| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. جمانة القروي

 

 

 

 

الأحد 3 /12/ 2006

 

 

دنى غالي ... تجربة الحب .. هي التي تجعلك تشعر بأنك انسان حر..!!

 

د. جمانة القروي

 من ارض الابجدية الاولى، ومن وطن الملاحم والاساطير والحضارات ، من بلاد قصائد الحب الاولى.. من ذلك الثغر الحزين الذي تظلله اشجار البرتقال والنخيل.. ومن غرين لقاء الحب بين دجلـة والفرات، يولد المبدعون .. الذين ينسجون من آلام واحزان واحلام وآمال اهلهم قصصا واشعارا وروايات ...  ليس غريبا ان ينحدر الكثير من كتابنا وشعراءنا وفنانينا  من البصرة التي كانت احدى اهم واقدم مراكز الادب والشعر والعلم عند العرب..

دنى غالي قاصة وروائية .. واحدة من مبدعي العراق ، الذين غادروه مكرهين ، لكنهم ما زالوا يشمون رائحته في كل المدن والشوارع ، وما زال أريج الوطن يفوح منهم.. ولدت دنى في مدينة البصرة وعاشت فيها سنوات طفولتها وصباها، وشبابها حيث تعلمت في مدارسها وقضت في اروقة جامعتها اربع سنوات لتحصل بعدها على شهادة البكلوريوس من كلية الزراعة ..

لنتصفح اوراق الماضي ونعود بك إلى الطفولة، والشباب، وسنوات الدراسة وتاثير كل ذلك على ابداعك، ثم ماهي البصمات التي علمت فيك لتصبحي قاصة وروائية ..؟؟

كانت نظرتها عميقة ، وبعيدة كانها تحاول من خلالها الرحيل إلى تلك الايام، لكنها سرعان ما تمردت فقالت وابتسامة تعلو شفتيها " سأبدا من مرحلة الكتابة وهي بالتالي ستقودنا بشكل او بآخر إلى كل ذلك، لا أحب تسلسل الاحداث حسب التواريخ والسنين، الحقيقة التي يستغربها السائل دائما هي اني وصلت إلى الدانمارك وانا في مرحلة النضج، وبعد فترة قصيرة من استقراري في كوبنهاكن برزت لدي الحاجة للكتابة، دون تخطيط مسبق لها، رغم أن نداءاً ملحا في اعماقي كان يحثني على ذلك منذ سنوات عديدة ولم استجب له.. كنت قارئة نهمة وكانت لي محاولات كتابية عندما كنت في أولى سنوات التفتح، ولكن لم يكن هناك مجال حتى للاعلان عنها بسبب ظروف عائلتي، حيث كنا نسعى من اجل التواري والاختفاء عن العيون المتربصة بنا وبالذات بوالدي، كان لزاما علينا ألا نثير أي ضجة من حولنا. كان امامي خياران احدهما ان اكتب ما يرضي السلطة، والاخر أن اكتب باشياء وقضايا عادية، وفي كلا الحالتين لم يكن ذلك مرضيا بالنسبة لي.. ولكن وما ان استقر بي الحال في الدانمارك حتى جاءت الكتابة كرد فعل تلقائي بعد احساسي نوعا ما بالاستقرار، وايضا لتفادي هذا التحول المفاجئ الذي حدث في حياتي حيث الخوف من القادم الجديد .. سيما ان رحلتنا تلك لم تخلُ من الغرابة وما رافقها من القرارات الصعبة في حياتنا والتي اتخذت خلال اسابيع قليلة او ربما ايام، لم نكن قد خططنا لها. كانت ذاكرتي مشحونة ومملوءة بالكثير من الامور التي تدعوني إلى الكتابة مما جعل الأمر يأتي سهلا وطبيعيا. الان وبعد سنوات، عندما اقيم كتاباتي الأولى أرى بأنها حملت شحنة من الانفعالات والعواطف، لست الآن ميالة لها.. وربما للعمر أيضا دخل في هذا.."

