موقع الناس     http://al-nnas.com/

ابراهيم احمد .. الطبيعة هي افضل مدرسة لتعلم الجمال ..



د. جمانة القروي

الخميس 28 /9/ 2006

يشق نهر الفرات أراضي مدن وقرى عديدة تختلف في اجناسها ولغاتها ولهجاتها..,إلا أن ماءه لايتغيرفي عذوبته ونقائه .. عند احدى ثناياه وفي اعاليه تقع مدينة هيت، التي هي احدى نواحي محافظة الانبار.. حيث عيون القير الطبيعية الساخنة ابدا التي تنبثق من باطن الصحراء والتي تشعل بعيدان الثقاب حيث كانت تجذب السواح اليها من كافة انحاء العالم لما تتميز به من جمال عجيب اخآذ ....
في هذه المدينة التي يحدها النهر من جهة والصحراء من الجهة الآخرى ..وبين كثبانها الرملية،وسباخها وبراريها، وبيوتها الطينيــة وعلى سندس بساتينها.. وأصوات نواعيرها.... ولد ونشا القاص ابراهيم احمد .. في بداية او منتصف الاربعينات من القرن الماضي..
" في احيان كثيرة .. يصعب علينا تحديد الاحداث مع السنوات، سيما سنوات الميلاد.. فانا في حيرة من أمري فالسجلات تشير إلى العام 1946.. لكن وثائق اخرى تشير إلى 1942 .. وبين هـــذا وذاك فانا اعتقد ان ســـنة الميلاد كانت 1944 ".. بهذه الجملة بدأ حديثه عندما سالناه عن سنوات الطفولة .. وماهو تأثيرها عليه ..؟ واصل كلامه بهدوء، وصوت أقرب إلى الهمس.." لقد نشات في ظل اسرة فقيرة في مدينة هيت التي هي جزء من لــواء الدليم ، كما كانت تسمى على ايـــامنا.. الحقيقة لقد كانت نشأتي فيها الكثير من الحرمانات والآلالم والفقر..لقد فتحت عيني على الدنيا لاجد نفسي وحيدا مع امي، التي افترق عنها والدي، فكانت تكدح من اجل ان توفر لي لقمة العيش رغم انها من اسرة زراعية كبيرة، إلا انها لم تحصل على حقها لما هو معروف عن صراعات العوائل حول الملكية، وحرمان النساء، واستئثار الرجال بالارث " ...هذا ما دعاه إلى التفكير في حياته وهو مازال غضاً صغيراً، خلق عنده نوع من النقمة على الملاكيين وعلى الاغنياء الذين يستولون على الثروة والاملاك دون وجه حق ويغمطون حق اقرب الناس لهم ، مما ولد لديه شعوراً بالحيف ، شعور بكره الظلم والاستغلال .. لكن والدته لم تتوان عن ادخاله المدرسة والعمل من اجل توفير كل متطلباته، فقد اوقفت حياتها عنده.. سيما وانها فقدت اخته التي كانت تكبره بخمس اعوام ... عن ايام الطفولة والشباب .. يقول " في بلدتي كان لي اقران منذ الدراسة الابتدائية وحتى مرحلة الثانوية .. نعم كان لكل منا اهتماماته الخاصة به إلا انها وعلى الاغلب تنصب في انها لهو بريء، حيث كنا نصطاد السمك، وعندما ينخفض نهر الفرات كانت تظهر اراضي في منتصف الشاطي تسمى " الشطاطي" حيث كنا نزرعها بالخضروات، كما كانت اسراب من الطيور الغريبة تهاجر إلى منطقتنا في فصل الصيف، فكنا نبحث عنها ونصطادهـــــا أو نتملى أشكالها الجميلة ..لقد نشات مع هذا اللهو البرئ على شواطي النهر، وبين الاشجار فانا دائما اقول أن الطبيعة افضل مدرسة لتعلم الجمال، حيث نتشرب به منذ الطفولة وبشكل عفوي ومتأن ومتدرج .. اما ايام المدرسة كانت البساتين تضمنا في احضانها، مما كان يزيد من شحنات الوحي والالهام في حب الجمال ..
