| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

جيكور

 

 

السبت 21/1/ 2012

 

قصة قصيرة

سعيد والزرنيخ

جيكور

غربة....
بل غربتان ..
أهونهما كانت بين الغرباء..
اما الاخرى، فليس هناك جحيم يشبهها..

أن تكون غريباً وسط الذين حلمت سنوات طويلة بلقائهم ، والارتماء بأحضانهم، والبكاء فوق الصدر الدافيء ، والشيلة (*) المضمخة بالمسك، وعطر اخر لا تمتلكه سوى الامهات.

قالها سعيد وهو يقف على الجانب الاخر من الشارع الرئسي المطل على الزقاق الصغير الذي إحتضن دارهم وسط البيوت القديمة والمتداعية في ذلك الحي الفقير.

ينتظر كل مساء دخول اخر (بنت كلب) كما صار ينعتهن ، الى دارها ، ليتجنب النظرات الغريبة الممتزجة بالاشفاق والفضول والتي كانت تخترق جسده ، وهمسات العجائز وغمزات الصبايا وحتى بعض الاطفال، تعثر أكثر من مرةٍ وكاد يسقط على وجهه بسبب تلك النظرات والاسئلة التي لم تنقطع منذ عودته من الأسر اللعين ، ذلك الأسر الذي بعثر أكثر من عشرة أعوامٍ من شبابهِ ، في حرب لا يعرف لماذا بدأت، ولا كيف انتهت؟؟!! كل ما يعرفه أنه ذهب إليها بشعرٍ أسودٍ وشاربٍ خفيف ، وعاد منها برأسٍ أكلت الصلعة نصفه والشيب نصفه الاخر.
كيف كانوا يعاملونكم هناك يا سعيد؟؟ من كان معك يا سعيد ؟؟ ، أصحيح انكم نمتم على الثلج ليال طويلة؟؟ هل سمعت بخبر وفاة أمك وأبيك ؟؟؟ هل علمت ان أخاك محمد تزوج بعد أسرك بسنة , واخوك رعد جاءه تؤام اولاد سمى احدهم على اسمك يا سعيد؟؟؟

فهيمة طلقها زوجها، صبيحة طهرت أولادها ، عبد عون إحترق دكانه، جاسم مات حماره، حصل كل هذا بعد اسرك يا سعيد هل علمت بكل ذلك ؟؟؟ هذه الاسئلة التافهة وغيرها كثير ، اجاب عليها الف مرة في الستةِ اشهر الاخيرة ،
صار يكره كل سؤال ، يجيب بعصبية ، يضحك او يصمت، سؤالٌ واحدٌ كان يجعله يصرخ كالمجنون سمعه من جارتهم الصبية وهي تسال زوجة اخيه :
أصحيح انهم سقوهم شرابا اسمه الزرنيخ عندما عادوا من الاسر في معسكرات خاصة لغسل ادمغتهم كما قالوا ا؟؟!

لا أعرف, لكن تصرفاته غريبة ، صحيح اني لم التقيه الا بعد عودته ، لكني سمعت الجميع يتحدث عنه وعن طيبته ، وما اراه الان رجل غريب الاطوار ،

إقتربت جارتها منها وهمست : يقولون ان هذا الشراب يلحس العقل ويسقط الشعر صحيح؟؟؟

يلحس العقل يا ابنة ال......؟؟؟

لو ذقت ساعة واحدة من العذاب الذي لاقيناه للحس عقلك ومؤخرتك ايضا، عشر سنوات حسبت كل ساعاتها ودقائقها، ليس هناك عذاب اكبر من ان يلقى الانسان في حبس لا يعرف امده، يا ويلي اكثر من عشرين عيدا لم اقبّل فيها وجه امي أو يد ابي ، لا اعرف كيف ماتوا، واي حزن نخر قلوبهم الدافئة،
اي لوعة باكية غصت بها امي؟؟ واي دمعة عزيزة ذرفها ابي في الخفاء؟؟
لم ير احد دمعته ابدا، انا رأيتها هناك في البعيد .