لقد ولدت الكاتبة دنى غالي وسط عائلة فنية، سمتها الاساسية الحب، الوالد موسيقي وشاعر، والوالدة معلمة وفنانة ورياضية تغدق من ينبوع حبها على اولادها دون حساب .. فنشأت دنى في جو طبيعي، وعاشت سنوات طفولتها بكل مرحها وشقاوتها. لم يكن الحب الذي استقته من الوالدين فقط، انما المحيط كله كان مليئا بالحنان والحب والرعاية، حب كبير غير مشروط. لقد عاشت في بيئات مختلفة فجدها لوالدها كان رجلا ملتزما بالطقوس الدينية، ويقيم شعائر عاشوراء. اما الوالد فهو موسيقي وملحن والبيت كان ملتقى للادباء والشعراء والفنانين، هذا التناقض الجميل والمزيج الغريب، والعيش في بيئات مختلفة ادى بالتالي الى هذا الانسجام والهرمونية، ومدها بغنى كبير في شخصيتها، شأن أخوتها واخواتها أيضا الذين يمتلكون مواهب فنية أخرى. كانوا يحضرون تدريبات الوالدين، يسمعون الحوارات والألحان على المسرح وينامون على الكراسي خلف الكواليس ويسافرون معهم ليحيون الحفلات الفنية ويقدمون العروض المسرحية، كل هذا انعكس في كتاباتها. لقد تمتعت بمساحة كاملة من الحرية داخل البيت وضمن المحيط، وأيضا على صعيد المجتمع وإن كانت محدودة  نوعا ما، رغم ان المجتمع في ذلك الوقت كان متفتحاً ومنطلقاً مقارنة بما طرأ عليه لاحقا. تنقلت دنى بين العديد من المدارس بحكم عمل والديها. وحتى لاح في الأفق عقد الثمانينات في مرحلة الدراسة الاعدادية، وما رافقه من احداث كبيرة، الحرب العراقية الايرانية، ثم التهجير الذي طال الكثير من العوائل الامنة، وقبلها اختفاء والدها، ومن ثم خروجه بعد ذلك إلى المنافي. بالاضافة إلى الضغوط التي مورست على العائلة من قبل الامن والمخابرات. عن تلك السنوات، قالت دنى " بعد اختفاء الوالد حاولت الوالدة جاهدة ان تكون الاب والام في ذات الوقت، فتحملت عبء المسؤولية وحدها في حمايتنا وسد احتياجاتنا، إلى جانب استمرارها بالعمل وما سبب لها ذلك من ضغوط كبيرة، تلك كانت مهمة تفوق طاقة امرأة في مقتبل عمرها، ولحين إلتحاقها بالوالد في المنفى، لم يكن كل ذلك بالشئ الهين. تلك السنوات كانت بالنسبة لنا حاسمة كعائلة ازدادت لحمتها ببعضها ازاء ما تعرضت له. عند التحاق الوالدة واخوتي بالوالد كنت حينذاك قد بدأت دراستي في جامعة البصرة واتخذت قرار البقاء في البصرة دون العائلة. هذه المرحلة هي من المراحل الحاسمة في حياتي وغريب كم كان تاثيرها كبيرا في تكويني، ولولاها ربما لم اكن كاتبة اليوم.. ".

بحيويتها التي لا تنحسر مهما كانت الحال التي هي عليه واصلت حديثها " درست في كلية الزراعة، كان ذلك نتيجة يأسي من دخول كلية الاداب التي كانت مقتصرة على البعثيين، لم اندم عليها رغم اني لم اعمل في هذا المجال مطلقا، الزراعة هي امتداد لحياة الانسان، فيها الكثير من سعادته، البذرة التي نزرعها ونرقبها لتكبر شيئا فشيئا حتى تثمر ما هي الا مصدر سعادة، وفي هذه العملية تتلخص كل رموز الحياة. كما ان لاهل البصرة بالذات ارتباط خاص بالارض والنخيل والاشجار، للأسف لم يكن هناك وعي كاف عندنا كطلبة جامعيين للإستمتاع بهذه الدراسة او غيرها، ولا التوجه العام للسلطة والمجتمع كانا يدفعان لذلك " .

