| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. جمانة القروي

 

 

 

الثلاثاء 1/9/ 2009



اشياء في الاعماق..

د. جمانة القروي

منذ ان يبدأ الشارع باستقبال الناس فجرا.. تغلق سمر خلفها باب الشقة تاركةً اولادها الصغار وابيهم ينعمون بدفء الافرشة، وحرارة الشقة، يغطون بنوم لذيذ هادئ.. تعودت ومنذ سنوات العمل في مستشفى المدينة الرئيسي، حيث عليها ان تكون هناك في ساعات الصباح الباكر.. الشمس ما تزال مختبئة خلف الغيوم الكثيفة، وان ارادت نشر اشعتها فالسحب الرمادية تحجبها ويبقى الظلام الحالك يلف الارض بعباءته حتى منتصف النهار، او مابعـــــد ذلك في احيان كثيرة.. بالرغم من مضي عدد غير قليل من الاعوام على وجودها في السويد الا انها لم تستسغ ابدا البرودة الدائمة التي يتميز بها جو تلك المدينة التي قضت فيها اكثر من عشرة اعوام ..ولا تتقبله الا على مضض..!! ما ان خرجت من ممر العمارة حتى صفعتها رياح الخليج الباردة، التي تكاد لا تهدأ صيفا او شتاءا.. هذا التيار الهوائي شديد البرودة الذي يعصف بالمدينة حتى في اكثر ايام الصيف حرارة، وكأن الثلوج عالقة به لا تأبى فراقه!! ..
بدأت ندف الثلج تسقط وتتراكم شيئا فشيئا.. وضعت سمر يدها في جيب معطفها وقبعته على رأسها.. لاحت منها نظرة سريعة لساعة يدها.. زفرت ضجرة، " لم يبقَ الا ان تصل الحافلة العامة "..!! حدثت نفسها..اســـرعت الخطى،بدأت تركض.. !! ماهي الا امتار وتصل الى منفذ الشارع الذي يمكنها من خلاله رؤية المظلة التي يتجمع تحتها الناس بانتظار الباص.. من بعيد لاحت لها اضواءه وهو يقف امام محطته..!! حسبت بسرعة انها ستصل الى بابه قبل ان يصعد اخر المنتظرين عنده..!! لا تعرف سبب جلوسها دائما في زاوية منعزلة، بالمقاعد الخلفية، كأنها تهرب من عيون الناس ..اغلقت عينيها منشدة الغفوة سارحة بعيدا باحلامها...!! واسئلة مغلقة تنبت في عقلها مثل حشائش برية لا تجــد اجابة شافية لها .!!" لماذا سنوات وانا هنا؟؟ هل درست الفن المسرحي خمس سنوات، لأعمل بعد ذلك في المستشفى ؟؟ .. وانا التي اشمئز من رائحة الدواء والمطهرات، واكره كل ما له صلة بهذا المجال..!! ولكن ما حيلتي ولا شئ غيره متوفر !! يبقى دائما احسن من الوقوف كل شهر امام بوابة المسؤولة الاجتماعية وتقديم كشف حساب"..!! تزاحمت الافكار في رأسها.. وعادت الصور القديمة تتجلى في ذهنها بوضوح مدهش، وتناهى صوت والدها وهو يقول لها.." يا ابنتي لن تجدي عملا في المسرح!! الفنان هنا ليس له اي قيمة أو اهمية .. اختاري شيئا اخر طب اسنان مثلا ،كلية التمريض.. !! "لا.. لا.. انا اكره الطب بكل فروعـــه، لا رغبة لي بذلك فلن ابدع في هذا ابداً.. اما المسرح فهو طموحي ، حلمي .. وانت تعرف ذلك جيدا.."!! هكذا اجابت والدها حينئذ..!! كم تندم على ذلك، ليتها سمعت نصيحة والدهــا ..!! يبدو انه كان يتنبأ بما سيؤول اليه حالها..!! مسحت براحتها زجاج النافذة المضببة.. وهي ما تزال مستغرقة بافكارها فأنسالت على صفحة مخيلتها مشاهد قديمة راحت تومض وتختفي..!!