| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. جمال الشمري
jamal_alshamary@hotmail.com

 

 

 

الأحد 6/4/ 2008

 

هل الحسد انفعال طبيعي ام انفعال إضطرابي

د. جمال الشمري

مقدمة
لا تجد ثقافة امة من الأمم ولا دينا من الأديان لم يتطرق الى الحسد، واجمعت كلها على انه صفة منبوذة والصقت هذه الصفة دائما بالأشرار، ونسجت عنه قصص واساطير متنوعة، وجاء ذكره بهذا المعنى في جميع الأديان فيعقوب ينصح يوسف ( قال يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا ...)، واعتبرته الأدبيات المسيحية ومن ثم الثقافات الغربية اثما من الأثام والخطايا السبعة المميتة والتي هي، الشهوة، والجشع، والغضب، والكسل، والشراهة، والحسد، والغرور ، ويعوذ المسلم بالله من شر حاسد اذا حسد . ولا يزال الناس في جميع الثقافات المعاصرة يؤمنون بدرجات متفاوتة بالحسد ويتجنبون من يصفونه بالحاسد، وبقيت هذه الصفة عبر العصور والثقافات منبوذة .اذاً ما هو الحسد ؟ ولماذا يتقي الناس قديماً وحديثاً شر الحاسد ؟ وهل هو شعور وسلوك انساني طبيعي ؟ ام هو اضطراب او عرض لأضطراب نفسي ؟ او يجمع بين هذا وذاك ؟ وان كان اضطرابا اوعرضا اضطرابيا هل يمكن علاجه ؟ نحاول فيما يأتي الإجابة على هذه الأسئلة وتوضيح مفاهيم اخرى تداخل مع مفهوم الحسد وخاصة مفهوم الغيرة .

ما هو الحسد
قبل البدأ بتوضيح مفهوم او معنى الحسد لابد من التنويه الى ان هناك مفهوم اخر يتداخل مع مفهوم الحسد وهو الغيرة، وبناء على هذا التداخل ينبغي تحديد معالم كل واحد منهما ، ونبدأ بالغيرة كموضوع جانبي ومن ثم نتفرغ لمفهوم الحسد الذي هو موضوعنا الأساس.
الغيرة
Jealousy والحسد Envy كلاهما انفعالان مركبان ومعقدان، وليسا من الإنفعالات الرئيسية المعروفة مثل، الخوف والحزن والغضب والقرف او الإمتعاض والقلق، بل يتركبان منها جميعا ويقترن بهما- في انماط منهما - الكراهية والسلوك العنيف والعدوانية .
الغيرة ، هي انفعال طبيعي يختبره الشخص عندما يكون مهددا بفقدان شئ مادي او معنوي يمتلكه ويخاف ان يفتقده ويعمل على الإحتفاظ به ودفع التهديد عنه، وتظهر في الحياة العملية كثيرا بين الأزواج وبين جنس الرجال والنساء، وبين الإخوة . يظهر الإنفعال عندما يجد الشخص من يزاحمه فيه . وكما نعلم ان اي انفعال يتكون من ثلاثة مكونات، الفكرة المدركة ، والشعور، والسلوك ، فعندما يدرك الشخص ان هناك من يزاحمه على شئ مهم ، ينتابه خوف وغضب وحزن وقلق وكراهية بسبب التهديد الصادر عن المزاحم بفقدان ذلك الأمر المهم، وحينئذ يندفع للحفاظ عليه وقد يقترن سلوكه بالعنف والعدوانية عند محاولته الدفاع عنه والإحتفاظ به، وهكذا فالغيرة تكون نابعة بالأساس من الخوف والقلق على فقدان الشئ والخوف من ان يناله مزاحمه او مزاحموه . تعتمد شدة الغيرة على مدى شدة العناصر الإنفعالية التي تكوّن الغيرة، اي على شدة الخوف والحزن والغضب والقلق والكراهية . ولا تأتي الغيرة بصورة مفاجئة بل تتكون بمرور الوقت وتتصف بصفة الإستمرارية .