لقد اكملت دراستها الجامعية في ظروف غاية في الصعوبة، حيث القصف الجوي الدائم ، والتوقف المستمر بسبب ذلك عن الدراسة، فقد كانت الحرب العراقية الايرانية ماتزال مستعرة وتزامنت مع سنوات دراستها الجامعية. تعتبر دنى هذه السنوات في حياتها خسارة في العمر لا يمكن تعويضها ابدا، حيث خنق الطموحات، هدر الطاقات، الكوابيس.. الخوف .. الرعب من الاسوأ دائما. ترك اهالي البصرة في تلك الفترة بيوتهم هربا من القصف الوحشي الذي تعرضت له المدينة تلك السنوات. والتي انتقلت اثرها دنى إلى بغداد!! هل يمكنك اعتبار بغداد اولى محطات الغربة‘ على اعتبار ان اهل البصرة بشكل خاص يعتبرون الخروج من مدينتهم إلى اي مدينة اخرى  في العراق هي غربة؟؟؟

اطلقت صوتها بضحكة فرح عالية لتقول.." يبدو ان قراءتك  لقصصي، هي ما جعلك تطرقين هذا الموضوع لاني فعلا تناولته في اكثر من قصة ، وهو بذات الوقت يلح عليَ كثيرا.. وما زلت اكتب عنه بحب ومزح وغزل. رغم البعد ففترة انتقالي هذه ما زالت تعيش حية بداخلي، اشم رائحتها في ملابسي وشعري، اسمع من خلالها ضحكات صديقاتي، واتذكر بيت جدي. كانت هناك احكام مسبقة على بغداد واهلها، نعم كانت هناك مسافات تفصل بيننا، اللهجة، ربما طبيعة الناس، إلا ان المرء سرعان ما يعالج تلك الاحكام، فقد عشت واستقريت في بغداد لسنين بعدها، وعموما فان التهم المتبادلة بين المدن موجودة في مختلف انحاء العالم ولا تقتصر على العراق، كما لمست بعد ذلك. هذه سنوات مرت في حياتي وقد تركت بصماتها بشكل واضح على ما كتبته لاحقا، فالنظام الاستخباراتي كان يحكم قبضته على المجتمع كله ويحدد سياقه، ذلك دخل في كل تفاصيل يومنا وعلاقاتنا وافكارنا وطموحاتنا، عدا آثار الهزات العنيفة لكل حدث مررنا به، كان هناك رعب جثم على صدورنا لاعوام، ما ان اتذكرها حتى اشعر بضيق وبمرارة واسف، احس وكأني اريد العبور على هذه الفترة، اجتيازها، القفز عليها ولا أرغب ان أسأل عنها.."

اردنا التوقف مع الكاتبة دنى غالي، عند اهم محطات المنافي، لكن ما ان وصلت إلى سمعها هذه الكلمة حتى استفزت وبصوت يشوبه الاستياء قالت " أنا حساسة جدا من كلمة منفى، (فهي كلمة حق يراد بها باطل)، أساء الكثيرون استخدامها، لذالك فهي مقترنة بذهني بالسلبية التي نبررها لأنفسنا، البعض منا يستخدم المنفى ذريعة للسلبية الموجودة اصلا فيهم، فيستخدمونها في تطرفهم وقوقعتهم وكحجة للخيبات والإحباطات التي يعانون منها.. لولا مغادرتي لما توفر لي الظرف المناسب لإعادة التفكير بمفهوم الوطن، الإنتماء، الإرث والانفتاح، التسامح والانسانية.. وددت كسر هذه الكلمة التي كانت تثقلني وتحملني اعباءها، بالمقابل اختار لنا البعض كلمة مهجر ومهاجرين والتي هي الأخرى غير دقيقة وغير حيادية في الخيار بين الكلمتين، لا انا منفية الان ولا انا مهاجرة ولا انا لاجئة ولا مواطنة، هذه التصنيفات غير دقيقة بالنسبة لي ولا تعرفني.. "