مرات قليلة وقفت فيها على خشبة المسرح بادوار مختلفة، يومها كانت ما تزال طالبة في اكاديمية الفنون الجميلة ببغداد.. اثارت هذه الذكرى الما اعتصر قلبها، تنهدت بحزن .." لم تحقق اي شئ مما كانت تصبو اليه"..!! كل شئ تغير فيها، اصبحت مجرد ثور يدور في ناعوره !! اين الاحلام بان تكون ممثلة مشهورة لها جمهورها، تلاحقها نظرات الاعجاب،واينما تحل يشيرون عليها بالبنان..!! حدقت بالمدينة التي ما تزال انوار الليل تضيئها، والضباب يلف كل شئ حولها.. وافكارها تسبح بعيدا.. الخوف من الاعتقال، والاغتصاب والموت.. جعلها تترك المدينة التي تعشق والناس والاصدقاء والاحبة،وترحل للمجهول..!! صوت الرجل الالي يخترق اذنيها وهو يعلن عن اسماء المناطق التي يصلها..!! وبسام حبيبها الذي اختفى وضاعت اثاره، بعدما دخل اقبية المخابرات العامة.. !!حتى اسمه لم يظهر في ســـجلاتهم بعد ذلك.!! ايكون ما يزال حيا ؟؟ ابتسمت ساخرة من نفسها على هذا الخاطر الساذج.. اعلن الصوت الالي عن وصول الباص الى المحطة النهائية..عليها ان تأخذ باص اخر لكي تصل الى المستشفى.. اتجهت بتأني الى المحطة القريبة فمازال امامها متسع من الوقت..!! وجوه كئيبة، باردة الملامح .. جامدة العيون.. يحشرون رؤسهم بين اكتافهم من البرد.. البعض يتثاءب، والبعض الاخـــــر يفرك عينيــــه محاولا طرد الوســــن منهما.. !!قسم من المنتظرين تبقى عيونه معلقة بالقطعة الالكترونية لحركة الحافلات، حتى وان حفظوا الوقت بالضبط..!! يكتظون في مكان لا يزيد طوله عن مترين وعرضه متر واحد، يجلس ثلاثة اشخاص على مسطبة بالكاد تتسع لهم، اما اذا كان بين هؤلاء من وزنه يزيد عن الاعتيادي، يكون حتما على الاخرين اما الجلوس على الحافة او الوقوف وسط الحشد!! .. تعودت سمر هذه المشاهد، الشعور المفجع بالضجر الذي يسيطر عليها يورثها الملل.. فهذا الشعب قلما يغير من عاداته او الطريقة التي تعودها .. شعب دائم الخوف والحذر من الجديد والغريب عنه..مما يجعلهم مترددين وغير واثقين منه، تتقاذفهم مشاعر الشك واليقين!! .." متى سأتقبل هذه الحياة.. وهؤلاء الناس وطباعهم، وهذا المجتمع وغرائبه.. ؟؟" هكذا تساءلت بشئ من المرارة الساخرة..!!!
تجمعت ندف الثلج التي ازدادت كثافتها والبست الارض ردائها الابيض.. كانت سمر قد وصلت المستشفى، ولم يبق إلا بضع دقائق حتى تستلم من زملائها العاملين ليلا المرضى!!..فجأة خطر على بالها الغرفة رقم 7...!! منذ اسبوع والراقد فيها يحتضر، الآمه لا تهدأ إلا بالمسكنات القوية..!! ضاعت مرة اخرى في دوامة من الصور والافكار.. خسائرها في هذه الحياة جسيمة .. صحيح انها تعيش حياة هادئة ومستقرة مع زوج واطفال هم كل شئ بالنسبة لها، لكنها تشعر بالاحباط الدائم فهي لم تحقق ما ارادته لنفسها،تعمل في مهنة لم تكن لتتخيل انها ستزاولها ابدا..!! ثم ما الذي جعلها تصر على العمل في قسم امراض الدم.. !! النزلاء هناك معظمهم شباب فجأة يداهمهم المرض الخطير..!! يعانون فترة قد تطول او تقصر ولكن سرعان ما يتساقطون كاوراق اشجار الخريف ..!! بحكم الاتصال اليومي تتكون بينها وبينهم علاقات انسانية،لكنهم يرحلون دون وداع في الكثير من الاحيان ..!! لتبقى حزينة ايام،لا تستطع فيها نسيان وجوههم، او ضحكاتهم وتتذكر كلماتهم، واحاديثهم معها..!! ندت عنها آهة طويلة،" لقد تخليت عن كل طموحاتي ووضعتها في ادراج حياتي واغلقت عليها "!!..صدى وقع خطواتها على الممر النظيف الطويل كأنه يأتيها من اعماق الوادي، افكارها تشرق وتغرب وعيناها تتابع الرسوم واللوحات المتنوعة المرسومة بالزيت او السيراميك ذات الالوان المتعددة الصارخة منها والهادئة.. اسماء راسميها مكتوبة بحرف صغير في الزوايا لكن لا احد يقرأها..!!
