| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. جمانة القروي

 

 

 

 

الأثنين 7/5/ 2007

 

 

هواجس .. عيد الميلاد!!!


د. جمانة القروي

على مرمى البصر حشود من الناس، كانهم امواج بحر هائجة.. ضباب وظلام، وسحب حالكة مثقلة بالثلج الذي ما لبث يهطل دون انقطاع منذ بضعة ايام، وربما يستمر لاسبوع اخر، تلاله ارتفعت على الارض المكسوة بما يقارب المتر.. لم تزل الجرافات تعمل دون كلل لفتح الانفاق فيه ورش الملح عليه، للتخفيف من حدة الانزلااق .. تتلألأ ندفهه بياض آخاذ في الاماكن التي لا تطأها الاقدام، وما ان يختلط باوحال الاحذية و عجلات السيارة، حتى يختفي القه، ويزول بريقه .. وحسب تقاليد واعراف الشعب السويدي، لا يكتمــــــل عيد الميلاد، ولا تصبح السنة الجديدة سعيدة دونه..
سحر تسرع الخطى.. لاهثة، حاملة بيديها مختلف الاكياس الحمراء والخضراء، المطبوعة برموز عيد الميلاد و شجرته...لم يتبقَ سوى ايام قليلة ..ازدحام خانق لايطاق .. في الاسواق والمقاهــي والمخازن ومواقف السيارات، وحتى في باصات النقل العام ، الكل يحمل اكياسا مثقلة بشتى انواع الهدايا .. فحمى الشراء في هذه الايام من كل عام تزداد عند هذا الشعب ، الذي يدخـر نقوده لشيئين لا ثالث لهمــــا.. وهما ما يعيرهما جل اهتمامـــــــه ويحوزان على مساحة غير قليلة من تفكيره وتخطيطه .. هدايا اعياد الميلاد، وشراء مايحتاجونه او لا يحتاجونه لافرادالاسرة، للاقرباء والاصدقاء.. وبالطبع لن يكتفوا بهدية واحدة .. أما شراء المواد الغذائية، فهذا هم آخر لوحده !! .. تمتلئ العربات، بمختلف الاطعمة والخضروات والفواكه وكأن حربا عالمية ثالثة باتت وشيكة الوقوع ، بالرغم من ان السويد لم تذق طعم الحرب ولا تعرف معناها ولا كيف تكون!!..
ما ان تنتهي احتفالاتهم حتى تبدا مجددا عملية ادخارهم النقود.. يحلمون بالصيف وحرارة شمسه، لقضاء بضعة ايـام على احدى السواحل الحارة ينهلون من شمسهـــا، وسخونة مياه بحارها ، معوضين بذلك عن حرمانهم منها على مدار ايام السنــة.. ياملون النفس بان يظل الصيف طريقـه ويهبط فجأة في بلادهـــــم ".. ولو لاسابيع قليلة .. يتعلم الابناء من الاباء هذه الطقوس فلا يحيدون عنها وعلى نفس الخطى يسيرون..!!
منذ سبعة عشر عاما لم يتغير شئ ، في كل عام نفس المنوال، وذات الشئ .. إلى متى ستستمر هذه الدوامة.. ؟ لا ادري ؟؟؟" حدثت سحر نفسها بذلك..!! وهي تخرج من احد مخازن لعب الاطفال .. اشترت معظم الهدايا لعائلتها، والقائمة لم تنتهي بعد.. "الغريب اني كلما اشتري كلما اجد نقصا ما، لم اعد اطيق هذه المحلات .. والاسواق التي تمتلئ بنفس الالوان ..حتى الاشياء وزركشتها لم تتغير كثيرا .. كل شئ بحساب .. بتخطيط مسبق، يعرفون بالضبط ماذا سيفعلون ، ومع من سيلتقون قبل اشهر من الموعد.. حتى زيارة اهلهم، منظمة ، وبحدود.. همومهم محدودة.. وحياتهم لايتخللها مايعكر صفوها!!"..في خضم تلك الافكارالتي كانت تتلاطم في راسها، احست برغبة شديدة لأراحت جسدها المتعب، وقدميها، اللتان ضاقتا ذرعا بالحذاء الذي يشدهما منذ الصباح .. فجأة فطنت بأن إي شئ لم يدخل جوفها طوال هذا اليوم ..!! دون اي تفكير تدلف إلى مقهى صغير وجدته امامها ..توقفت عند باب قاعته الداخلية وبحثت بعينيها عن مكان شاغر .. هناك في احدى الزوايا المظلمـــة البعيدة عن النظر وجدت ضالتهــــا .. تهالكت على مقعد مبطن بالمخمل الوردي، لم ترغب بالتخي عن معطفها رغم حرارة المكان.. لم تشعر بالدفء يسري في اوصالها إلا وهي تحتسي كوبا كبيرا من شاى الفواكه الذي تحبه.. حينما اخذت الملعقة تدور في كوبها ، داعبت يدها الاخرى اطراف شعرها.. وخاطر مر كالسهم ببالها، فمزق الغشاوة التي جثمت عليه!!.. "هل من المعقول ان تصبح هدايا عيد الميلاد احدى همومي،..