الحسد ، هو الأخر انفعال مركب يختلف عن الإنفعالات الرئيسية ، وفي الغالب هو حالة ادراكية معقدة تستند الى خليط من الإنفعالات الغريزية مثل، الخوف والغضب والحقد والإمتعاض والقلق والحزن ، وتختلف عنها في كون جميع الإنفعالات تزول بسرعة نسبيا وتفقد قوتها تدريجيا، في حين ان خاصية الحسد هي الإستمرارية والإحتفاظ بقوته وشدته، ويؤدي بشكل مستمر الى اختلال التوازن الإنفعالي للحاسد .
والحسد هو انفعال مؤلم ومربك ومحبط غير مريح، ويستند الى تصورات غير عقلانية تجعل الحاسد Envier يشعر بعدم السعادة دائما ويشعر انه ليس بخير، ويتمركز حول صفة او شئ او امر مرغوب فيه، ينقصه ولا يستطيع ان يمتلكه، بل يتمنى ان يمتلكه، ولكن شخصا او اشخاصا اخرين يمتلكونه، ويتمنى الحاسد زواله عنهم . وبذلك يختلف الحسد عن الغيرة، في ان الغيرة تتمركز حول شئ يمتلكه الشخص ويخاف ان يفقده، في حين ان الحسد يتمركز حول شئ لايمتلكه الحاسد ويتمنى زواله عمن يمتلكه . يشكل ما يمتلكه الأخر او الأخرون تهديدا لتقدير الحاسد لذاته، ويؤدي به الى ان يكوّن نظرة دونية لنفسه، ويقل احترامه لذاته، ويعرضه هذا التصور المؤلم الى معاناة شديدة تؤدي الى اعراض نفسية وبدنية وسلوكية مختلفة منها، تعرضه لنوبات غضب شديدة، والأحساس بثقل في الصدر، وقلق مفرط،، ومعاناة مستمرة من الضغط النفسي، وتمركزه حول ذاته، وعدم قدرته في تكوين علاقات اجتماعية ناجحة، والشعور بعدم الأمان بسبب العجز عن تحقيق ما يصبو اليه ، وتضيق عنده حدود التسامح، ويلجأ االى سلوك عدواني بشكل مستتر غالبا وباساليب خبيثة .
يتركب الحسد كما ذكرنا من خليط من الإنفعالات المذكورة اعلاه، ويتحد هذا الخليط من الإنفعالات الغريزية مع ادراك عقلي ينتج عنه تخيلات مفرطة في التشوه وتصور عقلي خاطئ يتضمن الإعتقاد بأن مزاحمه
Rival قد سلب منه الشئ او الأمر المعنوي الذي قد يكون مكانة اجتماعية او احتراما اوسمعة الخ، وقد يكون المزاحم لا علاقة له بالحاسد وليس من صنفه او من الفئة الإجتماعية التي ينتمي اليها ، ويتعرض الحاسد الى ضغط نفسي شديد نتيجة ادراكه وتيقنه بانه لا يستطيع نيل ذلك الأمر او الشئ الذي استطاع مزاحمه نيله، وعندئذ يتمنى الحاسد ان لايستطيع مزاحمه او منافسه من تحقيق ذلك او التمتع به، وقد يتطور الإنفعال عنده الى رغبة شديدة في ايذاء المزاحم او المنافس بغض النظر ان كان المزاحم يدرك ذلك ام لا . وقد تصل به الأفكار المشوهة عند حالات اضطرابية الى ان يعتقد بان الشخص الذي زاحمه يفعل ويتصرف بنية مبيّتة وهي ان يتعذب الحاسد، مما يزيد من غضبه وخوفه وحقده وقلقه .
ان هذا الإتحاد القوي بين هذه الإنفعالات الغريزية الأساسية وهذا الإدراك العقلي هو الذي يعطي للحسد القوة والشدة والإستمرارية لفترات طويلة جدا، فلا يستطيع الحاسد الخلاص من هذا الشعور القوي المسيطر عليه، ولذلك يفقد توازنه الأنفعالي ويسلك بطريقة ما الى ايذاء المحسود اما بالتمني او بانماط سلوكية عدوانية مؤذية وخبيثة مثل العمل على ان يخسر المزاحم الشيئ او الأمر الذي هو موضوع الحسد، او ان يعمل على تشويه سمعة المزاحم والطعن بها بتبريرات اخلاقية مثل الأمانة والمساواة والعدل ومبادئ اخلاقية اخرى .
والحسد انفعال ناتج عن تصورات متحجرة وادراك متحجر يمنع الحاسد من امكانية التفكير العقلاني، وما يعتقد به يكون نهائيا ويصعب تغيره، وبسبب هذا التحجر يتولد الإنحراف في بناء تصورات وافكار عقلانية، فتحت تأثير الخوف والقلق والغضب والحزن لا يستطيع الحاسد تغيير نمط تفكيره، فيتمادى في التصوير والتفكير والإدراك المنحرف .
يحصل الحسد دائما نتيجة مقارنة اجتماعية ، اي عندما يقارن الشخص نفسه مع شخص او اشخاص اخرين، ويتضمن دائما موقف سلبي سيئ تجاه الأخرين، وينقص الحاسد القدرة على تقدير ذاته بصورة عقلانية، فيكون متمركزا حول ذاته، بل يعتقد انه ليس من العدل ان يمتلك الأخر قدرات او امكانات معنوية او مادية ولا يمتلكه هو . يبّعد عند المقارنة الأسباب الموضوعية التي شكلت مكانته الإجتماعية او وضعه المعاشي او نوع مهنته او امكاناته وقدراته الشخصية ، ويذهب الى ابعد من ذلك اذ يعد نجاح الأخر او الأخرين استفزازا له ويسعى الى تدمير نجاحات الأخرين، بغض النظر عن لا اخلاقية الوسائل التي يستخدمها ، فلا قدرة له من تمييز الصحيح من الخطأ عندما يختار الوسائل التدميرية الموجهة للمحسود . يحمل دائما افكارا سلبية عمن يجعله مزاحما له ( المحسود) ويعتقد انه حقق انجازه او نجاحه او مكانته الإجتماعية بطريقة خاطئة ، ولا يتوانى من نعت المحسود بابشع النعوت ويجد دائما تبريرات اخلاقية مزيفة للنيل من مزاحمه، ويعطي تفسيرات غير عقلانية لنجاح الأخرين بل يعتقد ان الكون والحياة غير عادل ما دام يسمح للأخرين بتحقيق نجاحاتهم وبطريقة غير اخلاقية حسب اعتقاده .