عندما سألته عن المدارس التي درس فيها .. تسللت اصابعه إلى جبينه وابتسم قبل ان يواصل حديثه:" للمدارس في هيت قصة جميلة، حينئذ لم يكن هناك بناية صممت خصيصا كمدرسة .. الذي كان هو عبارة عن بيت كبير يستأجر من احد اغنياء المنطقة، وكثيرا ما كانت تكون هذه البيوت " المدارس" على ضفة النهر فمع فيضان النهر تغرق المدرسة ،مما يضطرنا للمكوث في بيوتنا لمدة تزيد احيانا عن الشهر لحين ايجاد بيت " او مدرسة " اخرى" ... انهى ابراهيم احمد دراسة الابتدائية والمتوسطة في هيت،أما سنوات الثانوية فكان مقررا ان يذهب إلى مدينة الرمادي لاكمالها، إلا أن الصدفة لعبت دورها، فقد زار مدينة هيت رئيس الوزراء انذاك " عبد الوهاب مرجان" فوقف مدرس الرياضيات " امين الملا عليوي" بين يديه مقدما مطلبه بشكل ابيات شعرية فقد كان هذا الاسلوب متعارفا عليه في هيت، قائلا له :
               من كان يحلم أنا في منازلنا
                              يوماً يشرفنا ذو العهد مرجان
               والثانوية يا مولاي ينقصها صفان
                              لو كملا لم يبق نقصان..

وبالفعل استجاب رئيس الوزراء لمطالب الشاعر وأمر بتوسيع المدرسة المتوسطة إلى ثانوية فاستطاع إبراهيم مع اقرانه اكمال المرحلة الثانوية " في ثانوية هيت للبنين" .. بعد ذلك ترك مدينتــه منتقلا إلى بغداد للدراسة في كلية الحقوق، وقد اضطر للعمل اثناءها لتسديد مصاريفها الباهضة، فعمل في مصلحة البريد والبرق كعامل بدالة ليلا.. وواظب على الدراسة صباحا.. في عام 1967 تخرج من الجامعة، وقد استمر في العمل في ذات المصلحة حيث لم يستطع فتح مكتب محاماة .. في تلك الاعوام التي كان القلق وعدم الاطمئنان يشوبها، فقد استلم حزب البعث السلطة،لذلك لم يكن من السهل عليه الاستغناء عن الوظيفة الحكومية، سيما وانه حصل على وظيفة بعنوان " مشاور حقوقي" في نفس المصلحة ..

يعتبر ابراهيم احمد واحداً من رواد القصة القصيرة جداً في العراق لذلك كان الغوص في الماضي، والتوغل عميقا معه في غابتها الوارفة ضرورياً ، لمعرفة بداياته الاولى مع القصة القصيرة والرواية،فسألته كيف اكتشف معالمهما، وكنوزهما في نفسه ؟
نظر الى نافذة الشرفة التي امامه، ربما ليستعيد السنوات الطويلة التي مرت، على اول قصة كنبها أو ليتذكر تداعياتها.. ثم تكلم بهدوء، وصوت يكاد أن لايسمع " الحقيقة ، كانت محاولاتي الاولى في مرحلة الصبا والمراهقة شعرية ، مثل كل اهل مدينتي، او كأي عراقي، فقد احببت الشعر وحفظت الكثير منه، وتملكني احساس باني استطيع نظم الشعر الموزون والمقفى ، وكثيرا ما كنت اكتب اشعار الحب و الوله لاصدقائي ، لكني بعد حين سئمت هذا النوع من الكتابة بل وجدت القوافي والآوزان نوعاً من الكذب والهراء، كتبت قصائد نثرية أو شعر حر، نشرت في مجلة الف باء ومجلة الثقافة وغيرهــا ، لكني استطيع القول انها لم تكن قصائد ناضجة ، فتكون لديَ نفور من الشعر لاني وجدته لا يعبر عما في نفسي من تسأولات و هموم.. ثم فجأة بدأت بكتابة القصة القصيرة وقد نشرت الف باء عام 1970 اول قصة لي لي قصة (زهور في يد المومياء ) لقد اثارت هذه القصة جدلا ، واحاديث في الاوساط الثقافية العراقية حيث كتب القاص موفق خضر تعليقا عليها جاء فيه " ان قصة زهور في يد المومياء هي فتح للقصة العراقية ".. حيث كتبت بطريقة التداعيات الغير مرتبطة إلا في الاطار العام و كانت ذات طبيعة عاطفية معينة .. تابع الاستاذ ابراهيم احمد كلامه باسى ليقول .." ياليتني واصلت الكتابــة بذات الاسلوب ، لكان للقصة عندي منحى اخراً.. ولكن الواقع كان له متطلباته وما كان بالامكان المضي على هذا النمط من الكتابة لان القارئ العراقي لم يكن ليستوعب هذا الاسلوب، بالاضافة إلى ان القراء يستسهلون القراءات البسيطة التي فيها الكثير من الوضوح وربما المباشرة ،لم أستجب لهكذا طلبات من القراء بنفس الوقت لم أمض في الأسلوب الصعب المعقد . وهكذا وجدت ان لي مخزون كبيرعليَ ايصاله إلى القارئ... ان القصص التي كتبتها تجمعت من الام المجتمع وخرجت من رحمه وقد تمازجت بخبرتي الخاصة طبعاً ،إذ لا بد لكل كاتب من ترك بصماته على الموضوع مهما كان عاماً .."
هل نستطيع القول بان المجتمع كان له التاثير المباشر عليك ، وعلى كتابتك للقصة القصيرة ، بالاضافة إلى انه مر وقت طويل عليك قبل ان تدخل عالم كتابة الرواية ؟
" الحقيقة انا لا استطيع القول ماهي بالضبط الدوافع التي جعلتني اكتب القصة ، ربما تكون شحنة نفسية او عاطفية معينة فرضت نفسها علي، لكني ما ان وجدت صداها لدى القارئ حتى واظبت على الكتابة، هناك احساس لازمني ويلازمني وهو اني اعتبر القصة نوعاً من انواع الشعر لكنه خارج عن اطار الموزون والمقفى والتي اعتبرها مفتعلة ومتصطنعة ومتكلفة ..أذن القصة القصيرة وحسب قناعتي هي نوع من انواع الشعر، تغيرت فيها طريقة التعبير فقط.. كما أن كاتب القصة القصيرة يبدع ويتدفق في بيئته ، حيث المواضيع في يده ومن حوله .. !! " وعلى الرغم من أن الاستاذ ابراهيم احمد قضى اكثر من ثلاثين عاما في صقيع المنافي إلا ان نبض ابداعه لم يتوقف، فقد ولدت معظم قصصه ورواياته في محطات المنافي العديدة التي توقف عندها، بغض النظرعن مدة مكوثه فيها ، حيث عالج فيهامختلف المواضيع، والهموم ، فأثارت في حنايا القارئ العراقي الدفئ المفقود في وحشة الغربة، والم البعد عن الوطن .. عن مغامرته في كتابة الرواية يسترسل في كلامه قائلا.. " كلما يمضي بنا العمر تتراكم تجاربنا الحياتية وتزداد القضايا المطروحة، لذلك قد نجد بعض الموضوعات لاتستوعبها القصة القصيرة ،فمهما حاولت التركيز والتكثيف إلا اني اجد اني اهملت جوانب على حساب جوانب اخرى، واتذكر كلمة لأوغنور في كتابه الصوت المنفرد حيث يقول" أن مأساة القصة القصيرة ان افضل فرسانها يتخلى عنها، فكلما يكبرون يجدون ان الرواية تجذبهم فيتخلون عن القصة القصيرة " ..الحقيقة أن كتابة الرواية تصبح جذابة عند وجود موضوعات تقتضي الاحاطة الشاملة بها ، وتقتضي ابراز شخصيات والحديث عنها في كل حالاتها الانسانية المتعددة والمختلفة، فالرواية كما يقول بعض النقاد هي بمثابة الانحدار مع مجرى النهر.. اما القصة القصيرة فهي ومضة شعرية اقرب إلى القصيدة فهي عبور النهر بشكل عرضي "..
لقد اضطررت كالمئات غيرك إلى مغادرة العراق، حفاظا على كرامتك ، ليس لذنب اقترفته، إلا لانك لم تبع مبادئك، وقد تحملت الكثير من اجل ذلك، وحياتك السياسية حافلة بالكثير فهل كشفت لنا عن هذا الجانب ومتى دخلت المعترك السياسي وماكان حافزك لذلك؟؟
كانت الابتسامة التي ارتسمت على وجهه هذه المرة فيها مسحة من الحزن ، ثم ندت عنه آهة قبل ان يقول:" آنذاك كنت في المرحلة الثانوية، عندما حدث التغير في 14 تموز 1958 .. حينها نمت في ارواحنا آمال عريضة، واحلام كبيرة بان البلد مقبل على تغير نحو الاحسن،فصار لدينا احساس بكره العهد القديم الذي كان يتمثل في الملكية والاقطاع .. وحب للعهد الجديد الذي ينادي بالحرية والديمقراطية والمساواة .. لكن ما لبثت نيران الصراع السياسي أن اشتعلت وتأجج لهيبها بين البعثيين والشيوعيين والديمقراطيين و.بين البعثيين والقوميين من جهة اخرى ثم بين الحكومة والكرد وغيرها من الصراعات المعروفة! بالطبع كان الانجذاب إلى الافكار الشيوعية اكثر لانها إلى جانب الفقراء.. آنذاك لم اكن في سن يسمح لي بالانتماء للحزب ، فأنخرطت بالعمل بمنظماته الطلابية .. كما عملت في مكتبة للحزب الشيوعي، فتحت في هيت ، حيث كانت تردنا كتب ذات طبعات جميلة ومبهرة من دار التقدم، فقرأت لتشيخوف، وتولستوي واخرين بالاضافة إلى جريدة اتحاد الشعب .. وهذا ما قربني من الفكر الماركسي .. انذاك قرأت ايضا مجاميع قصصية لكتاب عراقيين مثل " غضب المدينة " لمهدي عيسى الصقر .. لم تكن هذه القراءات بالنسبة لي عابرة، انما اسست من خلالها فكري وزادتني حباً للفكر الشيوعي والفكر الماركسي ، لقد اصبحت قناعتي به فضيعة وصلت إلى مايشبه القناعة الدينية، ولكن منذ ما يقرب من عشرين سنة بدأت قناعاتي بالفكر الشيوعي أخذت تهتزالحقائق تنكشف وتسطع بمرور الزمن وتقدم العمر ثم حدث انقلابي الفكري إلى الفكر الحر ...
لم يكن من السهل عليه العوم عميقا في ذلك التيار الهادر من الذكريات، دون ان يكتسي وجهه بأثار الحزن والحسرة، فتحشرجت الكلمات في فمه ..!! عندها كان لابد ان نعد قوارب النجاة لكي نجذف معه في بحر اكثر سحرا ورومانسية، وهدوء فسألناه ، ماهو الحب في حياتك ؟
" الحقيقة في حياتي محطات عاطفية عديدة، لايمكن الدخول في تلافيفها .. ولكني استطيع القول باني كنت حريصا على ان تكون حياتي العاطفيــة غنية قدر المستطاع ،لاني ارى ان الحب قضية مركزية في حياة الانسان، وليس مسالة عابرة، مهما كانت التجربة بسيطة، او قصيرة ..أن محطاتي العاطفية كانت ذات طبيعة مستقرة ، الكثير منها مايزال ذكرى جميلة وبمثابة ينبوع روحي اعتمد عليه عندما اكتب .. انا اشك بأن من كانت حياته العاطفية خاوية أو باردة أو عادية يستطيع ان يكتب بشكل جيد، لابد من ان تكون هناك هزات روحية وعاطفية كبرى في حياة الكاتب ، لكي يستطيع ان يكتب بشكل عميق .. اني اشعر بتقصير شديد من هذا الجانب فالحياة السياسية وهمومها استغرقتني اكثر من الهموم الشخصية والانسانية،التي كان الاجدر بي ان اقف عندها واكرس لها وقتي .. كذلك بالنسبة للمرأة الكاتبة اذا خلت حياتها من الرجل والحياة العاطفية والوجدانية ، تكون كتابتها خاوية .. لان الحب والعاطفة هي الينابيع الاصيلة والحقيقية للعطاء الابداعي .. الهم السياسي عابر .. ومتغير ومثير وجارح حد العطل .. ان جراحات الحب لاتعطل بل تغني، اما الجرح السياسي فانه لايترك سوى كومة من رماد.. ان الكثير من الاعمال الانسانية الكبرى التي كتبت كان محورها الحب والجمال والعلاقات الانسانية الحميمة والراسخة .. لقد نزلت في محطة الحب الدائمية عام 1977 حين التقيت بزوجتي.. لكن مطاردة السلطة للشيوعيين والتقدميين لم تلبث ان استعرت نارها ، فعشنا في وضع صعب، كنا ملاحقين وبسبب ذلك فقدنا ثمرة حبنا الاولـــى، فقد مات طفلنا الأول قبل ولادته بأيام ضمن جو المطارادات والاختفاء والقلق الذي عاشته زوجتي معي إذ كانت هي أيضاً عضوة في الحزب الشيوعي . .مرت علينا ايام مريرة ومؤلمة جداً عشنا مختفين وبعيدين عن بعضنا إلى عام 1979إلى ان تسللت هاربا عبر مدينتي هيت ومنها إلى سوريا ..
تلقفته الغربة .. بكل وحشتها وجفاءها .. وبقى ينزف الما , فقد ضحى بكل مستقبله الادبي من اجل ما يحمله من مبادئ ، وافكار.. لينزوي في هذه العاصمة او تلك .. ناسيا انه احد مبدعي بلده....فهل حدثتنا عن الشتات والغربة التي مررت ولاتزال بها؟
" من مفارقات الدنيا.. ان الذين ساعدوني في الخروج تسللاً من العراق، هم اقربائي الذين كنت قد قطعت علاقتي بهم لكونهم برجوازيين وملاكيين لكنهم ما ان وجدوني في ضائقة حتى هبوا لمساعدتي .. المهم اولى محطات غربتي هي سوريا ومنها اتجهت إلى تركيا وهناك التقيت بزوجتي، ثم سافرنا إلى براغ ومنها اتجهنا معا إلى الجزائر التي عشنا فيها ست سنوات، وفيها ولد ابناءنا عادل وصفاء ...رغم العمل الحزبي المكثف، إلا اني كتبت العديد من القصص القصيرة هناك، واطلعت على الحياة الثقافية فيها.. كما تسنى لي قراءة الادب الجزائري المكتوب بالعربية او المترجم عن الفرنسية . هناك تركز همي على القراءة اكثر من الكتابة وقد اسست لعملين روائيين كانا على وشك ان يظهرا إلا ان ظروفا قاهرة حالت دون ذلك .. بعد ذلك شددنا الرحال إلى بودابست لنعيش هناك ما يقارب الخمسة اعوام.. وللاسف الشديد تكرر نفس الشئ بالنسبة لي حيث استغرقني العمل الحزبي وتركت العمل الابداعي والكتابي .. ومع انهيارالاشتركية تكشفت لي حقائق وخبايا كثيرة،حيث ازاحت الغطاء ونفضت الغبار عن الكثير من الحقائق لتجعلها واضحة جلية المعالم.. عند ذاك كان لابد لنا من ايجاد منفى اخر نلوذ به.. فكانت السويد اخر تلك المحطات.. وفيها ولدت ابنتنا ندى.. في السويد تحقق شيء من الاستقرار النفسي، والحرية..فعكفت على الكتابة لكني كنت بنفس الوقت بحاجة إلى ان أتأمل تجربتي الفكرية والسياسية السابقة المنهارة ،كنت بحاجة إلى صفاء ووضوح الذهن بالاضافة إلى قناعات مستقرة ومضيت في شعث افكاري، .. الفكرة التي عشت عليها منذ صباي حتى قاربت الخمسين ها هي تنهار.. زلزال داخلي، كسر الكثير من المفاهيم .. احدث شروخا داخل روحي ونفسي ،لكني الآن وبعد هذه المعاناة أشعر إنني في وضوح وتناسق فكري يمكنني من المضي بتجربة الكتابة دون هزات كبيرة ! ..
ان قمة الابداع عند ابراهيم أحمد تركز في المرحلة " السويدية " حيث طبعت له خلالها معظم القصص القصيرة والروايات التي كتبها..عن السنوات الخمس عشر الماضية تكلم بشفافية متناهية وصراحة تامة.." ان الزمن يمضي سريعا، وعمر الانسان عموما قصير بل قصير جدا.. ومايزيد في تعقيد الامور بالنسبة للكاتب عندما يعيش بعيدا عن بلده، او عموما في بلد غيرعربي، عدم توفرالمصادر والكتب التي يحتاجها ، بالاضافة إلى اننا نفتقد للشخصيات الادبية التي يمكننا ان نقابلها ونكلمها، ونجادلها، ونتباحث معها، ونناقش اراء بعضنا البعض ، فالكاتب يحتاج إلى مبدعين جيدين من حوله ، لكي يرى نفسه على حقيقتها، مشكلتنا هنا هي افتقادنا للنقد الجيد المسؤول والمراجعة المتأنية العميقة، لكي تغنى الفكرة التي يطرحها احدنا من جميع الجوانب بملاحظات الاخرين ، لذلك اعاني انا والكثير من الكتاب من هذه العزلة .. نحن اشبه بارخبيلات متناثرة هنا وهناك ..الحقيقة وعلى الرغم من ان السويد وفرت لي الكثير من الامكانيات إلا اني لم اشعريومــا بأني جزء من مجتمعها الثقافي ، لان الحياة الثقافية لهذا البلد يبنيها ابناء البلد نفسه، الاجنبي يبقى دائما على الهامش، ويبقى يدوردورات صغيرة في افلاك صغيرة جدا .." بعد وصوله للسويد مباشرة أصبح عضوا في اتحاد الكتاب السويدين وقد حصل على اكثر من منحة ولولا ذلك لما استطاع نشرمعظم كتبه، لقد دخل اسم الاستاذ ابراهيم احمد موسوعة الادباء السويديين " وهو عبارة عن مختارات من ادب الكتاب الاجانب المقيمين في السويد،حيث ترجمت قصته " حالة خاصة جدا"إلى اللغة السويدية وهي بواقع 25 صفحة،كما تضمنت ايضا نبذه عن حياته..في كتاب اخر باسم " حوار مع الشرق" الذي يضم مختارات من أدب الشرق الاوسط، تركيا ومصر وسوريا ولبنان والعراق.. نشرت أحدى قصصه ايضا حيث اختيرمع بدر شاكر السياب، وعبد الملك نوري ليمثلوا الادب العراقي...
لقد عمل القاص ابراهيم احمد في الصحافة ولسنوات عديدة ..فبينما كان يعمل في البريد كتب في جريدة طريق الشعب، وكان له فيها عامـــود اســـبوعي ثابت بعنوان " تلويحة" كان يتناول احدى القضايا التي تتعلق بالحياة السياسية او الاجتماعية التي تخص البلد حينئذ.. بالاضافة إلى انه كان يقوم ومجموعة من الصحفيين باعادة صياغة المقالات والاخبار التي تردهم من المنظمات العمالية والفلاحية في المحافظات لتظهرعلى شكل تحقيقات صحفية ..كما انه كتب العديد من التحقيقات الصحفية الجريئة، وفي غاية الاهمية لانها نقلت وقائع حقيقية، وربما الكثير منا يتذكر التحقق الذي نشر في مجلة الف باء عن الدراويش،أو عن الغجر، التي كانت مزيجاً مابين الجو الشعري والادبي والصحفـــي ، ولقد استمرت هذه التحقيقات في الظهور لمدة تزيد عن الثلاث سنوات وهي اعمال ذات طبيعة ابداعية وليست مجرد اعمال صحفية عابرة .. وقد لفتت أنتباه الكثيرين من المهتمين بهذا الموضوع ..
مرة اخرى عدنا لنتصفح مع الاستاذ ابراهيم احمد المجموعات القصصية والروايات التي صدرت لـــه، فسالناه عن اول تلك المجموعات ؟ وهل تعتبر صفارات الانذار هي الثمرة الاولــــى له؟ على قسماته ارتسمت اثار حزن دفين، ثم قال، بصوت فيه شجون ،" لقد نصحني صديقي العزيز الراحل يوسف الصائغ بان اجمع التحقيقات في كتاب خاص، ووعدني بانه سيكتب مقدمته، وبالفعل كتب مقدمة طويلة وجميلة، مازلت احتفظ بها لحد الآن ، فقمت بارسالها إلى بيروت لطبعها، إلا ان سوء الحظ كان بالمرصاد، حيث سقط صاروخ احرق البنايـــة التي فيها المطبعة .. وهكذا ضاع الكتاب .. ما اردت قوله هو ان هذه التحقيقات أعتبرت بمثابة الجسر الذي عبرت منه إلى القصة القصيرة، فكتبت زهور في يد المومياء .. اما كتابي الاول فكان بعنوان 20 قصة قصيرة جدا الذي صدر عن دار الرواد عام 1976، لقد حصل على رقم عال في مبيعات الكتب انذاك، وقد اعيد نشر هذه القصص في كتاب المرآة الذي هو عبارة عن 20 قصة قصيرة زائدا 20 قصة قصيرة جدا ".... ما حكاية المجموعة القصصية التي ظهرت باسمين ..زهور في يد المومياء وصفارات الانذار...؟ " لقد قدمت مجموعة قصص إلى وزارة الثقافة بأسم (صفارات الإنذار في مدينة قابيش ) فاخذوا يماطلون بحجة عرضها على الخبير الثقافي في الوزارة ، وقد حاولوا حذف بعض القصص، ولم اوافق على ذلك، خلال تلك الفترة اضطررت لللاختفاء وبعدها تركت العراق ، لقد طبع الكتاب باسم (زهور في يد المومياء) وبشكل مشوه وبعد ان حذفوا القصص، التي لم يرغبوا بنشرها، غايتهم من نشر الكتاب هي القول ان الوطنيين والتقدميين مازالوا موجودين ولاتزال السلطة تصدر لهم ما يكتبون !! ولكن ما ان استقر بي الحال في السويد حتى طبعت المجموعة القصصية ذاتها ولكني أبدلت اسمها إلى "صفارات الانذار"، لاني وجدت أن هذه القصة هي التي تعبر عن المجتمع اثناء الحرب وكنت قد كتبتها عام 1971 وقد ظهرت المجموعة للنور عام 1991 .. "
بعد ثلاث اعوام طبع ،لابراهيم احمد المجموعة القصصية الثانية " بعد مجئ الطير" عام 1993.. ثم اعقيتها المجموعة القصصية "المرآة " عام 1995 , في نفس العام طبعت رواية طفل ال" CNN " والتي كان اسمها" دوي الساعات" لكنه بدل اسمها بعد ان نمى وتكامل العمل الروائي هذا والذي يعكس فيه الكثير من جوانب الحياة الغربية وعلى وجه التحديد الحياة الامريكية، بسلبياتها وايجابياتها.. تبعها بمجموعته القصصية" التيه في ايس " عام 1999 .. التي ينتقل القارئ فيها إلى تلك المدن العراقية التي تشبه ايس في الكثير من تفاصيلها وشخوصها .. كان لمجموعته القصصية " لارا زهرة البراري2001 " صدى كبير، حيث استطاع ابراهيم أحمد بلغته الجميلة واسلوبه الشيق وبمشاعر صادقة شديدة الحساسية من عكس معاناة الانسان العراقي في المنافي فقد جسد وبشكل واقعي مايعانيه الكثيرون من احباطات.. في بغداد طبعت مجموعته القصصية " انت تشبه السيد المسيح عام 2004 ".. ثم روايته القصيرة الزاخرة بالايماءات " العقيد ومعجزته الاخيرة " عام 2005 .. وفيها يصورمأساة انهيارمؤسسة الجيش العراقي .. الحديث عن القصص والرويات التي كتبها الاستاذ ابراهيم احمد، كان شيقا، ولم اود ان ينتهي ابدا فسالته عن مشاريعه المقبلة وعن طموحاته الادبية..؟ بعفوية، ونقاء اجاب " أن طموحاتي بسيطة جدا واقصى ما أطمح اليه هو اخراج المخطوطات التي ماتزال في ظلمة الادراج إلى النور، حيث لديً ما يقارب من سبعة مخطوطات روائية وثلاث مخطوطات قصصية جاهزة للطبع ، بالاضافة إلى الجزء الثاني من " التيه في ايــس "،الحقيقة انا في الكثير من الاحيان اكتب موضوعين في آن واحد، لذلك ينجز عندي عملان في الفترة ذاتها، ربما تكون هذه عادة سيئة..كل ما اصبو اليه هو الانتهاء من مخطوطاتي خلال الخمسة او الستة اعوام القادمة، بذلك اكون قد حققت كل ما اتمناه.. واذا كان في العمر بقية فلن اتوقف عن الكتابة .. أمل لو اني اركز جهودي لاكمال كتابي يوميات في بغداد فهو شاغلي الان ، حيث قطعت به شوطا كبيرا وهو يتضمن معايشاتي خلال فترة وجودي هناك.. الحقيقة اني مازلت اشعر ان في اعماقي ودواخلي الكثير ، واكثر مما خرج للنور كنتاج ... "
لم يكن من السهل ان ادير دفة سفينة حديثه إلى ميناءآخر فيه الكثير من الاخفاقات ، والعثرات وربما حتى خيبة الامل.. لكن صراحة وشفافية اابراهيم احمد شجعتني على نكأ الجراح والوقوف عند هذا المنعطف شديدالحساسية.. كان رايك هو ان نظام صدام لن يسقط إلا بالحرب عليه، وكنت مع دخول امريكا إلى العراق، وقد بادرت إلى دخول بغداد معهم كمستشار ثقافي، الشئ الاكيد هو ان ذهابك كان من وازع وطني بحت ، لكن النتائج لم تكن بحساباتك ، فماذا تقول عن ذلك ؟
" لا اخفي اني كنت وما ازال مثقلاً بأرث ومشاعر الكراهية للنظام الامريكي ولقناعتي بانهم هم من صنع صدام وهم الذي امدوا بعمره وكل الذي جرى لبلادنا كان بجريرتهم.. ومن جهة اخرى كنت على يقين، بانه لولا امريكا لما سقط صدام ابدا. ولما انتهى حكم اهل العوجة لعشرات من السنين القادمة .. هذا واقع يجب ان نعترف به .. ومن منطلق المحبة والثقة وبتوصيات من الاصدقاء طرح اسمي على الخارجية الامريكية لحضور ندوات استشارية أو تقديم توصية او راي ما ؟ لم يكن في بالي إلا ان اخدم وطني من خلال عملي كمستشار ثقافي،وبعد تردد وتفكير طويلين ذهبت لوطني ،ومع وطني ومن أجله وليس من أجل أية جهة أخرى!وإذا لم نذهب نحن سيذهب غيرنا ومن الآفضل ان يكون مستشارا عراقيا خيرا من ان يكون مستشارا اجنبياً لايعرف طبائع وحاجات شعبي ووطني .. كنا مئة وخمسين مستشارا توزعنا على الوزارات،كلنا اليوم يشعر بخيبة امل وعلى مستويات مختلفة ،خيبتي أنا وقتية، وعابرة لان المسار الطويل الامد للعراق ما يزال صحيحاً وأنا على العموم متفائل لان مايجري الان هو انعطافة تاريخية هائلة وحادة في تاريخ بلادنا " ... أخذ يتكلم بتوتر شديد جدا وعلت وتيرة صوته التي حافظ على انخفاضها طيلة الجلسة واستمربطرح افكاره.." أن ما يظهراليوم هو ارث ثقيل، ارث لم يكن وليد نظام البعث فحسب، انما الكارثة الكبرى كانت يوم هدمت الدولة المدنية العراقية ليحل العسكرمحلها فيحكمون البلاد بامزجتهم .. برجوع الحياة المدنية إلى العراق ونبذ القبلية والعشائرية، بالاضافة إلى الحد من سطوة رجال الدين سنة وشيعة، ستزول حتما الطائفية، كما أن تشييد هيكل اقتصادي متين وتوفير فرص العمل.. وبناء ثقافة التسامح والديمقراطية والراي الاخر وحقوق الانســـان، حينئذ فقط سـيزدهر العراق .. طبعا هذا لن يكون بين ليلة وضحاها اكيد ولكن ربما بعد فترة نستطيع ان نبدأ بدايات اكثر جدية وبخطى اكبر نحو الحضارة والتقدم والديمقراطية.. اما على المدى القريب ، فالافق المنظور كالح .. مظلم بائس ، كل يوم يقتل العشرات من المدنيين وحياة جميع فئات الشعب مهددة بالموت.أو الخطف .لقد ادرك الغرب وامريكا انه لايمكن لديمقراطيتهم ان تكون آمنة اذا كانت محاطة بدكتاتوريات، لقد وصلوا إلى هذه القناعة ، أن الحكومات الدينية التي تتبوء دست الحكم في بعض البلدان الان، ان لم تتغير أو تواكب العصر ، فانها حتما ستصدم بصخور الواقع وحقائق العصر فتتهشم عليها.. هذا الصراع قد يستمر بضعة اعواماً إلا انه لن يستمر طويلاً ، بالتأكيد انه سيحسم لصالح الفكر العلماني والمدني والتقدمي ..

متى ستفتح الحرية .. والديمقراطية ابوابها .. في عراقنا الذي طال، انينه، وشجونه.. وصبره ؟؟ ومتى تعود الطيور التي غادرته عنوة .. لتنهض به من جديد ...؟؟
تلك وغيرها أسئلة أتركها للزمن القادم ، ذاك الذي يعتقد الآستاذ إبراهيم أحمد أنه قادم حتماً وأن ميعاده لن يطول ....