وماذا ولمن ساشتري؟؟ هل اصبحت افكر بعقليتهم..؟؟ وتطبعت بطباعهم،؟؟ ثم ما ان تنتهي هذه الفترة ، حتى يحتل تفكيري اين سنقضي عطلتنا السنويــة ؟؟ لايهمنا شئ سوى تصفح عروض السفر، واي الامــاكن احلى ، وارخص ، وايهم لم نزره بعـد ؟؟؟ مالي اصبحت مثلهـــم .. ادور في ذات الافلاك؟؟ ".. عنفت نفسها..!! صوت آخر من اعماقها هدء من روعها .."مادمنا نعمل مثلهم.. ونسكن بينهم.. ونتكلم لغتهم..ونعيش هنا سنوات فاكيد نصبح مثلهم.. ثم إلا يقال "من عاشر القوم اربعين يوما..صار مثلهم..!! فكم اربعين يوما ياترى في تلك السبعة عشر عاما ؟؟؟"...
ارتشفت من كوب الشاي، الذي احتضنته بيديها الباردتين ، عله يدفئهما.. تقاذفتها الافكار، فهربت منها الذاكرة إلى تلك الايام و الليالي ...
لم تكن طفلة مدللة، رغم انها اولى ثمارالعائلة التي لم يسودها الوئام يوما إلا ماندر ؟؟ فالاب بانانيته ولااباليته.. لم يكن يستطيع توفير ما يسد به رمق اطفاله السبعة.. والام بقلة حيلتها، وضعفها امام كلام والدتها التي لا تكف بمناسبة وغير مناسبة من انتقاد زوج ابنتها، ولومه.. فكثيرا ما يدب الشجاروالخلاف بينهما، ولاتفه الاسباب .. تخرج امها أثر ذلك تاركة البيت ومسؤوليته على كاهلها.. الطفلة الرضيعة والاكبر منها بعام هما الوحيدان المحظوظان، لانهما لم يفارقا احضانها ابدا.... شهق صدر سحر بحسرة مكتومة وهي تتذكر.. اهتمت بكل صغيرة وكبيرة في البيت ، لم تبخل على اخوانها بالحنان والعطف، وتلبية جميع احتياجاتهم..عمرها آنذاك لم يتجاوز العشرة اعوام حينما كانت تقوم بكل اعباء المنزل.. ابنتيها الان لايجلبن لانفسهن حتى قدح ماء .. !! رامين بثقل كل شئ عليها..!!
كانت الملعقة ماتزال تتحرك في كوب الشاي الساخن... وسحر تبحر بافكارها بعيدا، وتعود إلى ذلك البيت البسيط الذي سكنته وعائلتها في احدى مناطق بغداد..لاتزال صورته مطبوعة في ذاكرتها، .. جدرانه ، ابوابه، لون بلاطـــه، وحديقته...وحبل الغسيل.. ابتسمت في سرها عندما تذكرت حبل الغسيل.. تلفتت يمينا ويسارا محاولة بكفها اخفاء ضحكة كادت ان تنطلق من اعماقها.. يومها لم تضحك!! بل نامت ودموع الحزن قد ادمتا عينيها، وتوسدت القهر والالم ..
كم حاولت نسيان ذلك اليوم من ايام شهر شباط شديد البرودة.. لكن اشعة الشمس الوهاجة يومها اضفت بعض الدفءعلى نهاره .. وبدلا من ان تفكر سحر باللعب واللهو مع صديقاتها.. قررت حينها استغلاله بغسل الملابس .. قضت النهار كله وهي تغسل كل ماتقع عليه يدها من قطع سميكة وخفيفة، حتى بدات تفقد الشعور بيداها الصغيرتان من شدة الدعك والعصر، كانت تركض إلى الحبل وهي تنشر عليه القطعة تلو الاخرى.. ابتسمت شفتاها التي مال لونهما للزرقة، حينما وضعت اخر قطعة على الحبل الذي انقطع فجأة ملطخا جهدها وتعبها بوحل الحديقـــة..!!!
حاولت العودة إلى حاضرها، لكن عربة الماضي شدتها بقوة ... رغم كل المحن التي عصفت بها، وهي ماتزال غضة صغيرة ، لم تتوانَ عن الدراسة، وانجاز واجباتها المدرسية.. لكي تستطيع تحقيق حلمها بان تدخل الجامعة ويصبح لها شأنً ما.. لكن امالها و طموحها تحطما على صخرة العوز والفاقة.. لتجد نفسها مضطرة لاختصار الطريق والعمل كممرضة بشهادة التمريض الثانوية ..
تناولت قدح الشاي لترتشف منه، لكنه كان قد فرغ تماما .. نهضت لملئه.. سارت بين المقاعد المخملية وعلى ضوء الشموع التي يفوح بعطرها المكان، دارت عيناها في وجوه رواد ذلك المقهى .. يبدوعلى معظمهم الثراء ، فالسيدات، كن يرتدين الملابس الفاخرة والحلي الذهبية القديمة، اما الرجال اتسمت ملابسهم بالاناقة والذوق وربطات العنق الحريرية والساعات الثمينــــة ..طالعتها وجوه رصينة.. فيها الكثير من العجرفة والكبرياء ..احدهم التفت اليها ونظرة تعجب تشع من عينه.. وثانيا ابتسم وهو يتطلع اليها باستغراب ، اما تلك السيدة التي تحلقت حول منضدة قريبة من زاويتها فقد همست في اذن جارها وعيناها مسمرتان على سحر... !! "ماذا هل اقتحمت مملكة ما وانا لا ادري؟؟ ام اني في مكان لايحق لي ان اكون فيه؟؟" تسالت مع نفسها ..إلا انها لم تعر بالا لمن حولها ولا للنظرات الفضولية التي تطل من عيون الجالسين ..عبثا حاولت اسكات ضجيج الذكريات التي تزاحمت في راسها المتعب .. ما ان عادت لتجلس في مكانها حتى أطلت عليها ملامح حبيبها الاول عادل من بين ثنايا الذاكرة ، وانتصب امامها بطوله الفارع، ونحوله.. وتلك الابتسامة الهادئة الخجولة.. لاتتجاوز عدد الاصابع المرات التي التقيا بها.. لحظات من السعادة جعلتها تحلق كطائر ينفض عنه رمال الحاضر وحزنه.. بخيال المستقبل وفرحه.. قلما كانت ترفع اليه عينيها لترى نظراته حينما يتراقص بريق الشوق والحب في أخضرارهما.. لم تنسى ملامحه رغم مرور كل تلك السنوات .." يا ترى اين يكون الان..؟؟ هل رحل عن العراق كما رحلت هي مضطرة ؟؟ ربما تكور كرشه وغزا الشيب فوده .. أم انه استشهد باحدى تلك الحروب؟؟ لتختلط عظامه بعظام الاخرين، او قد يكون وقع اسيرا.. وقضى هناك ؟؟ من يدري ما حـــل بـــه ؟؟ "..
بعد برهة طويلة تنبهت إلى خدر اصاب جسمها، وشعرت بأنها لم تعد تقوى على ترك مكانها.. ابتلع الظلام بعتمته الوجوه،وخالها اشباح غير واضحة الملامح، استطالت وجوه بعضها، وقصرت جذوعهم، متحولين إلى كائنات غريبة .. لم يعد يسمع سوى عواء الريح القارسة.. لكن المقهى مازال يعج برواده ممن غادرهم الشباب منذ زمن بعيد ...ابحرت سحر في عباب افكارها، ناسية الزمن والمكان.. تذكرت كيف تركت العراق حفاظا على حياة زوجها ماجد والجنين الذي في احشائها..
التفتت سحر إلى النافذة المقابلة.. الجو الكالح، والصقيع، والعتمة المريبة تنذر بمزيد من الثلج .. سرحت ببصرها بعيدا .. وحنين غامض يعتصر روحها لتلك الايام المرة البعيدة.."لن اعود إلى الموت.. مهما كان الثمن؟؟ لن اترك جثتي تاكلها الحيوانات، والطيور وتنعق فوقها البوم..!!" ردد ماجد كلامه هذا مئات المرات.. كان جبينه يتفصد عرقا وعيناه تشعان بالعزم والتصميم على مايقول .. لم اعد احتمل رؤية الاصدقاء وهم يتساقطون كأوراق الشجر، واحدا تلو الاخر" اذن لابد من الرحيل .. والنجاة من هذاالبركان المحرق، والذي لن يخمد ويبرد سعيره قريبا..
لم يكن خيار البعد عن الوطن وترك كل شئ خلفهما سهلا .. مسيرة العذاب، واشواك المخاطر، اثارها محفورة بكل خلية في تلافيف عقلها، ولم تنسيها سنوات الاستقرار، الطمأنية والامان في السويد ما واجههما من اهوال .. ايام وليالي وهما يصعدا قمما ويجتازا وديانا، ويعبرا انهارا .. في كل ثانية كان الخطر يتربص بهما كعيون ذئب جائع ، مثل البضاعة كانا.. يتم تسليمهما من شخص، لثاني .. وثالث .. ورابــع.. يتبعونـــه كاغنام تسير خلف راعيهـــــا ..!!!" اكان قرار اختيار الغربة وصقيعها صائبا...."!! كررت ســــحر على نفســـــها هذا الســــــؤال مئات المـــرات "... الشعور باني لست انا .. احلامي لم تعد هي احلامي.. هذا الخواء المؤلم .. والجفاف المرير،المغطى باغلفة زاهية براقة .. الاحساس باني ضمن قافلة تائهة في هذا العالم منذ سنوات.... والتارجح بين الواقع، والخيال.. بين الحاضر والماضي.. الحقيقة حتمت علينا ان نقضي فـــي هذا البلد ماتبقى من اعمارنا المتعبـــة، ثم يمن علينا بميتة تعيسة سمجـــة، لندفن تحت ثلوجها .. !!! " ندت عن سحر آهـــــة حزينة .. وهي تغلق خلفها باب المقهى...