| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. جمانة القروي

 

 

 

الخميس 5/8/ 2010



الظلال واللهب

د. جمانة القروي

اســتند بظهره الى حائط الغرفـــــة البارد،ومال برأسه المرهق بالذكريات والافكار على جانبــــه،ومكثت يده ممدودة يتوســــدها ذلك الرأس الصغير، فيدغدغ شعرها العسلي اللون باطن ذراعــــه.
منذ ان كان صبيا صغيرا لم يتعدَ السبعـــة اعوام تلقى "حسان" من اخيه الذي يكبره ببضعـــة سنوات صنوفاً من الاضطهاد والظلم والقسوة، حفرت اخاديدها في اغوار نفسه وخدشت براءة طفولته، فتسرب الحقد شيئاً فشيئاً إليه ليكمن في داخلـــــه زمنا طويلا. فكلما ازداد في غيــــه والتفنن باساليب تعذيبـــه واحتقــاره والانتقـــاص منـــه، كلما كبرت وترعرعت بذرة الحقــــد والكراهية في حسان .
حاول ان يغمض عينيه إلا ان النوم استعصى عليه،حاوره، توسله لكنه ابى ان ينصاع له،جذبت عينيه نقاط لامعة مكث برهة وهو يتمعن بها .
رجع الى اكثر من عشرين عاما، لتلك الليالي الشتائية قارصة البرودة، حينما كان يضطره اخوه للنوم تحت اغصان الاشجار الهرمة في ذلك البستان الذي يحيط منزلهم القديم، يقرفص مرتعدا من شدة البرد، ملتفا على نفسه ليحميها من عبث الرياح، وغزارة المطر الذي يبلل حتى عظامه. ساعات لا نهايـــة لها من الظلام والوحشــــة والخوف والبرد يحسبها دهراً وهو فــــي العراء،تحت رحمة الحيوانات الضالة التي هي اطيب وارحم قلباً من اخيــــه المتسلط. تتراءى له من بعيد اضواء بيتهم المحرم عليه دخوله والنوم في فراشه مثل باقي اخوتــــه، فتزيد من وجعـــه وحسراتــــه.
مازال يتأرجح بين أغفاءتــــــــه وبين الذكريات المؤلمة التي حاصرته و لم يستطع الفكاك منها.
يومئذ لــم يكن ليغمض لـــــه جفن، ولم تكفَ عيناه عن ذرف دموع القهر، لتغرق وجهه الاسمر، الذي كان يدفنــــــــه بين ركبتيــه، ولا احد يسمع او يستجيب لنشيجـــه وانينــــه، فيلوذ بنفسه في محاولة يائسة للهروب من الخوف والذل والبرد.
سحب ذراعه ببطئ وهدوء خوفا من ان يقلق نومها، انقلب بجسده على الجهة الثانية فواجهه باب الغرفة الذي كان يئن من الريح الخريفية الباردة، فشعر بقشعريرة تسري في كل مفاصله، كان السكون ثقيل الوطئ في تلك الساعات من الليل.
كم من مرة حَرم عليه أخوه دخول البيت، ودون إي مبرر، فكثيرا ما يختلق الاسباب لكي يطرده من البيت مهدداً، متوعداً، بالقضاء عليه اذا تجرأ وعاد اليه! لن يستطع ابدا نسيان دموع امه وهي تبكي متوسلة اخاه الظالم ان لا يتركه في العراء وتحت رحمة الطبيعة، لكنه لم يكن ليسمع نداءها او يرق قلبه لدموعها، حاول با جحافــــه وقسوته كسر شوكة حسان وشموخه إلا انه لم يتمكن من ذلك .
أفاق من شــروده، ومن تلك الصــور التي انهالت عليـــــه عنوة! نهض من الفراش، واخذ يعيد الغطاء الدافئ على اجساد الاطفال مدثرا اياهم، حاصرته الذكريات واخذت تضيق الخناق عليه، فغرست انيابها المسمومة في رأسه.
تسارعت الايام وكبر الشقيقان، وشق كل منهما طريقه في الحياة، وعلى الرغم من كل الحرمانات التي عاشها حسان سنوات طفولته وشبابه، لكن ذلك لم يزيده إلا اصرارا ومثابرة لتحقيق ولو جزءٍ يسيرٍ من طموحاته، فأعتمد على نفسه حيث عمل اشهر العطلة الصيفية في محل لبيع العصير كي يوفر مصاريف دراسته. ما لبث ان تخرج بعد بضعة سنوات من الجامعة وعمل في مكان محترم وبراتب مجزٍ. حينئذ اخذت السعادة وبحذر شديد تنقر على بابه. أما الاخر فقد فشل في دراسته ولم يستطع تحقيق اي شئ، فكان يتسكع بين المهن، بسبب نفسيته الوضيعة واساليبه الملتوية الجبانة في التعامل مع الاخرين. كان يطرد من قبل صاحب العمل الذي سرعان ما يكشف الاعيبه وسرقاته.
