| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جميل روفائيل

 

 

 

 

الثلاثاء 24 /7/ 2007

 

 


ذكريـات محليـة عـن ثـورة 14 تمـوز


جميـل روفائيـل

عنـدما نتحـدث اليـوم عـن ثـورة 14 تمـوز المجيـدة ، لا نـريد تـقويم تلـك الثـورة ومـا تبعـها ، فـذاك مـن مهمـات التـأريخ والـذين كـانوا قريـبين مـن قـراراتها أو المؤرخيـن والبـاحثيـن الذيـن يراجعـون أوامـرها وأسـرارها ووثائـقها وظـروفها .

ولكـن بالنسـبة لنـا ، مـن حقـنا التحـدث عـما لنـا إطـلاع عليـه مـن المجتمـع المحيـط بنـا فـي حيـنه ، في تلـك المرحلـة الأولـى مـن فتـرة شـبابنا ، ويمكـن أن نـتناوله بوضـوح على مسـؤولية ذاكرتـنا ، وهـو الوضـع الـذي عاشـته منطقـتنا الممتـدة شـرقي الموصـل وشـمالها وصـولا إلى ألقـوش بعـد ثـورة 14 تمـوز ، والحقيقـة أن الثـورة الحقيقـية لـم تعـش أكثـر مـن أحـد عشـر شـهرا ، كـانت فيـها قـرى وبلـدات منطقـتنا بكـل أقـوامها تعـيش فـي " عـرس " مـن الأمـان والوئـام والفـرح المتـواصل . . فقـد انتـهى عهـد اللصـوص و ( اعتـداءات الشـقاة ) الـذي اتصـفت بـه قـرانا قبـل الثـورة ، وحـل السـلام والمحبـة محـل ذلـك .

وفـي مناطقـنا . . بـرز ( الحـزب الشـيوعي العـراقي ) قـوة سـياسية وحيـدة فاعلـة ، فقـد كـان الشـيوعيون الذيـن ناضلـوا قبـل الثـورة مـن سـكان المنطقـة المتـنوعين بيـن معلميـن وفلاحيـن وكسـبة وعمـال ، والذيـن واصلـوا النضـال بعـد الثـورة ، يمثـلون وجـوها اجتماعيـة معـروفة بوقـارها وخبراتـها وتـفانيها في سـبيل كـل مـا يفيـد المصالـح العـامة لسـكان قـراهم والمنطقـة عمومـا . . ولا تـزال أسـماؤهم خالـدة ومتـداولة وتشـكل مفخـرة في حياتـها ووفاتـها ، وهـي كثيـرة في ألقوش والشـرفية وتللسـقف وباطنايـا وتلكيـف وبرطلـة وكرملـش وبخديـده وبعشـيقة وبحـزاني وحتـاره ودوغـات وسـريشكة وغيـرها مـن القـرى المختـلفة المحيـطة بـها ، ومـن الصعـب تعـداد كـل الأسـماء ، كمـا أن الإشـارة لقسـم منـها قـد يهضـم حـق غيـرها التـي لاتـقل عـنها جـدارة ، وهـو مـا لانـريده ولانرضـاه .

لكـن المؤسـف ، أن الثـورة بـدأت تفـقد " ثـوريتها " مـع اقـترابها مـن دخـول عـامها الثـاني ، وذلـك لتغـلغل القـوى المضـادة في أجهـزتها المؤثـرة والتـي وجـدت الظـروف الملائمـة لـها مـن خـلال تواطـؤ أجهـزة قيـادية في السـلطة معـها ، خصـوصا في المجـالات الأمنيـة والعسـكرية والتعليـمية التـي تمكنـت مـن إزاحـة الأوفيـاء لتحـل محلـهم العـناصر المعـادية للثـورة والسـاعية إلى إجهـاضها . وشـملت الإعتـقالات العـديد مـن الناشـطين في تلكـيف وتللسـقف والقـرى الأخـرى بتـهم زائفـة بالقتـل والإعتـداء ، والذيـن صـدرت بحـق غالبيـتهم أحكـاما جائـرة ( من المجلس العرفي العسـكري الأول الذي كان يرأسـه الضـابط الحاقـد شمس الدين عبداللـه ومدعيـه العـام الضابط الشـهير بفسـاده راغب فخري ) كـان بينـها أربعـة مـن تلكيـف بالإعـدام ونُـفذ الحكـم بـهم بعـد انقـلاب رمضـان الدمـوي المشـؤوم ، على رغـم تبـديل الإعـدام بالمؤبـد قبـل الإنقـلاب مـن قبـل عبـدالكريم قاسـم .

