| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الخميس 10/1/ 2013

 

قصة قصيرة

الربع دينار المفقود

جيكور 

إسرع يا أخانا، نادى السائق على الرجل الاخير ليحث خطاه نحو الباص ذي الثماني عشر راكباً، دعنا نتكل على الله ، بك إكتمل العدد ..
صعد الرجل ، قلب الكرسي الصغير المتصل بين المقاعد في هذا النوع من الباصات الصغيرة وجلس على حافته ، الى يمينه يجلس رجل يعتمر الغترة والعقال وقد ارتمت على كتفيهِ عباءة سوداء من الصوف الخشن ، لملم اطرافها وجوانبها ودسها في حضنه ، يحمل أوراقاً كثيرة ، يبدو انه من سكان القرى القادمين لمعاملة في احدى دوائر الدولة التي تجعل المرء يدور حول نفسه ..
والى يساره إمرأة بدينة في بداية الثلاثينات ، ترتدي ثوباً باكمام قصيرة ، بانت خلالها زنود كأنها لمصارع نيبالي ، الى جانبها بنت صغيرة لا تتعدى الثمان سنوات .

في الصف الاخير جلس أربعة شبّان في عمر متقارب يبدو أنهم أصدقاء وذلك من خلال حديثهم وضحكاتهم والتنادي في ما بينهم بالاسماء .

بين هذين الصفين صفان اخران من المقاعد توزعت على احدهما ثلاث طالبات جامعة وشابة جميلة ترتدي العباءة ، أما في الصف الاخر فقد جلس رجل كبير وزوجته الى جانبهما امرأة معها صبي يبدو انه مختل عقلياً نم عنه شكله المنغولي وحركاته المتواصلة والكلمات المبهمة التي كان يرددها.

أما السائق فقد جاوره رجل أصلع ، أنيق ، يبدو انه موظف متقاعد أو معلم قديم، الى جانبه عسكري ببدلة متربة.

سارت ( ام ثمنطعش راكب ) كما تسمى ، مخلفة وراءها هالة كبيرة من الدخان الاسود وهدير يُسمع من بعيد

دسًّ السائق المنديل بين رقبته وياقة قميصه بعد أن مسح به حبات العرق التي نضحت على وجهه في ظهيرة ذلك اليوم الصيفي اللاهب.

حاول الركاب فتح النوافذ الى اخرها، بعضها فتحت الى النصف، وبعضها استعصى ولم يتزحزح لقدم حافاتها المطاطية المتآكلةً

ثم بدأوا بجمع الاجرة ، قطع معدنية وورقية ، تداولوا بينهم تصريفها ،عدّها ومناوشتها من صف الى اخر بطريقة تدل على انهم زبن دائميون لهذا النوع من وسائط النقل ، وصل المبلغ الى السائق فراح يصف الاوراق النقدية ويطيويها حسب حجمها وقيمتها ، أما القطع المعدنية فقد قبضها بكفٍ وتركها تتساقط بانسيابية في الكف الاخرى ، أخذاً بعدّها ، بينما كانت ذراعيه تحتضن المقود خوفاً من انحراف العربة عن خط سيرها.

وضع الاجرة في الحيز الصغير المخصص للنقود فوق غطاء المحرك الفاصل بينه وبين الرجل الاصلع الذي يجلس الى جواره.

نظر الى الركاب في المرآة وصاح بصوت مسموع:
بعد واحد يا أخوان ، الاجرة ناقصة راكب واحد

خذ يا أستاذ عدّها انت ، قد أكون اخطأت في الحساب ، عدّ الرجل الذي يحتمل انه موظف متقاعد او معلم قديم الاجرة.. ثم قال :
أربعة دنانير وربع، تفضل ، اعاد النقود الى مكانها..

طيب يا أستاذ ثمانية عشر راكب اضربها في ربع دينار كم ستكون؟؟

أربعة دنانير ونصف، صحيح ؟؟

نعم صحيح ردّ الرجل الاصلع..

