| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الثلاثاء 19/3/ 2013

 

قصة قصيرة

حميد

علي صالح جيكور

جلس حميد على دكة خشبية صغيرة ، يتطلع الى غرفة نومه التي لم تكتمل تماماً بعد ، يدخن سيكارتهُ الملازمة لكوب الشاي ، إنتهى تبليط أرضيتها ، طليت جدرانها ، ما تبقى هو : ستائر ، سرير ، اغطية ، خزانة ملابس ، مرآة ، وووووووووو ...

دس القلم في جيبه ، ثم طوى الدفتر الذي أعتاد أن يدوّن فيه هذه الاشياء منذ عام ، نحاه بعيداً ، عاد الى مجّ سيكارته ونفث دخانها الممتزج ببقايا حسرات ، حسرات أملٍ مرتقب ، بعد يأسٍ طويل ، مصدره ضيق الحال ، ووحدة مخيفة .. أيام وينتهي كل شيء ، ستدخل هناء بيتي ، سنحيله أنا وهي الى فردوس ، الى جنة .

راوده شعور بالإرتياح والأمان ، كونه يمتلك بيتاً ، ورثه عن والديه ، وإن كان البيت صغيراً ، فهو افضل من قصرٍ بإيجار ، ووظيفة تضمن له الإكتفاء ، وعدم الإحتياج للأخرين ، بل توفير شيئاً قليلاً من راتبه ، إن هو كان جاداً في تقليل نوبات إرتياده المقهى والحانة الكائنين في أخر الشارع الذي يقطنه.

كم تبقى من العمر للانتظار يا حميد ؟؟ سؤال ظلَّ يلح عليه ويؤرقه ، فات الكثير ، ولم يتبقى سوى ... نهض مسرعاً قبل أن يتم كلماته ، إرتدى ثيابه وخرج الى الشارع ، قادته قدماه الى الحانة التي يرتادها كل يوم خميس ، رغم أن اليوم ليس خميساً ، أحس بحاجة الى بعض الكؤوس ، كي يذهب الى هناك ، الى ذلك الشارع الضيق المقرف ، الذي لا يشبهه شارع ، في أي مكان ، كأنه صُمِمَ على شاكلة ساكنيه ، فهو ملتو، وهم ملتوون ، نتن ، آسن ، وهم أكثر نتانة وتفاهة..

سأذهب الى هناك ، هذه المرة الأخيرة ، بشرفي إنها المرة الأخيرة ، وحياة هناء ، حبيبتي ، شريكة عمري الذي هُدرت أيامه ، وبُعثرت سنينه ، أقسم لك انها المرة الاخيرة .. هكذا حدث نفسه بعد أن ألانت الكأس الثالثة شيئاً من توتره وأضطرابه..

وقف في بداية الزقاق ، متذبذباً ، حائراً ، تذكر أباه ، أمه ، هناء ، نقل طرفه من جهة الى اخرى ، مرَّ عامٌ كامل على ولوجه أخر مرة هذا المكان ، الشارع يتلوى مثل افعى ، لا منفذ له ولا مخرج ، من يدخله عليه العودة من حيث جاء ، لأنه ينتهي بتلك الدار القديمة المتداعية ، التي تشبه قلاع الجن..

وقف عند بابها الخشبي الغائر حتى منتصفه ، تحت الطريق ، وجدرانها المنتفخة الرديئة الطلاء ، كل شيء يوحي بالكآبة والوجوم ، صمت كريه ، يجعل المرء مترقباً ، يتلفت حوله خوف حدوث شيء ، أو مفاجآة ما..

تذكر كيف أنه خرج من هنا اخر مرة ، يتملكه شعور بالذنب والإشمئزاز والقرف ، كان يعزي نفسه بأن ما قام به هو فوق إرادته ، إنها الحاجة التي لا مناص من تلبية ندائها ، حدث ما حدث ، وكان ما كان..

وحين أوشك أن يرفع الكف النحاسية المخضوضرة ويطرق بها الباب ، عادت به الذكرى الى وصايا امه ، وصوت هناء المفعم بالحب : لا تبتئس يا حميد ، دعنا نبدأ من اللاشيء ، حلاوة الاشياء أن تأتي بعد تعب وصبر.. تعال يا....

إستجمع ما لديه من قوة أججتها عزيمته المدعومة بكاسات الشراب التي عبها في جوفه قبل لحظات.. طرق الباب بشدة ، كان يريد أن ينهي هذه المسألة قبل أن تتبدد حميا الشراب ، وتطير من رأسه ..

