| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأربعاء 20 / 11 / 2013

 

حكاية عود

علي صالح جيكور

أهديها الى أكبر طفل في العالم ، إسمه في نهاية الحكاية

أحبتي وأصدقائي ، لن تقرأوا هذه المرة قصة قصيرة كما عودتكم ، لكنها حكاية من حكايات كثيرة تستيقظ في ذاكرتي ، وتحفزني على الكتابة ، هذه الحكاية حقيقية  وليست من نسج خيالي ، حدثت قبل سنوات وأبطالها أنا ، وآلة العود التي أعشقها الى حد الوله ..

 منذ صغري وأنا أحلم بأقتناء هذه الآلة ، بل كنت أحلم أن أراها عن قرب ، ألمسها وأداعب أوتارها بأصابعي ، لكنها أمنية بعيدة ، بعد النجوم المتلألأة  في سماء بغداد الصافية في سبعينيات القرن الماضي ، هذه الامنية بعيدة ، لأن والدي كان يكد ويشقى ، ليوفر لقمة العيش لعشرة من الابناء والبنات ، فلم تسمح له الظروف من شراء لعبة أو دراجة هوائية ، أو أي شيء آخر خارج حدود الخبز، فكيف إذا كانت آلة موسيقية مثل العود ؟؟!!

رأيت العود لأول مرة عن قرب في إحدى الأعراس بمدينة الثورة التي ولدت فيها ، كان الناس وقتها فرحين رغم الفقر ، تمتلأ قلوبهم بالرضى ، وتسطع عيونهم بالطيبة والفرح  ، يجمعهم الحب والفقر، وكأنهم عائلة واحدة ، وبيت واحد ..

عُلقت الزينة والمصابيح الملونة من أول الشارع حتى آخره ، كانت الكراسي والأرائك  تحضر من الجيران أنفسهم ، والأبواب مفتوحة للجميع ،  قنفة من بيت سني ، وكرسي من بيت مسيحي ، وطاولة من بيت كردي ، وأواني من بيت شيعي ، أعتذر ياأصدقائي لذكر هذه المسميات التي لاأحب سماعها أو النطق بها لأننا لم نتعود على هذه الامور، لكنه الواقع الجميل الذي عاشه العراقيون قرون طويلة ، يدفعني الى كتابة هذا الأمر..

دنوت الى أقصى حد  يُسمح به الإقتراب من الجوقة الموسيقية والمطرب الرائع المرحوم عبادي العماري ، لم تكن هناك خشبة مسرح أو قاعة ، بل عربتي (جت) يعني برسيم ، حُلَّ عنهما الاحصنة ، ودمجتا سوية ، ووضع تحتهما صفين من الطابوق خشية أن يميد المسرح بالمطرب والجوقة الموسيقية  ، مثلما حصل في كثير من المناسبات ، وغلفتا بالسجاد والبُسط ، فتجسدت العربتان عن مسرح أجمل وأروع من أي مسرح ..

إبتدأ عازف الكمان بالعزف ، وصدح صوت عبادي الجميل ( آآآآه آآآآه ) كانت تلك الآه تطرب لها النفوس ، وتنتشي لها الارواح  ،  ساد صمت عميق في الشارع ، حتى النسوة والصغار الذي يطلون برؤوسهم من أسطح البيوت والنوافذ توقفوا عن الحركة والضجيج ،

شُنفت الأذان ، وفغرت الأفواه ، وكأن قانونا غير مكتوب يتبعه الجميع ، قانون الاصغاء واللياقة ، قانون الاحترام والمحبة ، قانون التعاون والانسجام الذي يسري في طبيعتهم وفطرتهم الطيبة ، وقلوبهم المتحابة ، السمحة..

ثم جاء دور عازف العود ، فأندفعت الى أقصى حد يمكنني بلوغه ، حتى أصبحت على مسافة خطوتين منه ، تن تن تره رر ررن  ره ره ره رن ، الاوتار تهتز ، فتهتز معها أوتار قلبي ، أنغام قادمة من البعيد ، من عالم آخر غير هذا العالم ، سرحت الى آفاق وسماوات بعيدة ، ثم أفقت على يد تهز كتفي وتدعوني الى الابتعاد قليلا ،  بعد أن حجبت وجه العازف  بجسدي ، يبدو أنني سرت مثل النائم دون أن أعي ، واقتربت من الرجل الى هذا الحد ..