أنواع الحسد
يميز المتخصصون في مجال الإضطرابات النفسية نوعين من الحسد :
1- الحسد غير الخبيث
Nonmalicious Envy ويسمى ايضا بالحسد المعتدل Benign Envy، وهو انفعال طبيعي غير اضطرابي، لا يتضمن الحقد والكراهية والعدوانية تجاه الأخر بل توقظ المقارنة عند الحاسد دوافع لتحقيق النجاح او الإنجاز الذي حققه غيره، ويدفعه للعمل والتنافس الشريف ، فلا يقترن بتدني تقدير الحاسد لذاته ما دام يعمل لتحقيق ما حققه غيرة وبطريقة تخلو من الإيذاء للمنافس، حينئذ لايؤثر الإنفعال سلبيا على الصحة النفسية للشخص او سلوكه الإجتماعي ولا يفقد توازنه الإنفعالي .
2- الحسد المؤذي
Envy Invidious او يسمى بالحسد الخبيث او الحقود Malicious Envy ، وهو نوع اضطرابي وغالبا يكون عرضا لإضطرابات شخصية مثل اضطراب الشخصية النرجسية التي يبالغ في تقدير قيمة ذاته بصورة مرضية، او يكون الحسد مرتبطا بمشكلات نابعة من عدم توافق الشخص مع الأخرين، او من مشكلات نفسية مثل، تدني تقدير الذات، والكأبة، والقلق، والعدوانية، وانماط من السلوك الإجرامي. يتولد عند المضطرب شعور قوي بان قيمته متدنية ويكوّن لذاته صورة سيئة عندما يقارن نفسه مع شخص اخر اواشخاص اخرين، لذلك يكره ذاته ويلعن دائما حظه العاثر، ويعاني من شعور مستمر بالنقص والعجز مما يؤدي الى اختلال في توازنه الإنفعالي ، ويلجأ الى الكراهية والعدوانية والحقد واساليب خبيثة للنيل من منافسه، يتخذ لنفسه هذا الأسلوب المنحرف لإعادة توازنه الإنفعالي , يشعر بارتياح تام ان استطاع ان ينال من المحسود ويعتبر ذلك عدلا، ولا يشعر ان اساليبه لا اخلاقية عندما ينتقم من غريمه بل يشعر بقوة انه صوّب امرا خاطئا كان ينبغي ان لا يحدث، وتراه دائما مهموماً كثير الحزن مغموماً حاقداً على الأخرين ، عاجزاً من تكوين صداقات حقيقية، منبوذاً يتجنبه الناس، مما يزيد من حقده عليهم وكراهيته لهم يعاني من ضغوط نفسية شديدة، يسّهل وضعه النفسي الإصابة باضطرابات نفسية مختلفة .

المشكلة في علاج الحسد المؤذي هي ان المضطرب ينكر الحسد، ويبرر كما اسلفنا سلوكه الإضطرابي وقناعاته وتصوراته اللاعقلانية، علما ان هناك امكانية لعلاج المضطرب عن طريق تصحيح الإعتقادات الخاطئة عنده، اذ ان الإعتقادات الخاطئة هي التي توقظ عنده مشاعر عدم الأمان، والإحساس بتدني قيمة الذات عنده، وان تم ذلك يمكن للشخص ان يبتعد عن السلوك العدواني والمؤذي .


 


 

Counters