| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم المطير

 

 

 

                                                                                    الجمعة  29 / 11 / 2013

 

صاحب الحكيم بين واقع الذكريات وآفاقها..

جاسم المطير *

في ذكرياتٍ خصبةٍ حملها كتابُ صديقٍ لم التق به منذ عام 1965 كما لم تحنْ لي أية فرصة لمراسلته آو مكالمته تلفونيا في أي يوم من الأيام طيلة هذه الفترة الطويلة. شعرتُ ، اليوم، أننا نلتقي مسرورين بزمان جديد، بوسيلة جديدة أشرقت عليّ فجأة من خلال وجودِ كتابٍ أزاح عن عينيّ ستاراً كان يحجب عني رؤية صديق عزيز اسمه موجود على وجه غلاف كتابٍ أجبرني على إنهاء قراءته بيوم وليلة . لذلك كان كتابٌ عنوانه ( النجف : الوجه الآخر.. محاولة استذكار) لكاتبه صاحب جليل الحكيم قد تدفق جرسه إلى أذني بالتتابع حين قرأته مسروراً وهو يولد ويتوحد مع ذاكرتي السياسية أيام تعارفنا فيها خلف قضبان سجن نقرة السلمان. شعرت بصدق ، في هذه اللحظة، بانحناء ذاكرتي أمام غزارة تفاصيل ذاكرته الغنية بالعبق النضالي وقد أنهيتُ قراءة الكتاب بعد أن جعلني كاتبه اشعر بقوة انتمائي لخصوبة ذكرياته.

لم يكن صاحب الحكيم صديقا عزيزا حسب، بل – كما عرفته - هو مناضل عراقي من معدن خاص . عرفته في سجن نقرة السلمان أول مرة وأخر مرة عامي 1964-1965 ، خاصة حينما عملنا معاً بهيئة تحرير النشرة السجنية الإخبارية اليومية إذ كان شاباً متئداً مع صخب ذلك الزمان القاسي .كان محررا نشيطا في تلك النشرة في تلك الأيام السود المرتجفة. لم تكن تند عنه آهة ضجر أو ألم من قهر أو ملل، مهما طال ليل العمل في السجن ومهما كانت واجبات السجين متواصلة نهاراً. حتى وصَفـَه الراحل مصطفى عبود أمامي ذات يوم بعد نيلنا الحرية من قيود السجن حين سألني: أين صاحبنا ذا العينين النابضتين كالنجوم في الليل والمشعتين كشمس النهار ..؟

كان ذلك السؤال في يوم من أيام عام 1969 . وقفتُ متصلباً مستغرباً من هذا الوصف فقد عرفتُ مصطفى عبود قبل السجن وبداخله وبعد خروجنا منه انه ناقد من نوع خاص. فهو صعب في تقييم خصال الناس والأصدقاء لأنه منذ خمسينات القرن الماضي كان يعتمد على قيم حداثية جمالية عند توغله في تقييم أصدقائه ومعارفه، خاصة إذا ما تعلق أمر التقييم بخصوصية العمل وفرديته. لا توجد عنده بداية في مجاملة ولا عقدة في الصراحة . باختصار أقول ما وجدته مادحاً في السجن لغير أثنين سامي أحمد وصاحب الحكيم فقد كان من عادته أن يكون ناقداً صارما لصاحبه إذا كان غصناً واحداً فقط مكسورا من شجرة عطائه فأنه يطارد سبب انكسار الغصن مثلما يكتشف ويكشف ثمرة العطاء لدى هذا الكاتب أو ذاك المناضل . وجدت نفسي قد استغربت فعلاً من هذا الوصف الذي كنت أظنه يتطابق مع صفات الكثير من السجناء الشيوعيين في نقرة السلمان الذين أحاطت بهم أشواك الظلم والعذاب لكنهم ظلوا مندفعين نحو المستقبل والوجود المشع.

قلت لمصطفى: مَنْ تقصد ..؟

أجاب مبتسما : اقصد صاحب الحكيم لا غيره.