 وعندما إنتهت السهرة ، ورفعت البسط عن المسرح ، وبانت عربتي الجت  من جديد ، إقتربت من العازف وحييته بخجل ، كان ثملاً ومنتشياً ، لكنه متزن ، لقد حدس أني أود أن أطلب منه شيئاً ما ، فسألني بطيبة ، وإبتسامة  ترتسم على وجهه ، مالذي تريده ياصغيري؟؟

- هل تسمح لي يا عم أن أرى العود وألمسه ، لم يرد بأي كلمة ، بل إنتزع العود من غطاءه الجلدي الجميل ، وأجلسني على حافة العربة ، ثم وضع العود في حضني ، وعبر ذراعي حوله ، ودَسَ الريشة في يدي ، ثم ضم كفه فوق كفي وراح يصعد وينزل على الاوتار، وقد تجسدت عن هذه الحركة نغمة جميلة ، كالتي إبتدأها في عزفه للمطرب عبادي العماري..

النغم ينبجس من قلبي ، كانت لحظات مهيبة ، أحسست بدفء العود ، وعبق خشبه الناعم ، الناصع ..

 شجية هي هذه الآلة ، عذبة ، صافية ، حزينة ، مفرحة ، مبكية ، إنها ليست آلة ، بل كائن حي له نبض ، ولهُ وروح .

هذا بعض من عشقي ياأصدقائي وولهي  بآلة العود ، أبثه أليكم ، كما يبث العاشق نجواه لحبيبه..

حينما هربت من الوطن ، وأستقر بي الحال في هولندا  بعد سنوات طويلة  من التشرد والسجون ، سافرت أول سفرة عندما حصلت على الجواز الهولندي ، الى مصر أم الدنيا ، كما يسميها أحبتنا المصريون ، درت في شوارع القاهرة بحثاً عن العود ، وعندما لمحتُ من بعيد آلتي الحبيبة معلقة أمام احد المتاجر، هرعت كالمجنون الى هناك وقفت مذهولاً ، ورحت أنقل طرفي من عودٍ الى آخر ، اول مرة أشاهد هذا العدد الكبير من الآلات ، أيها أنتقي ؟؟؟

كلها جميلة ورائعة ، كلها تسطع بذاك اللمعان الذي يخطف الأبصار، أو ربما هكذا  كان يهيأ لي ، بادرني صاحب المحل باللهجة المصرية المحببة :

حدرتك فنان ؟؟

لا..

بس حدرتك باين عليك فنان ، حديك أحسن عود  ، بس هو غالي شوية..

قلت هاته ياصاحبي ..

 أحضر لي أردأ عود في المحل ،  بعد أن عرف أن حدرتي مش فنان ، وباعه لي باضعاف سعره ، كنت أعرف أنه يغشني ، لكني في قرارة نفسي كنت فرحاً ،لأني أؤمن بأن العود لم يصنع للمتاجرة والمساومة ، ثم أنها  ستكون أول مرة أقتني فيها  عوداً حقيقياً ، سيكون لي وحدي ، لا يهم بضعة دولارات إضافية ، أمام هذه الالة التي أعشقها حد الجنون..

 دفعت ثمنه ، ثم شكرته ومضيت ..

تفاقمت عندي ( السولة )  أي العادة ، وصرت اشتري العود من أي بلد أزوره ، بعضها جيد ، وأكثرها تجاري ، لا يساوي ثمن تختة لثرم البصل ..

 لكنه  العشق الذي يعمي عيني العاشق ، ولايريه من معشوقه إلا ماهو جميل ،  أو ربما هو تعويض عن حرمان الطفولة ، فطفولتنا كانت قاحلة بلا ألوان ولا ألعاب أو هدايا..  أعرف بعض الأشخاص مازالوا مولهين بشراء  لعب الاطفال ، وهم في سن الكهولة .