وفـي لـواء الموصـل ( هكذا كان الإسـم في ذلـك الوقت ) هيـمنت العـناصر المعـادية للثـورة والرجعيـة واللصوصيـة على مقاليـد السـلطة منـذ منتـصف عـام 1959 مـن خـلال وزيـري الداخلية والتربيـة والتعليـم ( الضابـطان القريبان مـن قاسـم ) وكلاهمـا رجعيـان متواطئـان مع العـناصر المعادية للثـورة ، فعمـت فوضـى شـبيهة بمـا يحـدث الآن في الموصـل ، وأصـبح القتـل حـوادث يوميـة ، وظهـرت سـوق الأجـراء الذيـن يقتـلون مقابـل ثمـن ، حتـى أنـه كـان يتـردد أن بعض الأجـراء والمراهقيـن السـيئي الخلـق مثـل طارق عبـد كرموش قتلـوا أكثـر من مـائة شـخص ، وطبعـا كـانت حصـة المسـيحيين مـن هـذا القـتل والإعتـداء والإرهـاب غيـر قليلـة . .

وفي تللسـقف ، وأنـا شـاهد على هـذا ، كان يـأتي بيـن وقـت وآخر وبحسـب مزاجـه ( المسـتهتر أحمـد عباوي ، المسـتقوي بعمـه الضابـط الحـاقد على ثـورة تمـوز مدير شـرطة لواء الموصـل اسـماعيل عباوي ) ومعـه عـدد مـن عديمـي الأخـلاق المسـلحين ، ويتجـول بيـن المقاهي ويضـرب مـن يرغـب ويهيـن مـن يشـاء ويصـب شـتائمه على القريـة بكاملهـا ، والويـل لمـن يـرد . . وكـان الخيـار الأفضـل لأهـل القريـة دخـول منازلـهم واغـلاق الأبـواب ، وتحمـّل المحنـة .

وإزاء هـذا الإرهـاب الـذي طـال المسـيحيين في الموصـل وضـواحيها ، فقـد أضطـر الآلاف مـن مسـيحيي الموصـل الإنتـقال إلى بغـداد بعـدما بـاعوا أملاكهـم بأثمـان بخسـة ، وكـذلـك حدثـت موجـة هجـرة كبيـرة مـن تلكيف إلى أنحـاء العـالم ، فـي حيـن صـار مـن الصـعب علـى أهـل القـرى المسـيحية والإيزيـدية الذهـاب إلى الموصـل حتـى أن قسّـاً مـن تللسـقف أهـانته مجموعـة من الحاقديـن قـرب سـوق المعـاش عـند مبنـى البلـدية القديـم وانتشـلت قبعتـه مـن رأسـه وأخـذت تتـقاذفها بالأرجـل ورجـع المسـكين إلى تللسـقف مكشـوف الرأس . .

كمـا أن ـ مثـلا ـ مجموعـات مـن شـقاة المجموعـة الثـقافية بالموصـل كـانوا يـنهالون ضـربا ، أمـام إدارة المعـاهد وحـرس الشـرطة ، على الطلاب مـن تللسـقف الذيـن يداومـون في معـاهد المجموعـة ، مـا أضطر هـؤلاء الطلبـة إلى الرجـاء مـن يعقـوب غريـب ( موظـف صحـي في مسـتوصف تللسـقف ، وكـان شـخصا مستـقلا وطيـبا ) لإعطائـهم إجـازات مرضـية بعشـرات الأيـام ، وذات يـوم جمـع مديـر المجموعـة المئـات مـن أوراق هـذه الإجـازات وذهب بـها إلى رئيس الصحـة حيـث اسـتدعى الموظف الصحـي يعـقوب الذي أجـاب بـأنه يعطـيها لأسـباب إنسـانية ، ولكـن رغـم ذلـك أصـدر رئيس الصحـة أمـرا بنقـل يعـقوب مـن تللسـقف .

وفـي منطقـتنا ، هيمـن على المجـالات الإدارية ( الناحيـة ) والشـرطة مسـؤولون حاقـدون على الثورة وكـل مـاهو تـقدمي ، وشـنوا حملـة ضـد الشـيوعيين ومـن يؤيـدهم ، فمثـلا مـع انقضـاء عاميـن على الثـورة ، لفّـق مديـر ناحية تلكيف ـ أعـرف اسـمه وقوميـته ـ ( كانت تلكيف ناحيـة في ذلك الوقت وليس قضـاء مثـل الآن ) بالتعـاون مـع بعـض المصلحيين وضـعاف النـفوس ( أعـرفهم ولا حاجة لذكر الأسـماء ) مـن المنطقـة تـهم ( تعريـض أمـن المواطنيـن للخطـر ) واسـتخدم صلاحيـاته في نقـل سـبعة معلميـن إداريـا مـن تللسـقف وتهـديد عـدد مـن سـكان القرية غيـر الموظفيـن بتـرك القريـة أو التعرض للإعتـقال .

والحقيـقة ، أن تـأثير العنـاصر السـاعية إلى تدميـر الثـورة والتـي تمكنـت مـن إحكـام هيمنـتها على قمـة السـلطة ، اسـتخدمت دهـاءها بمسـاعدة مؤثـرات خارجيـة ، في توجيـه عبدالكريـم قاسـم نفسـه ـ وهـو عسـكري سـهل الخـداع ، خصـوصا بعـدما صـار مغـرورا بنفسـه وزعـامته الأوحـدية للسـلطة ، مـن دون أن تكون لـه خبـرة سـياسية ـ نحـو غاياتـها الشـريرة في إضـعاف قاسـم والإطاحـة بـه ، فجعلـته يقـدم على عمليـن غيـر حكيميـن إطلاقـا . .

الأول : دفعـه إلى رفض مطالـب الكـرد بالحكـم الذاتـي ومحاولـة القضـاء على حركتـهم بالقـوة ، مـاجعل الجيش العراقي في قتـال داخلـي غيـر مبـرر إضـافة إلى تسـليحه العشـائر الحاقـدة على الكـرد وعلى عبدالكريم قاسم والثـورة وإغـداق الأموال والنـفوذ لهـا ، مـا أضر أولا بالإقتصاد العراقي وأتاح ثانيا لهـذه العشـائر الإعتـداء على السـكان الآمنيـن في قـرى شـعبنا ( الكلداني السرياني الآشوري ) في المنطقـة الكردية وتنفيـذ اعتـقالات عشـوائية للكثير مـن سـكان قـرى شـعبنا حول الموصـل بتهـم التـعاون مـع ( المتمرديـن ) مـا أدى إلى إضعـاف موقـف عبدالكريم نفسـه بسـبب الفوضـى التـي عمّـت البـلاد والضـعف الـذي أصـاب الحريصـين في الدفـاع عـنه .

والعمـل غيـر الحكيم الثـاني ، هـو إغـراء عبدالكريم للمطالبـة بالكويـت ، مـاجعل القـوى العربيـة والدوليـة المعاديـة لـه في الخـارج ، تجـد في ذلـك ذريعـة لمـزيد مـن التحريض العالمي ضـده .

كـل مـا سـردته باختصـار ، وغيـره كثيـر ، عـن إنتكاسـة الثورة منـذ دخولـها عـامها الثـاني ، أدى إلى زعـزعة قـوتها ، ماجعل الأطراف الرجعيـة ، بعـدما فشـلت في الإطاحة بعبدالكريم في تمـرد الشـواف في الموصل نتيجـة القـوة التي كانت لاتزال متوافـرة للقـوى الداعمـة للثـورة ، أن تقـدم على محاولات أخـرى منـها اغتيـاله في تشـرين الأول 1959 والتي نجـا منهـا بأعجـوبة . .

ومـع هـذا كـان قاسـم ـ بسـبب غـروره وجهلـه في الحسـابات السـياسية ـ يتـذرع بـأن غالبيـة المحيطيـن بـه معـاديـن للشـيوعيين ولكنهم أوفيـاء لـه . . وظـل على هـذا الإعتـقاد السـئ حتـى كانـت ردة 14 رمضـان الدمويـة التي أرغمتـه على البقـاء محصـورا في مقـره بوزارة الدفاع ، يدافـع عـنه فقـط عـدد مـن الضـباط الشـيوعيين والديمقراطييـن ، بعـدما واصـل أخطاءه المدمـرة ورفض إعطـاء السـلاح إلى الشـيوعيين والمواطنيـن المؤيدين لـه ، حتـى وهـو يـرى التمـرد يتصـاعد حولـه ، وأن أولئـك الذيـن كان يعتـمد عليـهم في أحـلامه قـد تخـلوا عـنه ، وحـدث مـا ليـس خافيـا . . وتواصلت المآسـي حتى اليـوم . . ولـم يبـق مـن 14 تموز غيـر الذكرى والحسـرات .