أخوان أظن أن احدكم نسي دفع الاجرة ، هذا يحصل دائما، الزمان الاغبر يجعلنا ننسى حتى اسماءنا،

لم يسمع اي جواب ،

عاد مرة أخرى ورفع نبرة صوته اعلى من الاولى : اخوان الاجرة ناقصة ، يعني ان احداً نسي ان يدفع هل يسمعني الجميع؟؟؟

بدأ الركاب ينظرون الى بعضهم ويتهامسون ، قال شاب يجلس في الصف الأخير : عد الاجرة مرة اخرى يا أخانا، قد تكون أخطأت بالعد !!

خذ يا ابا خليل * انت عدّها هذه المرة ، ناول السائق الاجرة الى العسكري الذي رد بدوره : تمام أربعة دنانير وربع ..

إذن هناك احداً لم يدفع ، كل يوم نفس المّوال !!! ، ونفس القصة ، لكن هذه المرة طفح الكيل..

أوقف السائق الباص وأستدار الى الركاب ، لن أتحرك شبراً واحداً حتى تكتمل الاجرة ،

قال الشباب في الصف الاخير نحن أعطينا ديناراً الى الاخ الذي أمامنا عن أجرتنا نحن الاربعة ..

صحيح يا أخانا ؟؟
رد الرجل الذي يجلس مع زوجته : نعم صحيح ..

قالت المرأة التي معها الصبي المنغولي وأنا دفعت نصف دينار عني وعن ابني، صحيح؟؟

الطالبات الثلاثة والشابة صاحبة العباءة رددن ذات الكلام ، الرجل وزوجته اكدوا دفعهم الاجرة أيضاً ..

قال الرجل صاحب العقال والرجل الذي يجاوره على الكرسي المتحرك الصغير نحن ايضاً وهذه السيدة وبنتها جمعنا ديناراً عن اربعة أشخاص..

يا إلهي سيطير برج من رأسي صاح السائق ، اين اختفى الربع اذاً ؟؟ هل تبخر ؟؟ ، أم طار مع عقلي في هذا الحر ؟؟

هّون عليك يا أخانا ، المسألة لا تساوي كل هذا الغضب ، قالها الرجل الاصلع..

بل تساوى وأكثر، قبل ايام جمع احدهم الاجرة ، وبينما توقفت لإنزال أحد الركاب نزل معه ابن الحرام ومعه الاجرة كلها ، إنسّل بين الناس ، ذاب في الزحام مثل فص من الملح ، ركضت وراءه في كل الاتجاهات فلم أجده ، أصبحت مسخرة الجميع يومها، ضحك الركاب على مصيبتي ..

يلعن دين الباصات ، لابو دين الاجرة ، متى يتوب علينا الله من هذه المصلحة بنت الكلب؟؟؟ ما الذي نجنيه بعد هذا الكد ؟؟ إنها مهنة من ليس له مهنة كما يقولون..

والله يا أستاذ لا تجلب سوى الهم ، موجهاً كلامه الى الرجل الاصلع ، الكل يمتص دمائنا، السمكري ، الصباغ ، المكيانيكي، وفوق كل هؤلاء شرطة المرور يحلبونا ذهاباً واياباً، والويل لمن يعترض او يتذمر عن دفع هذه الأتاوات المهينة ..

ويأتي بعد كل ذلك راكب يستحمرني ويسخر مني بهذا الشكل؟؟

قرص شاربه بسبابته وابهامه وصاح : سأحلق هذا اذا تحرك الباص خطوة واحدة قبل أن يدفع من نسي او تناسى دفع الاجرة..
قال الرجل الذي يجلس الى جانب المرأة البدينة ، سأدفع لك انا هذا الربع ، بل نصف دينار، او اقل لك ، سأدفع ديناراً كاملا ، خلصنا يأ اخي..

من قال لك أني شّحات أو متسول؟؟ انتقِ عباراتك وأعرف مع من تتكلم ، ليست مسألة ربع الدينار ، انها مسألة مبدأ ، مسألة كرامة ..
هل ترضى أن يستحمرك الاخرون؟؟

نهض الرجل غاضباً فامسك به القروي ، أهدأوا يا جماعة ، يا عمي والله عيب ..