في زيارتي الثانية الى الوطن ، تعرفت على عازف عود في البصرة ، لديه محل صغير، أو هو بالأحرى غرفة  صغيرة  بالدور الثاني في عمارة قديمة ، كان يخبيء الآته الموسيقية ، كمن يخبيء ممنوعا ً يؤدي به الى الموت ،  خوفاً من مليشيات الظلام التي إنبعثت من الكهوف ، يُحَرِمونَ الجمال والموسيقى والطرب ، وكل مايمت  للحياة الطبيعية بصلة ، كان فناناً جميلا وإنسانا صادقا ، أوصد باب الغرفة بعد أن تأكد ان لاأحد يتنصت علينا  خلف الابواب ، أحضر عوداً جميلا وراح يعزف عليه ويغني ، بصوت خافض شجي ، وبعد أن أكمل هذه الوصلة الرائعة من العزف والغناء ، توسلت إليه أن يبيعني هذا العود ، الذي هو عوده الشخصي ، وبسماحة وطيبة أهل البصرة ، دفعه إلي وحلف أنه لايأخذ ثمنه ، وبعد لاءٍ ، وبعد رفضي قبوله ، وافق ان يبيعه لي بالسعر الذي أريده ..

إبتزني الشرطي في المعبر الحدودي الفاصل بين وطني وبلد آخر ، ورفض خروج العود بحجة أنه من صنع المبدع الشهير ( محمد فاضل ) وأن هذا النوع هو كالأثار يعتبر خروجه تهريباً يحاسب عليه القانون ، في دولة اللاقانون ، كنت على يقين بأن هذا الشخص لايعرف محمد فاضل ولم يسمع به ، لكنه قرأ الاسم على نقش العود ، دسست ورقة فئة العشرة آلاف دينار في يده ، فإستحال الممنوع مسموحاً ، وأوصاني بأن أحافظ على العود من الكسر والخدش ، أصبح من حقي أن أسافر بالعود الى أي مكان ، بعد الرشوة ،  بل من حقي أن اصطحب صانع العود ، لو كان حياً..

مرت السنون وأنا أتأمل بأعوادي الجميلة  التي توزعت في كل أرجاء البيت ، دون أن أتعلم نغمة واحدة ، لأن الدوزان صعب جداً ويحتاج الى خبير أو الى معلم ..

 تعرفت على شخص يعزف العود وطلبت منه أن يعطيني بعض الدروس الأولية ، في بيتي أو بيته أو أي مكان يختاره ، وأدفع له مايريد ، لكنه  فَضَّل الحضور الى  بيتي ، كوني كنت عازباً ، شرط أن أدفع له تكاليف المواصلات بالاضافة الى سعر الساعات التي يقضيها في تعليمي ..

 كان  هذا المعلم يبلغني في التلفون قبل مجيئه ، أنه يشتهي  هذا اليوم (باجة)  يعني كوارع ، أو دولمة أو مركة باميا ، فكنت أطبخ له ما يشتهي وما لا يشتهي ،  خشية أن يهرب مني ، ويتركني بحيرتي أمام معشوقي الجميل العود..

تعلمت بعض المباديء الاولية ، وكانت تغمرني سعادة لاتوصف عندما أعزف شيئاً يشبه معزوفة أغنية معروفة ،  أو قطعة موسيقية ، لكن المصيبة أن الدوزان  يتبدد بعد أيام ، وعلي أن أهرع الى محل بيع الباجة أو الدولمة الجاهزة ، وأتصل رغما  عني بصديقي الموسيقي ، الذي يعشق الأكل أكثر من أي شيء آخر. وتعاد الكّرةُ ذاتها ، باجة ودوزان ، دولمة ومعزوفة (جيه مالي والي) ، ما كان يثير حنقي ، أن معلمي هذا لم يكن يقدر ظرفي المادي ، مستغلا حبي للموسيقى وندرة معلمي العود ، رغم أنه ليس عازف عود بالاصل (لكن الأعور في ديرة العميان ملك ).

دارت بي الأيام وتزوجت ، رزقت بحسون وياسمين زهرتي عمري ، فما عاد بإستطاعتي أن أمسك العود وأتمرن عليه ، لأن الأولاد لهم أذان موسيقية  عجيبة ، فعند أول ضربة على الوتر ، يهرع   إلي حسون راكضاً ، وتحبوا ياسمين بأقصى سرعة نحوي ، فيتعلقا بالعود ، ويتشبثا بأوتاره ، ولاأفك نفسي منهما إلا بعد أن يخربشا الأوتار التي تصدر  أصواتاً مزعجة ،و أنغاماً ربما  كانت أفضل من عزفي أنا..

مرت بنا ظروف مادية لم تكن طيبة ، وأصبح همي أن أوفر لأولادي ما إعتادوا عليه ، حتى يفرجها الله ، إرتأت زوجتي ان أبيع بعض الأعواد التي كثرت  وتوزعت في ارجاء البيت دون طائل ، ودون أن أتقدم خطوة واحدة في العزف ، كانت صدمة قاسية علي ، لكني فكرت بالأمر فوجدتها على حق ..