اليوم أدركت حق الإدراك صواب تلك الصفة حين تجولتُ بقراءة ٍ ،من دون انقطاع، لكتاب صديقي الغائب الذي شع أمامي بصفحات كتابه المُهدى إلي من صديقي ( رزاق الحكيم أبو فرح) إذ اخبرني انه التقاه في بغداد فآثرتُ الإيغال بقراءة كتاب ضم ذكريات ما خلت من نزف العرق النضالي لم تستطع كلها أن تنزع منه روحه النضالية، التي عانقتْ ارض الرافدين و ما عرف الراحة على ترابها فاضطر أن ينال توقيرا في مكتب حزبه في دمشق لسنوات طويلة بعد هجرتها إليها عام 1979 كان تحت غربتها نجماً مضيئاً بالعطاء مثلما كان مصطفى عبود قد وصفه من قبل.

تدفقت صفحات الكتاب الصادر عام 2011 وعددها 304 من الحجم الكبير بمعلومات وافية ابتداء من الولادة ومن حال العائلة التي نشأ فيها وتربى على أخلاقها، وانتهاء بصفحة نضالية على ارض كردستان مع رفاقه المقارعين بنار النضال جمهورية صدام حسين الفاشية.

أقبل في كتابه على تدوين حضور مدينته الحبيبة إلى قلبه، مدينة النجف، في ذاكرته وذكرياته وهي مدينة ينبوعه الأول وخزين طفولته وشبابه وشيخوخته.. مدينة ملحمته الأولى عن الدهر الظالم والناس المظلومين. ليست مدينة النجف للسجود وتقبيل أرضها بنظره إنما هي مدينة الثورات والنضال ، التي تظل خاشعة لفضائل نصير المناضلين و المظلومين علي بن أبي طالب.. مدينة ذات تاريخ مجيد غني بالعطاء الإنساني والفكري والصحفي . لم ينس كاتبنا مدارسها الدينية ومحلاتها الشعبية وأناسها المحبين للحرية والعلم والسلام. كما امتد قلمه إلى حب الناس النجفيين ،والى دور الأفكار الوطنية والمبادئ الديمقراطية، التي انتشرت في المدينة بين جماهيرها . وقد أشار في ذكرياته إلى تغلغل الأفكار الثورية بين الكثير من أبناء العائلات الدينية والعشائرية والعديد منهم انتموا للحزب الشيوعي أو ممن وقف إلى جانب نضاله من الأسر النجفية المعروفة مثل آل الجواهري ،وآل الرفيعي، وآل الخرسان، وآل الحكيم، وآل شعبان وآل شمسة، وآل كمونة، وآل المخزومي، وبيت مطر، وآل الحبوبي، وآل الدجيلي، وبيت الشبيبي، وبيت بحر العلوم، وبيت سميسم، وبيت عوينة، وبيت شبر، وغيرهم بالعشرات. كما وهب الشهداء الشيوعيين جانباً مضيئاً من جهده في بعض صفحات كتابه مثلما كان قلمه حاضراً في الكتابة المضيئة عن دور وواقعية وجود عائلة أل الحكيم التي كان منها أبناء وأحفاد السيد محسن الحكيم ممن انخرطوا في النضال الوطني وفي مقارعة الدكتاتورية .

قرأت ُ كتاباً من نوع خاص لكنه فريد المعنى والمغزى. ليس كتابا منهجياً ولا استذكاراً تقليدياً، بل هو شكل من أشكال استمرارية النضال بالفكر والذاكرة والقلم . هذه الاستمرارية كانت من نوع خاص ومميز. تحدث فيها عن أحلام رفاقه الشيوعيين لبناء وطن عراقي حر وعن الدماء التي سالت من اجل أن يكون شعب هذا الوطن سعيدا في نهاية المطاف . حدثنا عن كل مدينة فراتية أخرى عاش فيها أو مرّ عبرها وهو يحس أنفاسها المخنوقة. كما حدثنا في كتابه عن أهم أحداث العراق، السياسية منها والنضالية كأنه يحفظ تفاصيلها في درج مكتبه.

خلال فترة عملنا المشترك في هيئة تحرير الجريدة السجنية في نقرة السلمان عرفتُ أنه يتميز بذاكرة قوية، واسعة، سريعة فقد كان ضوء إذاعة صوت الشعب العراقي يعلق في ذهنه حال استماعه لها حتى قبل أن يرسم ذلك الضوء على ورقة بيضاء أمامه . وقد حملت هذه الميزة على صفحات كتابه عشقاً منقى لجميع المناضلين من أصحابه فأورد فيها أخبارهم ونضالاتهم وتضحياتهم، واحداً واحداً، من دون أن يهمل موقفا مهما كان صغيراً.