زحفت الى اركان نفس حسان سحابة ثقيلة غامضة من الكآبة فحجبت عنه نور التسامح والحب،ونفخت جذوة الانتقام بداخله،مرات كثيرة تناسى فيها الماضي الاليم، حاملا جروحه بين ثناياه،محاولا تنقية الاجواء العكرة بينهما، لكن الآخر سرعان ما ينقلب كما العقرب ليلدغـــــه.
تأججت نار الغيرة والحسد وزحف لهيبهما ليحصد اي بذرة للود والاخوة . فما ان علم بان حسان يعشق ابنة جيرانهم، وينوي الزواج منها عندما يصبح مستعدا لذلك، حتى تدخل بينهما، كما الدودة التي تنخر في الخشب،عمل جاهدا من اجل تحطيم قلب اخيه، ساعيا لاستمالة قلبها اليه، فأخذ يتردد على دارها ويغدق عليها وعلى اهلها الهدايا ويحاول النيل والانتقاص من حسان امامها دائما، وعندما لم يجد له أذنا صاغية عمد الى تهديدها وفضح حبها لحسان امام إخوتها!
لاحت في خاطره تلك العينين الشهلاوين وتلك النظرات الخجولة التي كانت ترمقه بها، سمع نبرات صوتها بوضوح وهي تلقي عليه تحيتها، مثلما فعلت في الماضي البعيد، عندئذ كانت تتحين الفرص لكي تراه في خروجه ودخوله الى المنزل .
احس بوحدته الموحشة في تلك الغرفة الصغيرة واستعرت بداخله غصة أليمة وكادت العبرة تخنقـــه، كان مايزال يمضغ الماضي بشرود تام .
كيف يستطيع ان يمحي من ذاكرته، لحظة مواجهته عينيها المتسعتين المذعورتين المحتقنتين ببكاء مكتوم .تذكر تفاصيل ذلك اليوم المشؤوم، كم حاول ان يبتعد عن الخوض فيـــه،لكن ذلك كان يزيده الماً وعذاباً غير محتملين ..
يومئذ حشرت في احدى زوايا الغرفة، وبالكاد كان يظهر جزءا صغيرا من من جسدها النحيف، حينما دخل ليجد اخاه وقد حاصرها بجثتـــه الوحشية تلك ولم يترك لها اي منفذ ، سوى صوت انين مكتوم .
حطم كل شئ بينهما ولم يكتفِ، استمر في غيه، ساعيا لاقتناص اية فرصة للنيل من حسان الذي كان يفوقه في كل شئ. لم يتوصل ابدا لمعرفة سببٍ يجعل اخاه عنيفاً وقاسياً ويحمل كل هذا الحقد والكراهية تجاهـــه؟ راجع الاحداث مع نفسه مراراً، إلا انه عجز تماماً عن الحصول مايطفئ لظى فضوله! مازالت أثار الجور المنبثق من غفوة الماضي البعيد تبدو واضحة على كل تفاصيل حياتــــه.
لم يكن قد مر على وفاة والدتهما سوى اسابيع قليلة حين اعلن اخوه حبه لسناء صديقة اختهما ويريد الزواج منها، وكعادته في سرقة واختطاف الاشياء من اخوانه سرق سناء من اخوهما الاخر،الذي كان مولع بها ويتودد لها! وباسلوبه الفظ النزق فرض عليهم العيش مع زوجته الشابة في بيت الاسرة، فأحتل اكبر الغرفتين في الدار، تاركاً اخوانه ينامون في الغرفة الوحيدة الصغيرة. لم تكن سناء سوى فتاة متوسطة الجمال بيضاء ضئيلة الجسم،عسلية الشعر والعينين. في الاشهر الاولى لزواجهما حاول ارضاءها بشتى الطرق واظهار حبه واعجابه بها! هي الاخرى احبته بكل جوارحها وبدا لها رجلا مثاليا لا يضاهيه احد! لذلك تنازلت عن الكثير من حقوقها في ان تكون لها مملكتها الخاصة، مضحية باشياء كثيرة اخرى من اجل من تزوجت! لكنه فجأة انقلب عليها وتغلب حبه لذاته وانانيته على كل القيم، فلم يكن قد مرعلى زواجهما إلا اشهر قليلة حينما راح يخونها مع احدى قريباتها ودون اي مراعاة لمشاعرها! لكنها كتمت غضبها في صدرها، وتحملت اهانته لانوثتها على مضض.
بحذر فتح الشباك الذي يطل على الشارع، فمرت به نسمة هواء محملة برائحة التراب المبلل بالمطر.