 إتصلت ببقال عراقي  في المدينة التي اسكنها ، لديه دكان يبيع فيه كل شيء ، وأي شيء ،  بل كل مافي العالم من متناقضات ، صابون ركي ، نومي بصرة ، حليب ماعز ، حليب النوق ، بطاقات سفر ، إرسال فلوس الى العراق ، رحلات الحج ، بقلاوة ، باجة ، وساطة تأجير شقق وغرف وبيوت ، كارتات تلفون ، والقائمة تطول الى مالانهاية ، فأخبرته بأن يجد لي مشتري للعود ..

إتصل بي بعد أيام ، واخبرني بأن  رجل وزوجته يرغبان في رؤية العود وشراءه ..

 حملت العود وكأني أحمل واحداً من أطفالي ، تبسمت زوجتي بحزن بعد أن رأت ترددي ، شجعتني بكلمات مواسية ، تضمنت بشكل لا مباشر الظرف الذي نمر به ، وأن هناك مهم ،وأهم ..

وصلت الى المحل الذي يحتوي على كل عجائب الدنيا ، وها هو اليوم يضم عجيبة أخرى إسمها العود ..

سَلّمتُ على الرجل وزوجته ، كانا من بلد عربي ، ويقيمان في هولندا منذ عقود، دفعت العود اليه ، بعد أن غالبت عبرة كادت تفضح حزني ، أمسك الرجل بالعود ، وراح يقلبه مثلما يقلب بطيخة ، وينقر عليه بأطراف أصابعه وهو ينظر الى زوجته ويتبسم ، إنتظرت أن تمتد أصابعه الى المفاتيح الخشبية ويبدأ بالدوزان ، ثم يعزف شيئاً يرضي فضول صاحب المحل الذي وقف بقربنا ،  فاغرا فمه ، منقلاً طرفه من شخص الى آخر..

لكن صاحبنا ظلَّ ينقر على ظهر العود وباطنه ، ثم مررَّ أصابعه الغليظة فوق الأوتار، فصدر عن هذه الحركة البليدة أصوات ناشزة  متواصلة تعلو وتهبط ، بينما توسع فمه وكبرت إبتسامته البلهاء وهو ينظر الى زوجته ويهز رأسه ، وكأنه يعزف مقطوعة الربيع لفريد الاطرش..

كانت الاصوات التي تصدر من العود تدق في رأسي ، تعذبني ،  مثل نقار الخشب ، وددت لو أنتزع العود من بين يديه ، وأطوح به فوق رأسه ،  ورأس صاحب المحل االذي دلني على هؤلاء، أوبالأحرى دلهم علي ..

خالجني شعور ممتزج بالمرارة والخزي ،  العود الذي مَسدته أنامل  محمد فاضل ، أشهر صانع عود  في العراق وربما في العالم ، وعزف عليه صديقي البصري الطيب ، ولولا كرمه لما تنازل لي عنه وباعه إلي .

ظرفي المادي لم يكن بالسوء الذي يجعلني أبيع هذا العود الذي صدح بأعراس البصرة وبغداد،وجلسات الطرب على شط العرب ودجلة ، ربما غنى على أنغامه عبادي العماري وسلمان المنكوب ورياض أحمد.. كيف أعطيه الى رجل لايميز الشِعرْ من الشعيرْ ؟؟!!

كنت أنتظر اللحظة التي يعيد فيها العود إلي ، سوف لن أتنازل عنه ، ولن أبيعه بأي سعر ، لولا اللياقة لإجتثثته من يده  ، وعدت مسرعاً إلى بيتي ، وفي حضني عودي الذي يحمل عبق بغداد والعشار والبصرة القديمة..

وافق  الرجل على السعر المعروض ، وهَمَّ أن يمد يده الى جيبه ، ويدفع الثمن ،  لكني وبكل برودة أعصاب ، بل بقوةٍ لاأعرف من أين أتت ، رفضت البيع ، ولم أترك لهم الفرصة لمعرفة الاسباب ،  فبعد أن أصبح العود في يدي  ، هرعت الى الشارع ، تاركاً الحيرة والدهشة ترتسم على وجه الرجل وزوجته ، وأظن أنه سأل صاحب المحل عن وضعي العقلي!!

 لايهم ماقيل ويقال ، مازال العود في أحضاني أداعب بأصابعي أوتاره الشجية ، بدا لي هذه المرة أجمل من كل مرة ، رغم أنه يسكن بيتي منذ سنوات طويلة.

إنقضت أيام فاذا بصاحب محل العجائب ، يتصل بي ، ويخبرني بأن عائلة عراقية تود شراء العود ، وحلف أن هؤلاء الناس لديهم علاقة بالثقافة والفن ، وليسوا شُّراء بطيخ مثل صاحبنا الآخر..

 إتصلت بي تلك العائلة ، دعوني الى الحضور الى بيتهم لرؤية العود وشراءه..

لم يخالجني هذه المرة ذلك الشعور المرالذي أحسست به في المرة الأولى ، لاأعرف ، ربما لأن هؤلاء الناس كما إدعى صاحب المحل بأنهم من أهل الثقافة ، ولديهم معرفة بالفن؟؟

وصلت الى المكان المتفق عليه ، توقفت سيارة ، نزل منها رجل أشيب الشعر، متوسط الطول ، أنيق بشكل ملفت ، وسيم ، رشيق القوام ، أنفه طويل وعيناه صغيرتان ، تصافحنا : أهلا بك أبوية

قالها بصوته الدافيء ، وبسمة تشع من عينيه الصغيرتين ، كان خجولا مثل الطفل ، يقطر طيبة ، نعم الطيبة تقطر من هذا الرجل ، صعدنا الى الدور الثاني من البناية التي تسكن فيها بنت أخته وعائلتها ، جلسنا ، قدموا لي الشاي والكليجة ، الرجل الاشيب الذي يشبه الاطفال كان ضيفهم ،  قدم من كندا هو وزوجته التي لاتقل وسامة وأناقة عنه ..

تحدثنا قليلا عن أشياء عامة لاتخص العود  والفن ، وذلك من باب اللياقة والضيافة ، أحسست بألفة ودفء وسط هذه العائلة الجميلة ، المنفتحة ، إبتساماتهم طيبة  صادقة ،وحديثم  حلو وواضح..

إستأذن مني وطلب رؤية العود ، فتح سَّحاب الغطاء الجلدي بهدوء ، أخرج العود ، مسحه ، َربتَّ على ظهره برفق ، مثل فارس يربت على ظهر فرسه ، أداره الى كل الجهات ، سَدَدَّ بعينه الى موضع الأوتار ليتأكد من سلامتها ، وصحة المسافات الدقيقة بينها ، نَقّرَ على بعض المواضع كطبيب يجس جسد مريضه ، أدار المفاتيح الخشبية بحركة سريعة ، وخبرة واضحة ، إمتدت الأوتار وتقلصت ، ثم أخرج  من جيبه ريشة يحملها معه أينما ذهب ، وراح يدوزن الأوتار، مرر أصابعه عليها وقرب أذنه منها ، كي يتأكد أن الأوتار انسجمت وتآخت ، كل وترين على نغمة .. ثم راح يعزف ويهز رأسه إتساقاً مع النغم ، ساد صمت في المكان ، تذكرت العرس الذي غنى  فيه عبادي العماري قبل أكثر من ثلاثين عام..وتذكرت أول عود لمسته بيدي ، توقف عن العزف ، فرجوته أن يستأنف ويسمعنا شيئا آخر ، وبطيبته وإبتسامته الطفولية الفرحة  ، عاد الى العزف مرة ثانية ، تعجبت كيف أن عودي هذا  تصدر منه كل هذه الانغام  الرائعة ، كان يقبع في بيتي كل هذه السنين دون أن أعزف به شيئاً يستحق السماع ؟؟!!

 أظن أن العود وصل الى اليد والأصابع التي تستحقه وتقدره ، أظن أنه تحرر من عبودية سنوات طويلة ، هاهو ينعتق من قيده ويصدح بأجمل الالحان ، إنه طائر سجين حُرِرَ من قفصه ، سرحت كعادتي وحلقت الى العوالم التي ينقلني العود إليها ، تنبهت على صوت الرجل الطفل : أي أبوية ، شكد تطلب حبيبي ؟؟

الله ما أحلى كلمة أبوية من فم هذا الرجل ، وددت لو أسمعها كل لحظة ، أبوية أبوية ..