لقد كان هذا الرجل متواصلا ومتفاعلا ليس فقط مع وقائع التاريخ النضالي لحزبه، بل كان يحاول إضافة خصوصية معينة لتاريخ غزير من الرفقة والصداقة مع مجموعة من علاقاته الحزبية والشخصية، التي ارتبطت بحياته الطويلة. تباينت سماتها وأشكالها لتكون، بالتالي، رسما من رسوم خارطة الشيوعية العراقية في الفرات الأوسط وبغداد وكردستان . كان بالغ التنوع في نشدان الوفاء لأصحابه حين اظهر بريق صلابة رفاقه الشيوعيين وتألقهم وحبهم مما جعل قلمه يكشف نقاء ياقوت مئات من أسماء أصدقائه المناضلين الذين عاصروه في مظاهرات أو معتقلات أو سجون بحساسية نضالية فائقة من دون كبرياء ولا تبجح ، بعيدا تماما عن امتداح ذاته.

كنت أواصل قراءتي ذاهلاً في غمار البهجة والسعادة رغم أن الصفحات لم تكن خالية من رهبة الأحداث الفاشية ، التي مرت بوطننا موجهة الضربات المتتالية لحزب توهجت فيها روحه كباقي أرواح مناضليه . كنتُ اكتشف خلال قراءتي ميراثاً نضالياً دوّنه بتواضع تام عن نضال حزبه، الذي انتمى إليه منذ وعيه الأول بضرورة المشاركة في النضال الشعبي لتخليص بلادنا من حالة الإظلام المتواصلة المخيمة عليها في مختلف الأنظمة المتعاقبة على دست الحكم العراقي.

الكلام عن ذكريات الماضي يحمل في طياته قيمة كبيرة، خاصة إذا كان متصلا بشكل أو بأخر، بالواقع الراهن أو متعلقا به. لقد استطاع صديقي القديم صاحب الحكيم أن يقدم لنا نحن القراء تحليلا مكثفا وسرداً لبعض الأحداث والوقائع السياسية بأسلوب سلس لتبيين بعض صور و قيم التاريخ النضالي للشيوعيين العراقيين الذين يستعدون، الآن، للاحتفال بالذكرى الثمانين لتأسيس حزبهم، الحزب الذي امتلك إبداعاً نضالياً متميزاً في الحركة الوطنية العراقية فقد جاء كتاب صاحب الحكيم حاملاً جزءاً ناصعاً من دلالة وجوهر وسياق هذا الإبداع في أحاديثه وذكرياته عن تشكيل اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية ،وعن حركة أنصار السلام، وعن انتفاضات الشعب العراقي، وعن النضال الفلاحي في الفرات الأوسط، وعن قانون الإصلاح الزراعي، وعن إضرابات العمال، وعن الكفاح المسلح بوجه نظام صدام حسين ودكتاتوريته، وعن منظمة الحزب الشيوعي العراقي في سوريا وغير ذلك من وقائع معروفة وغير معروفة لعدد غير قليل من قراء الأجيال الفتية.

تميز أسلوبه في كتابة الذكريات بالبساطة الصادقة وبالرؤية الإنسانية شديدة الغنى والمعلومات والمعرفة المرتبطة بالقضايا السياسية العراقية. كما كان صاحب الحكيم بكتابه هذا قد اكتشف بنفسه لنفسه شكلا سردياً من أشكال التعبير في ميدان المذكرات والذكريات بشكل متناسق في الطرح والتناول.

لا ريب أن إبداع هذا المناضل في كتابة ذكرياته ستكون موضع الفخر لدى صديقنا الراحل مصطفى عبود وسيكون مسروراً أن صاحبه ما زال مؤتلفا مع إبداع الماضي النضالي ومع ماضي الفكر المشع الذي كان قد وصفه به .
يا عزيزي مصطفى عبود أعلمك : إن ذلك الشاب الطموح الذي عرفته في غرفة الإنصات الإذاعي في نقرة السلمان قد انضم لكوكبة الكتاب المبدعين بالكفاءة التي تنبأت بها . نعم أنه هو صاحب الحكيم.
 


بصرة لاهاي في 25 /11 /2013 ‏.

* كاتب وروائي
 

 

 

free web counter

 

 

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس