| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

د. جبار يـاسر الحيدر
j_alhaider@yahoo.ca

 

 

الخميس 29/3/ 2012

 

 بمناسبة الذكرى السنوية الثامنة والسبعين لميلاد الحزب الشيوعي العراقي
 

الاحتفاء بذكرى ميلاد الحزب في الايام الصعاب

د. جبار يـاســـر الحيـــــدر

جرت العادة ان يحتفي الكثير من الشيوعيين واصدقائهم والمعجبين بمبادئهم وتضحياتهم ومثلهم وقيمهم الرفيعة وطنيا واجتماعيا وثقافيا ، احتفاء رمزيا بذكرى ميلاد الحزب الشيوعي العراقي في يوم 31 / آذار من كل عام منذ منتصف الثلاثينات من القرن الماضي وحتى يومنا هذا ... موضوعنا هذا ليس بصدد الحديث عن نمط الاحتفالات الكلاسيكية لاحياء هذه الذكرى مركزيا او على نطاق التنظيمات في قاعدة الهرم علنية كانت ام شبه علنية او سرية حسب ما تمليه ظروف البلد سياسيا في كافة العهود التي مرت على الشعب العراقي ... وانما عن نماذج بسيطة ومتواضعة لازالت عالقة في ذاكرتي منذ الخمسينات من القرن السابق في حقب مختلفة من ايام التسلط والقهر خلال الحكم الملكي السعيدي وخلال سنوات رعب البعث الصدامي ، فبالرغم من محاذيرها ومخاطرها آنذاك لكنها كانت جميلة ، تتسم ببساطتها وتعبر عن الاصرار والتمسك بالمبادئ والتحدي ضد الظلم والتعسف ... فكان الشيوعيون واصدقاؤهم يستذكرون هذه المناسبة بفعاليات مبتكرة متنوعة ، ويجعلون من هذا اليوم مناسبة وطنية تتسم بالفرح والسعادة والاستذكار في لقاء بعض افراد العائلة او بعض الاقارب والمعارف اشبه بحفلة مختصرة ، او بشكل فردي كل في بيته وحسب الظروف والامكانات المتوفرة لتهيئة الاطعمة والمشروبات وانواع (النمنمات!) وراديو مسجل والحان موسيقية غنائية جميلة واغاني ام كلثوم المفضلة ، وعند استفسار الاطفال عن المناسبة يكون الايحاء لهم بانها عيد ميلاد احد المتواجدين .

في عام 1955 كانت الاجواء السياسية مضطربة والمطاردات والاعتقالات للقوى الوطنية والشيوعية على اشدها ، كنت في حينها طالبا في الكلية الطبية الملكية ... وقبل حلول الذكرى الحادية والعشرين لميلاد الحزب الشيوعي العراقي بيومين كلفني الرفيق مسؤول التنظيم المرحوم ( ص.ا.ر) ان اشتري كمية من الحلوى (الجكليت) وان اقوم بفتح كل واحدة ولفها باوراق بيضاء صغيرة اقوم بكتابة شعارات مختصرة عليها بالمناسبة واعادة لفها بغلافها الاصلي ، ودس في جيبي ورقة فيها هذه الشعارات ... يجب ان تكون هذه المهمة جاهزة لتوزيعها على الطلبة والاساتذه والعاملين في الكلية صبيحة 31/ آذار ... ذهبت الى الاعظمية لشراء كمية كافية من (الجكليت) وتوجهت الى البيت وبدأت بتحضير وكتابة الشعارات على الاوراق البيضاء الصغيرة وكلفت ابن خالي ( م.ح.ز) الذي كان يسكن معنا ان يساعدني بهذه المهمة ، فحل الليل وجاء والدي من العمل ولكننا لا نريده ان يعلم بهذا الامر لعلمي بانه لا يرغب ان نتورط بالسياسة كأي اب عراقي آنذاك خوفا علينا وحرصا منه على دراستنا ومستقبلنا .. اخفينا عنه كل شيئ وبقينا نترقب وقت ذهابه الى غرفته لينام .. وعلى ما يبدو بدأت الشكوك تساوره حينما سألنا لماذا لا تذهبون للنوم او تطالعون واجباتكم الدراسية ؟ فنتذرع له بحجج مختلفة .. اخذ يراقبنا من طرف خفي وما ان تأكدنا انه ذهب للنوم حتى اخرجنا عدتنا وبدأنا بالعمل واذا به يفاجئنا بفتح الباب وقال (ايا ملاعين شكاعد اتسوون !؟) فصرنا مجبرين ان نصارحه .. واذا به يفاجئنا مرة اخرى وقال (ليش ما خبرتوني من البداية حتى اساعدكم ، هاي الكمية شيخلصها .. ولم يخف قلقه وخوفه علينا !؟) ففرحنا وازيح عنا هم كبير حينما جلس معنا وبدأ يفتح (الجكليت) ويلف الورق ويعيد التغليف وقد انتهينا من العمل باسرع مما كنا نتصور .. وفي صبيحة يوم 31 / آذار سلمت الامانة الى الرفيق المسؤول وتبرعت بتكاليفها للحزب .. استبشر الرفيق المسؤول كثيرا وانيطت مهمة توزيعه الى بقية رفاق واصدقاء الحزب على الطلبة والاساتذة والعاملين في كلية الطب وطب الاسنان والصيدلة ومدرسة الموظفين الصحيين بطريقة انتقائية بحذر وبنجاح تام في اجواء ترحيبية مفرحة ... لقد كانت اول مهمة يكلفني بها الحزب في تلك الظروف العصيبة انجزتها بنجاح ومرت بردا وسلاما .

في بداية الثمانينات من القرن الماضي في الذكرى الثامنة والاربعين لميلاد الحزب ، كنت في حينها مديرا بالوكالة لمستشفى الكندي العام حيث كانت الاجواء السياسية ساخنة جدا والحرب مع ايران قائمة ايام البعث الصدامي البغيض والاضطهاد والتغييب والتسلط وحملات اعتقال الشيوعيين والاسلاميين على اشدها . في يوم 31 / آذار من تلك السنة جاءني الى مقر الادارة اقاربي وصديقي الدكتور (ع.ع.ع) وهو مسؤول في احد اقسام المستشفى وقال لي .. اليوم هو عيد ميلادي وسأقوم باجراء حفل صغير في القسم ادعو اليه بعض الاطباء والممرضات والعاملين وقد هيأت الكيكة والمستلزمات الاخرى بهذه المناسبة ، وقلت له ان عيد ميلادك كان قبل فترة وهذا اليوم ليس عيد ميلادك وانما عيد ميلاد الحزب وانك ستحرجنا وتحرج الاخرين اذا انكشف الامر وستكون النتيجة خطرة لن تحمد عقباها ، وطلبت منه ان يحتفل بالبيت ولكنه اصر على ذلك مغادرا الادارة .. وبينما كنت منهمكا في الامور الادارية وتفتيش اقسام المستشفى جاءتني رئيسة الممرضات واخبرتني ان الدكتور فلان يدعوك الى القسم لحضور قص كيكة عيد ميلاده فابتسمت ابتسامة خفية وقلت لها بلغيه شكري الجزيل وسأكون حاضرا حال انتهائي من مهمتي .. وبعد قليل ذهبت الى قسم صاحبنا ولم نخف ابتساماتنا كل للاخر ، والحقيقة كان بودي ان انفرد به (لو كان بالامكان لاصب جام غضبي عليه !!؟) .. وانشد الحاضرون (سنة حلوة يا جميل !!؟ وهنأته بعيد ميلاده طبعا !؟) وكنا نخشى الوشاية ولكنها مرت بردا وسلاما  .