صاح العسكري ، السائق معه حق لا احد يقبل ان يُستغفل ، المسألة أكبر من الربع دينار..

قال السائق والله لو جاءني وأخبرني انه لا يملك الاجرة ، لاوصلته على حسابي واعطيته مبلغاً اضافياً، لكن ان تكون المسألة بهذا الشكل فانا لا أقبلها أبداً..
لن أكون حماراً بعد اليوم ..

الضجر والقلق يتسربان الى الركاب لهذا الوضع المهين ، الذي وجدوا انفسهم فجأة فيه ، ها هم جميعهم متهمون، السائق يصر على موقفه ، والراكب الذي لم يدفع الاجرة مازال بينهم، من يكون يا ترى؟؟؟

علامات الاستفهام تدور في عيون الجميع ، ليس بينهم من تبدو عليه ملامح اللصوصية او الخداع ، ربما سقط ذلك الربع اللعين بين الكراسي او على الارض او في الجحيم ، وقف الرجل القروي باحثاً تحته و تحت كرسيه ، تبعه الاخرون وبحثوا جميعاً في أماكنهم وتحت مقاعدهم ، لعلهم يعثروا على ذلك الربع الذي تسبب في موقفهم المحرج هذا مرمياً في مكان ما
لكن محاولاتهم باءت بالفشل ولم يعثروا على أي شيء..

أزاح الرجل الذي يجلس الى جانب القروي طرف العباءه الذي سقط على ذراعه وتسبب له في حكّة لعينة تضاف الى حرارة المكان ، ثم اردف قائلاً :
كيف تلبس مثل هذه العباءة في هذا الحر يا حاج ؟؟

تعودت عليها، لا استطيع السير في هذه المدينة الكبيرة بدونها ، جربت مرة وأرتديت بدلة رسمية ، دارت بي الارض حينها ، وكدت أسقط أمام الناس ، بدونها افقد توازني ، ضحك الرجل ، وضحك القروي معه..

والان ؟؟ متى ستنتهي هذه المحنة ؟؟ هل نحن محتجزون أم ماذا ؟؟
قالها الرجل الذي يجلس مع زوجته..

صاحت المرأة البدينة لنذهب الى مركز الشرطة ، او الى مكافحة الاجرام ، هناك سيعرفون من الذي وضعنا بهذا الموقف السخيف..

أكيد تمزحين يا أختي ؟؟ قالها الرجل الاصلع المحتمل انه موظف متقاعد او معلم تعيس،

نحن لسنا لصوص او مجرمين ، ثم هل تظنين انهم سيستقبلوننا بالمرطبات والمشروبات المثلجة ، ونجلس على الارائك المريحة حتى يعرفوا ذلك الشخص؟؟

سيجلدوننا جميعاً ، نساءاً ورجالا ، سيجلدون حتى الاطفال وهذا الصبي المسكين ، وانتِ ستعترفين بأنك قتلتِ زوجك، ستدليهم على أي سكّين ، كأداة لجريمة لم ترتكبيها..

أما انا فسأمضي لهم على عشرين ورقة بيضاء قبل ان يلوحّوا بالعصى على ظهري. بدأ الخوف والقلق يرتسمان على وجه المرأة ، فراحت تتمتم بكلمات غامضة لم يفهم منها سوى.. أعوذ بالله..