خلال اعوام قليلة امتلئ البيت بثلاثة اطفال،وهبهم حسان مشاعر الحب والحنان والعطف الذي حرم منه، ومن اجلهم تغاضى عن اخطاء وفظاظة أخيه في التعامل معه. واحتفظ لسناء بالاحترام ليس حبا باخيه انما لشعوره بانها اصبحت واحدة من افراد العائلة ،ولمقدرتها وصبرها على تحمل اهانات زوجها المتكررة امام الاخرين، واحتقاره لها وضربها في العديد من المرات.
احاطــــه سكون في غاية الغرابة والوحشة، وبدا له ذلك الهدوء كما لو ان الموت عم المكان كلـــه.
وجدت في حسان آذانا صاغية لاشجانها وشكواها وملاذاً لها من قسوة زوجها، فكان يقف الى جانبها في المحن و يساعدها في الشدائد. ولمست فيه حنان وطيبة افتقدتها عند الآخر. فقد شعر تجاهها بمسؤولية ، وتحمل معها اعبائها حيث الزوج يعيش حياته وينتقل من عشيقة إلى اخرى! همس لنفسه وكأنه يواصل تحريك دواخله، فشعر بالقشعريرة تنساب كالماء البارد من قمة راسه مخترقةً ظهره.
هؤلاء الاطفال اولاده!هو الذي ساعد في تربيتهم، وهو من كان يفرح حينما يرى خطواتهم ويسمع كلماتهم الاولى،وهو الذي اغدق عليهم الحنان كتعويض عن حنان الاب الغائب، كيف له ان ينسى اهمال اخيه لزوجته سناء عندما باغتتها ألام المخاض في الطفلة الاخيرة! إليس هو من اخذها للمستشفى في تلك الليلة حالكة الظلام والمطر على اشده،غير مبالٍ بما قد يعترضهما من مخاطر الطريق، تهاوى بجسمه المتعب والمثقل بالهم على احدى الكراسي، محاولا ازاحة كتل القهر التي تجثم على روحه.
رويدا رويدا بدأ الحب يتلاشى من قلب سناء،ليحل محله الكره ورغبة الانتقام من انسان تخلى عنها في اكثر المواقف صعوبة وحساسية، ومازال مستمراً في اذلالها واحتقارها، فلمستها شرارة الانتقام لتحرق بها كل شئ.
بمرور الايام ازدادت اواصر الصداقة قوة بينها وبين حسان، فهذا يغمرها بالحب والاحترام. وزوجها يقسو عليها ويضربها ويقلل من شأنها دون اي وجه حق. ليتحول الحب إلى بغضاء وحقد، وبذرة الانتقام تكبر وتزدهر شراً. إلا انها لم تملك الشجاعة لترحل واولادها الصغارعنه.
عندئذ اتجهت بمشاعرها واحاسيسها إلى حسان الذي كان يرى في بريق عينيها رغبتها المكبوتة، في الانتقام من الرجل الذي ضحت من اجله بالكثير لكنه لم يكن سوى عابث! حسان هو الاخر تختلجه احاسيس غريبة و تنتابه مشاعر مختلفة سيما حينما يكونان معا لوحدهما. لكن إي منهما لم يتمكن من البوح بها للاخر! مدت نبتة الحب جذورها الغضة بينهما فضمر كل منهما للاخر مشاعر لم تعد خافية على كلاهما، وأن لم يتحدثا بها.
كان مايزال يرتجف فزعاً، فعقدة الخوف من اخيه سكنته على مدى حياته ، فكان لابد له من التغلب عليها ،وسحق الرعب الذي مزق اوصال روحه.
عندما غاب الاخ والزوج عن البيت، مكثا وحيدين مع الاطفال،عبثا حاول اسكات ذلك الضجيج في داخله، شئ كما الصخرة يثقل على قلبه. تحدثا في همومهما ومتاعبهما المشتركة، والطفلة الصغيرة في حضنه يهدهدها،كانت اخر من نام! اقترب من سناء لكي يناولها اياها لترقدها في فراشها. انتابه شعور غامض واحس بانفاسها تتلاحق ودقات قلبهــا وهي تقرع كطبول قبائل بدائية.واخذت عيناها تشعان ببريق لامع غريب، وشفتاها ترتجفان داعية اياه ليتلاحما في قبلة الشوق واللهفة، والانتقام معا! سمع لهاثها وشعر بالدم يفور في رأسه، كانا جوادين يصهلان، أعتصرها بقوة، اسدلت اجفانها كما لو انها تحتضر بين يديــه، مستسلمة لما عزما عليه، لم تنبس بكلمة سوى ان كل شئ فيها كان يتوسل اليه ان يأخذها! ليغرقا معا في لجة النشوة. لم يجد نفسه إلا وهو يعتليها بكل ما فيه من رغبة مكبوتة والم طويل و حقد دفين !







 

free web counter