في عام 1988 كان ابني الصغير طفلا في ربيعه السابع واكثر بقليل طالبا في الصف الثاني الابتدائي ... في تلك الفترة كان الجميع يعلم ان الاطفال في مدارسهم يتعرضون الى غسل الادمغة وتلقينهم لتقديس (عمو صدام !) وتعليمهم على حبه وعدم السماح لاحد ان ينال منه سوءا او يتطرق لسيرته او يسخر منه ويطلبون منهم ان يخبرونهم عما يدور في بيوتهم بهذا الصدد مستغلين عدم ادراك هؤلاء الاطفال لخطورة ما يطلب منهم !! لذلك كان العراقيون حذرين جدا امام اطفالهم آنذاك .. في مساء احد الايام كنا في البيت نشاهد افلام المجازر الوحشية المقززة للحرب في التلفزيون (صور من المعركة !؟) وكنا نتحدث فيما بيننا عن جرائم البعث وصدام ، وفجأة دخل ابني الى الصالون ووجدنا صامتين وقال (اشو ساكتين .. آني اعرف انتو كنتو تحجون على عمو صدام !!) فقلنا له (لا منحجي على عمو صدام ، وغيرنا الحديث الى موضوع آخر) وقد اصابتنا الدهشة وصعقنا منه في حينها ، ومنذ ذلك الوقت اخذنا نتعامل معه بحذر شديد .. وبعد ايام قليلة جاء يوم 31 / آذار والذكرى الرابعة والخمسين لميلاد الحزب ، قررت كالعادة الاحتفاء في البيت بطريقتي الخاصة وهيأت المستلزمات المعتادة . وحينما كنت منتشيا ومنسجما مع اغنية ام كلثوم ( أنساك ده كلام ) جاءني ابني اللعين وقال لي بابا (شنو المناسبة ؟) قلت له بابا اليوم هو عيد ميلادي ... ففاجأني وقال (مو ذاك اليوم كان عيد ميلادك ؟) ارتبكت قليلا وتظاهرت بانني لم اسمع ، ولكنه اعاد نفس السؤال فقلت له ( اي بابا انت صحيح ... ذاك عيد ميلادي في مدينة الكحلاء / العمارة ... وهذا اليوم هو عيد ميلاد انتقالنا الى بغداد ) فاقتنع وصمت ... وبعد ان مرت السنين واصبح مثقفا واعيا ومدركا اخبرته بما فعله معنا وكيف كنا نتحذر منه ، وحينها ادرك كم كان الشعب العراقي يعاني من ظلم واستبداد وخنق للحريات العامة والشخصية ايام البعث الصدامي البغيض واساليبه القذرة في خلق جيل جديد يعمل على تدمير العلاقات الانسانية الاسرية وباساليب مخابراتية جهنمية  .

اعزائي القراء الكرام .. ما جاء اعلاه هو بعض من ذكريات ايام زمان بهذه المناسبة الخالدة وهي نماذج بسيطة متواضعة من وقائع وقصص كثيرة يختزنها الشيوعيون واصدقاؤهم في كيفية التعبير عن ابتهاجهم باحياء ذكرى عيد ميلاد حزبهم سنويا وفي احلك الظروف غير مبالين بمحاذيرها ومخاطرها وما يترتب عليها آنذاك ، وتعكس مدى اصرارهم واعتزازهم بحزبهم ومآثره وبطولاته وتضحياته وشهدائه الخالدين منذ التأسيس قبل ثمانية عقود تقريبا ، كما تعكس مقدار الخوف والرعب الذي زرعته هذه الانظمة وكم هو مقدار التدمير للنسيج الاجتماعي والعلاقات الانسانية وزرع الشكوك والتجسس داخل الاسرة العراقية والظلم والاضطهاد والتسلط والتغييب والسجون والاعدامات التي مارسها الطغاة السفاحين ونظمهم البغيضة في مختلف العهود التي حكموا فيها هذا الشعب المسكين بالحديد والنار ، وبالرغم مما فعله هؤلاء الحكام الجائرين لكن تراهم يصابون بالذعر والخوف والهلع بمجرد سماعهم باسم الحزب الشيوعي اوعن سيرته البيضاء الناصعة ، فاين هم الان ؟ واين موقعهم من التاريخ !؟ وكيف انتهى بهم المطاف !؟ لقد ذهبوا الى الجحيم والخزي والعار واللعنة الابدية ، وبقي الحزب الشيوعي العراقي رافع الرأس يتابع مسيرته الى الامام بالرغم من اغلى الاثمان التي دفعها ، وستتسع قاعدته كما كانت واكثر حينما تستفيق الجماهير المغيبة ، وسيحتفى بذكرى ولادته شامخا منتصرا في كل عام مهما كانت قساوة الايام  .


 

تورونتو / كندا

آذار / 2012


 

free web counter