ماالذي تريدني أن أطلبه منك ، يا أيها الرجل الطفل ؟؟ الف عود  وعود ، لا تعادل كلمة أبوية واحدة منك ، ما الذي تريدني أن أطلبه منك ياسارق القلوب ، مئة ؟؟ الف ؟؟ مليون ؟؟ أعد لي قلبي ، وسأحمل عودي ، وأعود الى بيتي..

ما الذي تريد أن أطلبه بعد أن إنتشر عطر طيبك في أرجاء روحي وقلبي؟؟ ، وبعد أن أسمعتني كلمة أبوية ، صادقة ، صافية من قلبك  الكبير؟؟

أنا الذي أسألك كم تريد أيها الرجل الطفل أن أدفع لك ، وتشرفني بقبول هذا العود هدية من إبن الى أبيه ؟؟

أرجوك إرحم هذا العود الذي صنعه محمد فاضل وغنى على شجنه عبادي وسلمان ورياض أحمد ، خذه بيدك الماهرة وقلبك الطيب ، إملا الفضاء بالانغام والشجن والحزن العراقي الذي تحمله على كاهلك وتدور به في أصقاع الارض، كم تريد أن أدفع لك وتشرفني بأن يدخل العود الى بيتك الدافيء ..

طيب دعنا نبحث عن حلٍ وسط أيها الرجل الطفل ، خذ  أنت العود ، وأسمعني أنا كلمة (أبوية ) كلما إلتقينا ..

لا أعرف كيف خرجت كالمسحور من ذلك البيت ، أقود سيارتي دون هداية ، وصلت الى البيت ، نظرت زوجتي الى يدي الخاليتين من أي كيس فاكهة ، أو حفاظات بامبرز للأطفال ..

بكم بعته يازوجتي العزيز ؟؟

لم أبعه ، أهديته للطفل..

ماذا؟؟ فسر لي ، أرجوك لا تمزح ..

قلت أعطيته الى طفل كبير ،  لو كنت أنتِ معي لأعطيتيه إياه كما فعلت ..

بعد مضي يومين إتصل بي الرجل سارق القلوب ، ودعاني وعائلتي الى بيت بنت أخته الأخرى وهي سيدة رائعة انيقة وطيبة ككل هذه العائلة..

تناولنا أكلات عراقية وتحدثنا في أمور كثيرة ، ثم شربنا الشاي والقهوة ، وبعدها طلبنا من الرجل الطفل أن يسمعنا شيئا من عزفه وغناءه ، كانت لحظات من أجمل اللحظات في هذه الغربة ، ضحكنا وبكينا وفرحنا واستذكرنا الأيام الجميلة في عراقنا الحبيب ..

يا أصدقائي أنا أؤمن بأن في حياتنا أشياء غير قابلة للبيع ، أشياء ليس لها ثمن ، ولا يمكن إدراجها في جدول الأسعار ، أشياء تمنح لحياتنا معناها الحقيقي ،  تشعرنا بإنسانيتنا ، وترينا الجمال الروحي البعيد كل البعد عن أي دنس  مادي ، أشياء تبعث فينا الخير المتأصل في دواخلنا ، والذي تحاول ظروفنا التعيسة الحيلولة بيننا وبينه ..    

لا أطيل عليكم يا أحبتي ، فإن هذا الرجل الطفل ، سارق القلوب وصاحب الشعر الاشيب الجميل ، أصبح من أعز أصدقائي ، وأكثر الناس قرباً الى قلبي وروحي، فهاهو يزورنا وزوجته الأنيقة كل عام ، يأتي من كندا ، يحمل الدفء والشذى وطيب عراقنا الماضي ، يحمل كل في الاسنانية من معنى ، يحمل الطفولة التي تجسدت في ملامحه ، طفولة لم يستطع الخلاص منها  وهو في كهولته ، ظلت  تلازمه ، واصبحت علامة فارقة على وجهه الجميل ..

 إنه أكبر طفل في العالم ..

 أنصحكم  يا اصدقائي أن لا تعرضوا عليه بضاعة للبيع ، لأنكم ستمنحوه  أي شيء دون مقابل ، بل ستدفعون له فوق ما تريدون بيعه ، غير نادمين..

إنه صديقي وحبيبي الاستاذ الشاعر الجميل والموسيقار المبدع ( سيروان ياملكي )


 






 


 

free web counter