لماذا عدت ؟؟ ليتني مت هناك ؟؟ قبل ان اموت هنا كل لحظة،

كل احلامي تبعثرت ، ذاكرتي صدأت وشابت، لم يعد للاشياء طعمها ودفئها ، بيتنا الذي كان يضوع عطرا بساكنيه،
في تلك الزاوية من باحته الظليلة جلست أمي تطرز الاغطية القطنية الملونة وهي تترنم باغاني الفرح وتقول : هذه لعرسك يا سعيد، سأزوجك اجمل صبية يا بني، اين انتِ يا أمي ؟؟؟ لترِ ما حل بي..

اماه.. ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار
لا باب فيه لكي ادق، ولا نوافذ في الجدار
كيف انطلقت على طريق لا يعود السائرون
من ظلمةٍ صفراء فيه كأنها غسق البحار (**)


اصبح هذا البيت الدافيء موحشا بغرفه الثلاث التي احتلها اخوان يصغروني بسنوات مع زوجات واطفال لا اعرف اكثر اسمائهم ، كل ما لدي في هذا البيت اربعة مسامير علقت عليها أسمالي وحقيبة متوسطة تضم اوراقا ورسائلاً وبعض الذكريات في غرفةٍ صغيرةٍ للضيوف يشاركني ثلاثة من اولاد اخوتي النوم فيها ، أشعر بغربة مخيفة وسط كل هؤلاء ، حتى الشاي الذي اشربه في الصباح يكون على استحياء بعد ان يخرج اخوتي الى العمل.

كل هذه الافكار كانت تدور في رأسهِ نهارا ، وتأرقه ليلاً.
لا يعرف اين يقضي يومه الطويل، بحث عن عمل في كل مكان دون جدوى، من سيرضى برجل تجاوز الخامسة والثلاثين لم يتعلم اي مهنة ؟؟؟!! وليس لديه شهادة؟؟

ليس لديه اصدقاء، ولا حبيبة ، ولا يملك اي شيء، كأن الحياة تأمرت مع الدهر عليه.

في إحدى المرات بينما كان عائدا من رحلة ضياعه اليومية ، يخب في مشيته كالعادة الى البيت، استوقفته احدى جاراتهم ونادته : سعيد يا سعيد , هذه قريبةً لي تريد أن تسألك، توقف وهو مطرق رأسه الى الارض ، قالت له :
هل صحيح انهم شربوكم الزرنيخ لدى عودتكم من الاسر؟؟؟؟

صمت قليلا ثم صرخ : يا ستي شربونا الزرنيخ شربونا الخراء، ما لكم وشأني اتررررركوني بحااااااااااالي يا ناس، او اقل لك ...انتظري..

خلع حذاءه الايمن بمشط قدمه اليسرى وركله في الهواء، طار الحذاء عاليا وسقط فوق احدى السطوح, خلع الاخر بنفس الطريقة وركله الى الخلف فسقط قرب مجموعة من النسوة تجمعت توا على صراخه، دَسَّ إبهاميه في سروالهِ وبسرعة انزلهُ الى ركبتيه ، استدار اليهن صارخا : هذا ما تردن معرفته ؟؟؟؟ (مشيرا الى اسفل بطنه) وهل أن الزرنيخ لحس عقلي وكل اعضائي ام لا ؟؟؟

خلع السروال وراحَ يلوح به ويركض مثل لاعب كرة سجل هدفا حاسما , ركضت مجموعة من الاطفال خلفه ، رمى البنطلون في الهواء ، تبعه القميص ، أصبح عاريا تماما ، مجاميع الصبية والاطفال اخذت تكبر وتكبر كلما ابتعد ..

ضحكت نسوة ، صفق رجل كبير بكفيه متأسفا ، تهامست صبايا، بكت عجوز ، بينما ضاع صوت سعيد وسط هرج وصراخ الاطفال في الشارع الاخر.
 


(*) الشيلة : حجاب على الرأس ترتديه المراة العراقية
(**) هذه الابيات من قصيدة (الباب تقرعه الريح) للشاعر الكبير بدر شاكر السياب.
 


 

free web counter