لقد عوضت دنى عن كل حرمانات الغربة وقساوتها وعن كل الصدمات والمحن التي واجهتها  بالكتابة والابداع والانتاج الادبي. لقد حققت ذاتها وما كانت تواقة ان تحققه في بلدها، وما يحز في نفسها أن ابواب وطنها مغلقة دونها ، لكن البلد الغريب هو من اعطاها الفرصة .. تقول دنى " ما اطمح له لإنضاج تجربتي ما زال كبيرا، ولو اني عشت في بلدي لاعطاني من دون شك الكثير الذي ابحث عنه، فدعمه لي وايصاله بي إلى ما ابغي سيكون له طعم اخر، ولكن كيف وبلدنا كل محنة تسلمه إلى محنة اخرى. وعموما الحال في كلا الجانبين غير مرضٍ بالنسبة لنا، لا جانب الخارج ولا جانب الداخل.. فكل ممارساتنا الإيجابية نتمنى لو كانت على ارض الوطن، وللاسف المجتمع العربي عموما والعراقي تحديدا يسير في خطوات متعثرة، والتطور الذي حدث ( على اختلافنا بشأنه) لم يأت بشكله الطبيعي، لا اريد الخوض في الاسباب فهي معروفة للقاصي والداني !! ولهذا نجد ان ما كتب الان ليس فيه ذلك العمق الحقيقي او الخيال، هناك الكثير من التسطيح والتقليد في تناولنا للكثير من المسائل التي تطرح، ليس سياسيا بل اجتماعيا، السلطة والرقابة الإجتماعية تفرض ايضا التقييد والتكميم.. لا كتابة مثيرة وفاعلة من دون حرية.."

غادرت دنى العراق في العام 1991 وفي عام 1993- 1994 بدأت أولى خطواتها في مشوار الكتابة. لقد وجدت هويتها الحقيقية، في الكتابة، لم تكن مولد صدفة وانما كانت نتيجة لتراكم قراءات كثيرة ومختلفة، حيث كانت تنهل من مكتبة البيت المرصوفة بمختلف انواع الكتب الادبية، وما ان وجدت التربة الخصبة والظرف المناسب حتى برزت وظهرت للعيان فأزالت الغبار عن روحها وتوضحت الرؤيا من خلال القصص والرويات .. الكتابة بالنسبة لها اداة لا يمكن ان تتخلى عنها ابدا والتي تستند عليها لكي تستمر. العائلة تدعمها في ذلك وان كانت الناقد الأول لها لكنها تترك لقناعتها الشخصية بعدها ان تكون الحاسمة.. بالقناعة وحدها تستطيع المواجهة والتحدي وتقف بكل شموخ في وجه الانتقادات وتستطيع ان تدافع عن نفسها وكتابتها.. ها نحن ذا وصلنا إلى الواحة الخضراء.. والتي مضينا نبحث عنها  لنستريح في افياءها ونستقي من ماءها.. ولنبدأ من المجموعة القصصية " حرب نامة " .. اطلقت ضحكة، كأنها ارادت انتزاعها من بحر الالم الثائر دوما في اعماقها.. " كما قلت الفترة العصيبة التي مررت بها ولدت لديَ الكثير من الانفعالات، التي كان من الصعب السيطرة عليها وكبحها .. فقد كانت مزيجاً من عواطف وغضب ومرارة ، خسارة وتقصير.. ربما كنت اشعر بخيبة كبيرة من نفسي عندما اتخذت قرار مغادرة العراق، لازمني بالبدء احساسا بالتخلي، بالهروب وقد افرغت كل هذه الشحنات في القصص التي كتبتها وصدرت في المجموعة القصصية عام 1998 باسم "  حرب نامة " . عند ذاك كان لابد من مقاطعتها، لأسالها لماذا اخترت هذا العنوان ومامعناه ؟ وكيف خطرت لك فكرة النشر ..؟؟ " ما سجل وما قيد هو مشاهدات حقيقية وممارسات يومية لفترة الحرب العراقية الايرانية التي تركت في داخلي شروخا، مازالت اثارها كبيرة وعميقة ، لم اكن قد دونت او كتبت ملاحظة واحدة ، كان كل ذلك خزينا في اعماقي انفجر، ولم يكن لي يد إلا بترتيب انثياله، اما نامة فهي تسمية فارسية تعني التقويم او المفكرة او اليوميات كإشارة إلى الحرب العراقية الايرانية، الحقيقة لقد وجد البعض فيها رواية لان فيها تسلسلاً وروابط بين الاحداث، ولو عدت لكتابة هذه القصص الآن لما كتبتها بهذه الطاقة والحماسة..". بعد صمت قصير نطقت ويداها تداعب شعرها وفي صوتها نبرة مزاح " ولكن لولا حرب نامة لما صدرت لي روايات اخرى ..!!! اما النتاج الثاني فقد كان "النقطة الابعد.." وهي رواية .. كنت فيها اكثر تروياً فقد اختلفت الحاجة هنا للكتابة تماما، وكنت قد استعدت بعضا من الاستقرار النفسي. ربما لا تختلف الاحداث والشخوص التي تناولتها كثيرا عما كتبته في المجموعة القصصية، فهي تدور في ذات المحور. ولكن على الرغم من اني احيا حياة عادية طبيعية سلمية فهذا لا يعني اننا تخلصنا من آثار ما عشناه، اشعر بالحرب ما زالت في داخلي تأبى ان تفارقني، يعيش الظرف المتشنج في اعماقي، ولا تزال الشخوص القلقة المتشنجة المتشظية هي ما يجذبني في الكتابة ويثيرني.. " ... قبل ان نتوغل اكثر في روايتها الاخرى، استوقفتها لاسئلها هل كان سهلا عليك الغور في مجاهل كتابة الرواية ..ضحكت قبل ان تقول " ليس سهلا، ولكن فيها نوع من الإنعتاق والإبتعاد عن الأرضي، ان تخلقي لك حياة وشخوصا بل وتقعي في حب احدهم، عندي ميل اكبر لكتابة الرواية وعلى الخوض والعوم فيها حتى النهاية، فيها الفضاء الواسع الرحب للتعبير والإلمام بالمشاهد على سعتها، التحدي هنا اكبر عندما استطيع الامساك بكل الخيوط وبتحريكها كما اشاء. كما احس بأني خلالها أكثر هدوءا، أقل قلقا، هذا بحد ذاته شئ كبير بالنسبة لي، لم يكن الامر هينا، في "النقطة الأبعد" هناك عشرات الاحداث والشخوص والتفاصيل البسيطة منها والمعقدة، واشعر باني سعيدة جدا لاني دخلت في هذا العالم والأهم ان قدرتي على نقد ما اكتب تكبر، بالإمكان الآن تحليل تعقيب بسيط قد يصلني من قاريء وأفيد منه ويكون له دوره في مضاعفة الرغبة بالتجريب..  ".

تواصل دنى حديثها عن نتاجها الادبي الثالث، الذي لم يتسن للكثيرين قراءته بسبب صدوره في الدنمارك، فتقول " اما الكتاب الثالث " اكتشافات متأخرة انتصارات صغيرة" فهو عبارة عن مجموعة نصوص، لم يختلف عن سابقيه، ماعدا ان الصورة ازدادت كثافة والحوار اصبح داخليا اكثر لشخوص الرواية وكذلك ازداد عمقا .." لقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الدنماركية، وتعتبر الكاتبة ذلك نقلة نوعية وخطوة حاسمة وثابتة اطلت من خلالها على الساحة الثقافية الدنماركية، فقد وجدت ان الاشياء مشتركة بين البشر، هموم الإنسان، الرجل والمرأة في مختلف انحاء العالم هي ذاتها، لقد علقت احدى الناقدات الدنماركيات على هذا الكتاب بقوله " ان ما كتبته دنى غالي ، عن هموم المراة في بلادها كان ودون ان تدري تعبيرا عن هموم المراة الدنماركية ايضا او عموما في جميع انحاء العالم".