إندس أنف طويل من شق الباب ، وإلتمعت عينان صغيرتان ، تحدقان بشكٍ وإرتياب في وجه القادم الجديد ، لم تتعرف على ملامحه .. من أنت ؟؟ وماذا تريد ؟؟..

وقبل أن يجيب على سؤالها .. فتحت الباب بعد تنحية العجوز جانباً ، إمرأة حنطية ، مكتنزة ، في نهاية عقدها الرابع ، إنه حميد يا أمي ألم تتعرفي عليه ..

هزت العجوز يدها وزمت شفتيها المتيبستين وقالت : وهل رأسي دفتر ، ليحتفظ بكل هذه الاشكال؟؟

سحبت المرأة يد حميد ، لا عليك منها ،هي لا تقصد الاهانة ، هذا هو طبعها .. تفضل..

دخل الى ذات المكان الذي جلس فيه قبل عام ، لفِّ المكان بنظرة سريعة ، لم يتغير اي شيء ، الأرائك هي هي ، المناضد ، الستائر ، حتى منفضة السكائر البلورية على شكل رأس فيل ، مازالت في مكانها ، كأنه فارق المكان منذ لحظات قليلة.

جلس هذه المرة بثقة ، ينظر الى الاشياء بلامبالاة ، لم تلين قسمات وجهه ، حتى بعد أن وضعت المراة الحنطية كأس الشاي أمامه ، مرحبة بقدومه..

ما بك يا حميد ؟؟ تغيرت كثيراً..
أجاب في إقتضاب : لا شيء ، أود أن انهي الأمر بسرعة..
إنتظر.. هناك شخص في الداخل ، إنه على وشك الخروج..
اللعنة على هذا المكان ، اللعنة على الحاجة التي تهين الانسان ، كان عليّ أن أشرب كأساً اخرى لأحتمل هذا القرف ..
لابد أن من في الداخل بائس مثلي ، دعته الحاجة الى الارتماء في هذا الوحل !!

عادت المرأة الحنطية ، أشارت اليه بغمزة من عينها ، وتلويح يدها ، بالدخول ، لا تنسى أن تخلع حذائك وجورابيك يا حميد هههههههه..

ولج غرفة صغيرة مفروشة بالسجاد ، جدرانها مزينة بلوحات قماشية ملونة ،عليها رسومات كثيرة ، إحداها لنمرٍ مكشر الانياب ، يُهيأ للناظر أنه سيثب على وجه من يقف أمامه ويفترسه ، الستائر حمراء بلون الجمر ، بنقوش غريبة.. رائحة البخور والاثاث تبعث الانقباض في الروح ، أججت تلك الروائح المغثية كؤوس الشراب وحفزتها ، فشعر بالدوار والغثيان ، بدا له المكان ضبابياً ، هرع الى خارج الغرفة وسحب نفساً عميقاً ، كأنه خرج من أعماق نهر ..

أسرعت المرأة الحنطية اليه : ما بك يا حميد ؟؟ أأصبحت حجراتنا خانقة ؟؟؟ في أخر مرة جلست هنا كنت كأنك في روضة غناء !! آه منكم.. ناكري الجميل..
فتحت نوافذ الغرفة ، ونقلت مجمرة البخور الى مكان أخر ، ثم دعته الى العودة..

في داخل تلك الغرفة ، غرفة اخرى تفصلها ستارة مخملية شفافة ، سمع صوتاً يدعوه الى الدخول ..
ضع الفلوس على الطاولة قبل كل شيء..
مدّ يده الى جيبه وأستل المبلغ المتفق عليه ، أمتدت كفٌ الى الأوراق النقدية وراحت تعدها وتطويها..
إنتظر قليلا...

عادت تلك الكف العجفاء المشعرة ، بسلسلة ذهبية مع قرصها الشمسي الكبير، تلقفها حميد ، ضمها الى صدره ، قبّلها ، شمً عطر أمه فيها ، صدح صوتها في خياله : إحتفظ بها يا ولدي لعرسك ، إياك أن تبيعها أو ترهنها ، سقطت دمعة من عينه ، وتمتم في نفسه : سامحيني لقد رهنتها عام كامل ، عند هذا المرابي اللعين ، انها الحاجة لولاها لما اتممت غرفة عرسي.. ها انا أعدتها يا أمي سأطوق فيها جيد هناء...

هرع مسرعاً نحو الباب ، صفقه بقوة .. ركضت المرأة الحنطية وراءه ، حاملةً جورابيه بأطراف اصابعها ..
مدت جذعها الى الشارع وهي تصيح :
حميد.. يا حميد ..
لكن ندائها تبدد ، وضاع ، عندما ابتلع منعطف الشارع أخر ظلٍ لحميد .






 


 

free web counter