| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جمال الخرسان
gamalksn@hotmail.com

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 

 

 

                                                                الأحد 13/1/ 2013

     

هكذا استبدلت السرائر..

جمال الخرسان              

قرابة العقد من الزمن برفقة اصدقائه من عرب الاهوار كان ثيسيغر يتجول في مشحوفه الكبير "طراده" بين قرى الاهوار الوسطى، وحتى الاهوار الشرقية في بعض الاحيان، كان شاهدا من خارج الخندق على الكثير من الاحداث والوقائع، وثق معظمها بالصورة والكلمة، كان شاهدا في زمن عز فيه المناصرون لسكان تلك البيئة، فلا الدولة تجد نفسها معنية بهم، ولا ابناء جلدتهم وجدوا فيهم ما يستحق الاهتمام..! الا ما ندر ومن تلك الاستثناءات الشهيرة جاءت علاقة الشاعر مظفر النواب ببيئة الاهوار.

وفي احدى جولات ثيسيغر في الخمسينات من القرن الماضي ذهب الى قرية العكر في الاهوار الوسطى ونزل عند احد وجهائها المعروفين آنذاك "يونس بن حاجم الشغانبي" وهناك واجه موقفا مثيرا، لم يكن معتادا على مواجهته بين اصدقائه من عرب الاهوار، رغم المدة الطويلة التي قضاها معهم، من خلال ذلك الموقف تكشّفت له بصورة اوضح سرائر المجتمع الذي يعيش فيه، وتعرّف اكثر على قيمة العلاقة المتينة التي تشكلت بينه وبين سكان الاهوار، وتعرّف ايضا على قناعات سكان الاهوار تجاه ابناء الديانات الاخرى.. عن ذلك يكتب ثيسيغر:

" كانت الربعة مزدحمة جدا، جلس في موضع الشرف منها (سيد) شاب من (القرنة) وبينما كان بصدد جمع الاموال لغرض بناء جامع في (القرنة)، استغل (السيد) الفرصة لتحذير مستمعيه ان يوم الحساب قريب. ادركت امتعاضه من تطفلي، بعدها مباشرة سأل، كيف
يأمل مستمعوه النجاة وهم يسمحون للكفار بتدنيس بيوتهم ؟ اكتفى يونس الذي كان يعد القهوة بالصمت. وحين اصبحت القهوة جاهزة وقف يونس والدلة بيده التفت الى السيد وقال:

انا معيدي بسيط ولست عالم دين، وقد ظهر لي ان الانكليز اطهر منا، بعضنا قابلهم وكثير سمع عنهم منذ سيطرتهم على هذه الارض بعد ان طردوا الاتراك. انهم لا يكذبون ولا يأخذون الرشاوى ولا يضطهدون الفقراء. اما نحن المسلمون وكما تعرف جيدا نفعل كل هذه الاشياء. هذا بالاضافة الى نقطة جوهرية هي ان هذا الانكليزي ضيفي. ثم إلتفت الي وقال: اهلا وسهلا صاحب، الضيوف في بيتي يشربون في الفنجان نفسه، هذه عادتي وهؤلاء الذين يرفضون فعليهم الانصراف. جاء باتجاهي واعطاني قهوة، في الفنجان الوحيد الذي يحمله، وحين اكتفيت، صبّ ثانية وناول الذي بجانبي. شرب الكل باستثناء (السيّد)."
عرب الاهوار- ص 181. ترجمة سلمان عبد الواحد كيوش.

منتشيا يستعرض ذلك الموقف ثيسيغر في كتابه عرب الاهوار، وكأن لسان حاله يقول: ها قد كسبت الرهان، وكأنه ينتصر لنفسه حينما اراد المراهنة على هؤلاء البسطاء، لقد حكّموا ضمائرهم فانتصروا له في خصومته العابرة مع ابن جلدتهم وهو من الطبقة النبيلة جدا في حسابات المجتمع العراقي بشكل عام. هذا القادم من بعيد عايشهم ولامس الصعوبة التي يواجهونها في ظل غياب خدمات الدولة وخصوصا الصحية منها، رافقهم في السراء والضراء،علاوة على ذلك فهو شريكهم في الانسانية فما الداعي لان يتعاملوا معه كما تعامل معه احدهم بهذا التعالي المخيف؟!

كم يا ترى نحن بحاجة هذه الايام الى الكياسة والنباهة كتلك التي تمتع بها يونس الشغانبي؟ وهل بقيت تلك النفوس غير الملوثة بعيدة عن تاثيرات التيارات الجارفة التي تجرها الى اليمين مرة والى اليسار مرة اخرى؟! ربما.
 

free web counter