كما اقتحمت دنى غالي مجال ترجمة الادب الدنماركي للعربية عندما عرض عليها مشروع ترجمة قصص وحكايات خرافية كتبها الكاتب الدنماركي المعروف " هانس كريستيان اندرسن" الذي يعتبر احد رموزهم الوطنية وأثمر عن ذلك صدور كتاب ب 600 صفحة هذا العام يحوي قصص وحكايات اندرسن الخرافية عن دار المدى مصحوبا بتحليلات أدبية لأحد اهم حكاياته. عن هذه التجربة تقول الكاتبة دنى غالي " بالنسبة لي كانت فرصة جيدا جدا توازي طموحي لخوض مضمار الترجمة الادبية، سيما ان الكاتب له وزنه وثقله، ليس على صعيد الدانمارك فحسب وانما في كافة الدول الاسكندنافية وباقي انحاء العالم. لقد عاش " اندرسن" قبل مائتين من السنين واللغة المستعملة في قصصه لغة قديمة، كما انه ذا اسلوب خاص، فهو بســيط جدا ومعقد جدا في آن معا، وله روحية الكاتب الناقدة والساخرة، الحادة اللاذعة بشكلها غير المباشر مما يزيد من صعوبة الترجمة لنقل اسلوبه هذا إلى القارئ العربي، لقد اضطررنا إلى مراجعة كل كلمة وجملة انا والمستشرق الدانماركي الذي يتقن العربية، حيث تم تعييني لمدة سنتين للتفرغ والعمل في هذا المشروع.  لم يكن الامر هينا وبسيطا والتالي فالكثير من الأمور قد لا تنقل كما هي عن طريق الترجمة، ولكن مما لاشك فيه انها محاولة جادة بذلت فيها اقصى مالديَ، مدى قدرة المترجم على تلمس طريق الكاتب والاحساس بروحيته هي مهمة أيضا وذلك يكون متاحا أيضا بالإطلاع على ادب اللغة المترجم منها، والترجمة تبقى كما يقال في احيان كثيرة خيانة".. !! "

مع ضحكاتها التي تعلو بين لحظة واخرى فتضيف للحديث جواً من الالفة استدركت بسرعة " رغم صعوبة عملية الترجمة إلا اني لن اتوان عن اعادتها مرة اخرى.. وبالفعل فهناك العديد من المشاريع المطروحة امامي.. اليس هذا ما كنت تودين معرفته..!!

وها نحن ذا وصلنا ل " عندما تستيقظ الرائحة " روايتك التي صدرت مؤخرا فهل لك ان تتحدثي عنها.." الحقيقة اني كتبت هذه الرواية قبل ما يزيد عن الثلاثة اعوام، ورغم ان عنوانها وغلافها رومانسيان، إلا انهما لا يمتان لذلك بصلة، لما في الشخصيات الثلاث من قساوة وتشوه، تجمعها صلات معينة وصفات خاصة أهمها التشتت...!! قد اتناول المرأة المتفتحة في داخلها، والتي هي اكثر تكيفا للظروف واكثر تحديا وعنادا، ولكنها أيضا تنغلق وتنقطع فلا تناقش المسائل بصوت عال، بينما الرجل" في الرواية" مثل الجانب الضعيف، الغير قادر على المواصلة داخل إطار المناخات الجديدة التي يتعرض لها، او التحديات التي يواجهها لذا جاءت ردود أفعاله عنيفة وغير سوية بالطبع..!! 