احساس غريب وشعور بالتعاطف والتضامن مع هذا المجهول ، بدأ يسري في قلوب وضمائر الركاب ، من تراه يكون؟؟
هل هو القروي البسيط أعياه الذهاب والاياب من القرية الى المدينة الكبيرة ، بسبب اهمال وتقاعس وابتزاز الموظفين له والمسؤولين عن أنجاز معاملته ؟؟ فلم تعد لديه القدرة حتى على دفع ثمن الاجرة؟؟

أم هي تلك المرأة التي تدور بإبنها المتخلف عقلياً بين المستشفيات ومراقد الأئمة والصالحين وحتى المشعوذين والدجالة لشفائه ؟؟

أم هذا الموظف المتقاعد أو المعلم الذي يهتم بملابس لم تستطع النظاقة والتنسيق من أخفاء قدمها ورخص ثمنها،؟؟؟

أو تكون أحدى هؤلاء الطالبات ؟؟ وربما العسكري ؟؟ ربما الرجل الذي تظاهر بالشهامة ودفع دينارا كاملا ليبعد الشبهات عنه؟؟
ربما هو او هي ربما كلاهما ؟؟ أو لا أحداً منهما ؟؟

أسئلة وظنون بدأت تدور في كل العيون والرؤوس القلقة..

سألت الشابة صاحبة العباءة السائق الذي أشعل سيكارته الثالثة منذ توقف الباص ، هل تظن بعد كل هذا الاحراج سيقف أحدهم ويقول أنا الشخص المعني ؟؟ أنا الذي لم يدفع ؟؟

رد السائق : ليس مهما أن يقول ذلك أمام الاخرين، ليعطني اي اشارة ، كي ارتاح ، ولا أعتبر نفسي مغفلاً ..

طيب لدي فكرة ، قالت احدى الطالبات ، ليكتب كل منا في ورقة صغيرة كلمة (دفعت) او كلمة (لم ادفع) ونطويها ونعطيها للسائق..
قال القروي أنا لا اجيد القراءة والكتابة ، رددت نفس العبارة المرأة التي معها الصبي..

طيب ، نعطي لكل شخص ورقة صغيرة يكتب عليها رقم واحد ، وتعني انه دفع الاجرة ، أو يكتب رقم اثنين ومعناها أنه لم يدفع، عندها سيعرف السيد السائق أن هناك من أعترف بأنه لم يدفع ، وأنه محرج وليس لديه مبلغ الاجرة ، ، وتنتهي هذه المصيبة.
أستحسن الجميع هذه الفكرة ، وطلبوا من الفتاة ان توزع الاوراق عليهم،

أعاد الرجل الاصلع ما قالته الفتاة : ياأخوان رقم واحد يعني (دفعت) والرقم اثنان (لم ادفع)..

ساد صمت عميق في الباص قطعه الصبي المنغولي صائحاً : ( منو باد اللبع؟؟ ويعني من الذي سرق الربع ) إنفجر الركاب بالضحك ومعهم السائق ، صاحت ام الصبي عيب لا تقل هذا الكلام يا ولد ، لكن الصبي اخرج لسانه وغارت عيناه الصغيرتين في ابتسامه منغولية بريئة ، بعد أن رأى ضحك الذين حوله ، اعاد الكلمات ذاتها ( منو باد اللبع) ؟؟؟ وضعت أمه يدها على فمه : عيب يا ولد هؤلاء كلهم أناس محترمون، لا تقل هذا الكلام..

قهقهات الركاب بدأت تُسمع من بعيد ، شعروا بأرتياح بعد هذا الانقباض الطويل، دعيه يقول ما يشاء، قال العسكري، والله رسم البسمة على وجوهنا التي عكرها هذا الموقف السخيف ..

جمع الركاب القصاصات الصغيرة في كيس وقدموها الى السائق،
فضًّ أول ورقة فوجد عليها الرقم 2
فتح الثانية وكان الرقم 2، الثالثة والرابعة ،كلها حملت الرقم 2.

أحس بالخجل أمام هذا التضامن الجميل بين هؤلاء الناس الذين جمعتهم الصدفة في هذا الباص الصغير، الكل أراد أن يدفع الحرج عن الشخص المجهول...

أستدار اليهم وقال: لن اكن اقل كرماً منكم ، إجرتكم جميعاً على حسابي..

دار المحرك وسارت أم الثمنطعش راكب تمخر عباب الاسفلت مخلفة وراءها بركانا هائلا من الدخان الاسود.


*
ابو خليل : لقب يطلق على الجندي






 


 

free web counter