نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. جمانة القروي

 

 

 

 

الجمعة 3 / 6 / 2005

 

 

من زوايا الذاكرة ....


القميص


د. جمانة القروي

لم يقدر لي إحصاء عدد المرات التي غسلت فيها ملابسي ، يوم اكتشفت أول مرة بأن أحد القميصين الذين املكهما قد بدا يتمزق ، في كل مرة اقرر شراء قميص جديد من أحد دكاكين القرى القريبة ، لكني دائما كنت انشغل عن هذا الموضوع بأشياء أخرى. لكني في هذه المرة كنت قد قررت نهائيا، فلم يعد من اللائق لبسه ... بحثت عن مطلبي في الدكاكين التي كانت شبه فارغة .. لم يسعفني الحظ وقتها لأجد ضالتي.. ولما يأست تماما من شراء القميص الجديد ..لمعت في رأسي فكرة خياطة ما أريد بنفسي .. ولكن من أين لي بالقماش ؟؟؟ ومن أين لي بالمستلزمات الأخرى ؟ وقبل أن يصيبني القنوط خطرت لي فكرة أخرى ، لم يكن تحقيقها صعبا .. !!! ولم لا ، قماش البشتين *، حتما سيكون ملائما ..أكيد سيكون أحلى بكثير مما لو اشتريت قميصا جاهزا...أما الخيوط والإبرة فلابد أن تكون مع إحداهن .. لم انتظر.. بدأت بتنفيذ فكرتي وسرعان ما شارف القميص أو كاد أن يكون جاهزا ..
ولكن ...ما هي إلا أيام قليلة، وحل 5 حزيران من عام 1987، يوم أغارت طائرات النظام الفاشي بأسلحتها الكيماوية على مقر قاطع بهدينان وفصائل الأنصار المتواجدة هناك ، .مخلفة وراءها سحابة هواء ثقيلة معبأ بغازات الخردل السامة ..والموت والدمار..
في ذلك المساء وما تلاه من أيام جاوزت عدة أسابيع عصيبة لم يكن أحد من مَن لم يصابوا بأذى يفكر سوى بإنقاذ الرفاق الجرحى ، ومساعدتهم .. والقيام بالواجبات اليومية والخدمة الرفاقية ، بعد أن أصيب بالعمى المؤقت ، وحالات الغثيان ، والتقيؤ المستمر اكثر من 100 نصير.. وكارثة استشهاد أربعة رفاق ..
رويدا، رويدا استعاد بعض الرفاق عافيتهم واخذوا يتماثلون للشفاء ، فانهمكنا في إعادة كل شئ إلى نصابه .. بدأنا بتنظيف غرف الفصائل المهجورة والتي كانت ما تزال تغص برائحة الكيماوي ،غسلنا كل ما طال أيدينا ، واحرقنا أيضا الكثير من الأشياء المهملة ..لم نترك شيئا إلا وغسلناه وعرضناه للشمس ، حتى الأشجار المحيطة بالمقر لم تنجو من خراطيم مياهنا تمهيدا لعودة الرفاق إلى أماكنهم..
في خضم ذلك ومن جملة الأشياء المهملة التي كانت تلقى بالنار لحرقها وجدت قميصاً ذو أزرار جميلة وقبل أن تلتهمه النار كانت أزراره في جيبي ، حيث تذكرت قميصي الذي كنت قد بدأت بخياطته... بالصدفة ناسبت الأزرار القميص تماما ، مما حثني على إكماله .. كم كانت فرحتي به كبيرة ،عندما لبسته لأول مرة ، سيما وان الفرح لم يغمر قلبي منذ شهور .. ولكن ما أن أتممت تزريره حتى طاف بي هاجس غريب ، اقشعر له بدني .. لمن يا ترى كان ذلك القميص المهمل ؟؟ من كان يلبسه قبل أن تلفه زوايا الإهمال ، هل كان لأحد الشهداء ؟؟ ظل هذا الهاجس الغريب.. وأفكار أخرى مختلفة ومتلاطمة تراودني كلما فكرت بارتدائه.. حاولت مرات عديدة تجاوز تلك الأفكار إلا أني لم أستطع ذلك .. مكث القميص ضمن حاجياتي المهمة ، إلا أنني لم ارتديه أبدا ...!!!!


* البشتين : قماش رقيق ، وبعدد من الأمتار يربط على البطن وهو ضمن الزي الرجالي الكردي .