دون ان ندري وصلنا مع دنى إلى زقاق، فيه الكثير من المنعطفات التي لا تؤدي بنا لنيل غايتنا.. لذلك أسالها ماهو مشروعك القادم ،؟؟ وماهي طموحاتك ..؟؟ هل ستكون الترجمة هي التي تحقق ربما طموحك ؟؟ ام الرواية التي ستستمرين التوغل في مجاهلهــا ؟؟ ام انك ستعودين ادراجك إلى القصة القصيرة وترمين بثقلك عليها ؟؟ بصوت هادئ كأنه لايمت بصلة إليها اجابت " هذه النقطة بالذات افكر بها دائما .. الموازتة صعبة بالنسبة لي جدا، بين الكتابة وهاجسها والمخزون في اعماقي الذي يحتاج لسنين طويلة ليترجم على الورق وبين الواقع الذي نعيشه والذي يتطور بشكل سريع جدا ومن دون ان نشعر بسيطرتنا عليه .. والسؤال الذي اناقشه دائما مع نفسي.. هل ما نكتبه يفيد الاخرين بقدر ما يفيد الكاتب؟؟ ثم ما جدوى ما نكتب؟؟ وهل ستبرز طريقة اخرى نستطيع من خلالها ايصال ما نفكر به للقارئ الذي بدأ هو الاخر ينسحب.. هناك تحديات كثيرة تواجهنا.. عدا عن الظروف والهموم اليومية التي تستنزف الكاتب، للكتابة مناخ خاص يصعب على الكثيرين منا توفيره، الكتابة تحتاج لدرجة من الرخاء والارتخاء والخلوة حتى يرى بوضوح ما يكتب ويفكر به مع نفسه ولكي يلملم افكاره ولا يتكرر. أما ماذا ساختار من بين ما طرحتيــه فحبذا لو تكون جميعها في يدي. عندي مشاريع ترجمات ادبية جديدة لا اريد الافصاح عنها الان قبل الإتفاق بشأنها، ولي طموح بكتابات أدبية تتناول تاريخ العراق، في رواية أو جنس آخر، باعتقادي ان هذا الجانب لم يعط الإهتمام اللازم ولم يتم العمل فيه وفق شرط العمل المنفتح والحر المستقل من قبل الذين كتبوا فيه.. اعرف انه طموح كبير بعض الشئ ، ولكني ساكون جادة في تحقيقه يوما ما ".

لقد بدات دنى تفتح قلبها وتقول ما يجول في داخلها ، لذلك سالتها، من خلال قرائتي لقصصك ورواياتك وجدت ان قضية المراة ومعاناتها والظلم الواقع عليها هو ما يشغلك وبالتالي احتل الجزء الاكبر من شــخصياتك.. ضحكت ولكن بتوتر بعض الشئ .. " لا استغرب بانك تسألين مثل هذا السؤال .. والحقيقة كنت اتوقعه بين لحظة واخرى .. بالتاكيد المراة وقضيتها هي اكبر الهموم عندي، فقضية المرأة بالذات غير عادلة عندنا، وتقدم الشعوب ومقياس حضارة المجتمعات يقاس بتقدم وضعها وحصولها على حقوقها، اذاً فالمسالة لانقاش فيها ابدا، ومهما يكن الحديث عن التقدم او التطور ان لم تكن المرأة على قمة المشاريع فانها حتما لن تكون فاعلة. يجب ان تبدا المرأة بنفسها وتعمل من أجل  مشروعها الخاص لكي ترفع من مستواها وبشكل مستقل عن اي حزب او طائفة او تنظيم.. لايمكن للمرأة ان تصل لما تريد مادامت مرتبطة بهذه التنظيمات والاحزاب والاديولوجيات المختلفة، ولدينا تجربة في هذا المضمار، بينما قضية المرأة هي قضية مستقلة يجب ان تعالجها لوحدها وان تأخذها على عاتقها ومسؤوليتها. انا متاكدة من ان المراة العراقية ستاخذ دورها الحقيقي بمجرد ان يفسح لها المجال، وبمجرد ان تكون الظروف مواتية ستاخذ حتما مكانتها التي تستحقها، احاول ربما من خلال كتاباتي استنطاقها، او استفزازها ومشاكستها لكي تعرف حقيقة نفسها وقيمتها كانسانة، على مر التاريخ وفي جميع دول العالم لم تصل المراة إلى ما وصلت اليه في البلدان المتقدمة إلا بالتمرد والتضحية، يجب ان تصر المراة على حقها وتؤمن بحقها بمساواتها أمام الرجل. ولكن بشرط ان تاخذ دورها عن كفاءة وجدارة وليس لمجرد كونها امراة ودورها يكون فعليا لا تجميليا او رمزيا، إذ من المهم  اقتناع المجتمع - الرجل بقدرتها كي نضمن دعمه لها .."

