وينتحب بعد أن أعياه السُكر : أنتِ البيت كله ، أنت أمي ، أنتِ أبي .. أأ..نن ..تتتي.
مات أبي ولم يُسمع أمي كلمة حب واحدة ، كان يُحبها بطريقته ، وهي تحبه بطريقتها...

أحلامي قدري ، هي الينبوع الذي يُروي قِفرَ أيامي ، أستّمدُ منها قوتّي في خريف عمري ، ذاكرتي مثقلة بأطياف وأشياء ينجلي بعضها ويتضبب البعض الآخر، الحي الدافيء الذي ولدت فيه يستحوذ على المساحة الاكبر من تلك الذاكرة .. إنتابني شعور غريب أعجز عن فهم مكنوناته عندما مررتُ على ملاعب طفولتي وصباي لأجد غرباء لا يعرفوني ولا يعلمون أني تركت هنا وهناك بعضاً من روحي ..

المصباح الوحيد كان هنا حيث أقف الان ، كنا نتراقص تحته بجذلٍ مثل فراشات ملونة ، الغميضة ، عروس وعريس ، نحلم بسليمة .. كريمة .. سعاد .. هناء .. ثم نستفيق على أصوات أمهاتنا تنادي كي نعود الى البيوت ، تاركين تحت ذلك المصباح أحلامنا المؤجلة الى الغدِ..


(1) التفريعة : هو الشال الذي تلفه الغجرية (الكاولية) حول رقبتها ترميه على من يهديها نقوداً وهذه عادة كانت سائدة أنذاك.
(2) أبو غايب : أبو غائب وأم غائب هو لقب يطلق على الازواج الذين لا ينجبون الاطفال.



 


 

free web counter