 رويدا رويدا وصلنا مع دنى، إلى منبع الابداع ، وينبوع العطاء.. الحب في حياتها وتأثيره عليها كامراة اولا .. وككاتبة ؟؟ ارتسمت على وجهها الجدية قبل ان تقول.." .. لقد نشات في عائلة، الحب هو الشجرة التي بنت عليه عشها.. وتحت ظلاله الوارفة تربيت وعشت  سنوات عمري، لقد ساد الاستقرار العاطفي عائلتنا وقد علمني الكثير وكان له اثرا كبيرا في تكويني وفي حمايتي  لنفسي... الحب بأشكاله المختلفة هو احد اهم الاسباب واكثرها تاثيرا على كتاباتي، على اختلاف أوجهه وتعددها خلال فترات حياتي. الحب كان وراء قراري البقاء في البصرة وارتباطي بالإنسان الذي اخترته واختارني لنكمل مشوار حياتنا معا. والحب من ثم في إرتباطنا الذي لا يمكن وصفه بثمرة هذا الحب. ومع تقدم العمر والنضج اعتقد نحن نميل إلى إيجاد فسحة نرصد من خلالها هذا الجانب في دواخلنا، أنا اجد متعة خاصة في هذا، أعني في اكتشاف جوانب جديدة في انا، في الحبيب، الانسان لا يبقى على حاله، قد يكون الحبيب واحد والقصة واحدة ولكن النظر إلى ذلك يحدث من جوانب عدة كل مرة، كل مرحلة، حتى من خلال اليوم الواحد، النظرة قد تتبسط او تتعقد فالانسان يختلف ويتغير، تحصل له مستجدات كثيرة تؤثر على تفكيره، وعند ذاك تثار اسئلة اخرى ربما اكثر تعقيدا، لذلك تجدينني اناقش ظلال هذه الجوانب المهمة والمعقدة عبر العلاقة بين الرجل والمرأة .. بالإضافة إلى الانسان وارتباطه بوطنه وارضه انهما موضوعان لا يمكن فصلهما عن بعض .. العلاقة العاطفية هي الاحساس المستقل للانسان.. وتجربة الحب  من شانها أن تجعلك تشعر بانك انسان حر ومستقل .. "

لدنى غالي اوجه عديدة لا يعرفها الكثيرون، فالى جانب كونها قاصة وروائية فلها كتابات شعرية ونثرية أيضا.. وسيصدر لها قريبا ديوانا شعريا بالعربية وبالدنماركية، كما ان لها محاولات جميلة ومتنوعة في الرسم. دنى لا تعبر عن نفسها بالقلم فحسب، انما بالريشة ايضا فهي ترسم اللوحات، وجدران بيتها مزدانة بالعديد منها، عن هذا الجانب الغير منظور.. تقول " احببت اللون منذ الصغر والعبث بالالوان ومزجها كانت متعتي القصوى.. واللون يحل محل الحرف كمحاولة أسرع في اختراق الازمات عندي، حينما لا استطيع الكتابة، يمكن ان تفرغ الشحنة الداخلية من العنف او الفرح او الحزن بالرسم .. كلها محاولات ليس إلا للتعبير عن مكنونات النفس، رغم الأمان والراحة من حولنا فهناك فوضى في الداخل، لا اظنني وحدي فجيلي بأكمله يمكن تسميته بجيل الفوضى، جيل مبعثر ومشتت وقد يصعب احتواؤه.."

لقد شارف قاربنا الذي ابحرنا به مع دنى للوصول للميناء الاخير فسألتها هل تعتقدين بانك قد حققت ذاتك من خلال ما كتبتيه.. بدت مترددة قبل ان تجيب" انا اعتقد اني حققت جزءاً بسيطاً، نعم لقد امدتني الكتابة بالاستقرار، بشيء من التوازن النفسي والسعادة الحقة، وايضا الدافع كي اواصل لاحقق ما ابغيه، إلا انه يبقى غير كاف او كامل، هناك دائما ما ننتقصه، وانا لست متفائلة دائما.."

متى نلتفت إلى مثقفينا ومبدعينا .. الموجودين في جهات الارض الاربع ، والذين يشكلون الجزء الاكبر من الثفاقة العراقية ، لكي يفتح الوطن العزيز ذراعيه  لهم ويضمهم إليه ...!!!