ترددت سمر كثيرا قبل ان توافق ان يكون مريض الغرقة رقم 7على عاتقها..!! دخلت بحذر الغرفة فشعرت بشبح الموت وقد تربع بالقرب من رأس الرجل، فبين الحين والحين، كان يضغط على صدره او يمسك رقبته او يقطع نبضاته، لكنه لسبب ما يتراجع في اللحظات الاخيرة، ويؤجل عمله الى وقت آخر..!! احساس غريب استولى عليها ساعتئذ.. انارت المصابيح واتجهت الى النافذة لتفتحها رغم برودة الجو.. ان الهواء النقي يساعد ربما على التنفس بشكل افضل.. اقتربت من السرير، المغذي يأخذ طريقه الى شرايين المريض الذي ينام بعمق، فجهاز التنفس المساعد يعمل ايضا.. كان يسبح بعرقه نتيجة الحرارة العالية.. نادت باسمه مرات عديدة قبل ان يفتح بالكاد جفونه..!! مسحت وجهه وجسمه وابدلت ملابسه بمساعدة أحدى زميلاتها..تنهدت وقد غلبت عليها الكآبة.. حيث انعكست صورة والدها على وجه المريض المحتضر.. عادت اليها الذكريات كسيل جارف.. !! منذ طفولتها تعودت سمر ان تنهض مبكرة حتى ايام الجمعة،لمشاركة والدها طعام الفطور.. فهي تعرف انه يخصها بحبه كونها البنت الوحيدة في البيت..سؤاله الدائمي واليومي " ماذا يعجبك ياصديقتي ان نفطر اليوم "!!.. في ذلك الصباح الربيعي، بدت على ملامحه الوهن ولم يكن مزاجه على مايرام،وضحكته لم تكن رنانة كما هي عادته..!!اقترحت عليه ان يجلسا في الحديقة، التي تملأها رائحة الراسقي والياسمين.. ابتسم لها مدعيا المرح..!! أعدت كل شئ في المطبخ وهو يجلس على غير عادته في الحديقة،تكلمت معه لكنها لم تسمع اي تعليق او اجابة !!.. اسرعت بحمل الاشياء متجهه اليه، وهي تقول" ابي هل انت على مايرام !!" لم ينطق..!! رفعت نظرها اليه فوجدته وقد اتكأ على مسند الكرسي الذي يجلس عليه دون حراك، ومازال بريق عينيه لم ينطفئ بعد...!!انطلقت من اعماقها صرخة مدوية اخترقت السكون واســـكتت الاصوات كلها..!! انتبهت على كلمات زميلتها وهي تشير اليها بان عليهما الخروج.. رنت منها التفاتـــة على ضحكــــــة ســـــاخرة من ملك الموت الذي كان يجلس علــــى وسادة الرجـــل .. !!!
خلال النهار تدهورت صحة المريض رقم 7 وفقد الوعي نهائيا، تحلق حوله أبناؤه وزوجته، فقد باتت اللحظة الاخيرة وشيكة..!!.. قبل انتهاء نوبتها دخلت سمر عليهم،لمتابعة نبض القلب، والتنفس وحرارة الجسم، فما ان امسكت بيديه حتى شعرت بقشعريرة الموت وقد اجتاحت جسده الواهن.. كم حاولت تجنب هذا الموقف، كان عليها ان تواجه الوضع دون دعم.. !! داهمها الحزن فهمست بصوت منكسر النبرة لانها لم تتمكن من اخفاء المها.." لقد انتهى كل شئ "..!!لم يصرخوا، او يلطموا وجوههم،او يمزقوا ثيابهم... اغرورقت عيونهم بالدموع وسالت على خدودهم بصمت ..ولم تند عنهم اي حركة هستيرية.. حتى اصواتهم لم ترتفع عن المعتاد.. بهدوء اتجهوا اليه مودعين، ممسكين بيديه يقبلونها وهم يبكون بصمت..!! ركضت والدتها على صوت صرختها، وهي تمزق خدودها باظافرها دون رحمة، وتضرب على صدرها وقد نفشت شعرها...عادت الصور تتوالى تباعا!! حملوا والدها الى الداخل وهم يصرخون و يبكون ويدقون رؤوسهم بما يجدونه قريب منهم، شجرة كانت أم حائط !!.. حينئذ وقفت بعيدة صامتة وقد جفت مآقيها واخرستها الصدمة تماما.. كتمت حزنها العميق طيلة ايام مجلس العزاء.. لم تبكه إلا بعد ان افاقت من الحرارة العالية التي غرقت بها لايام طويلة ..!! لازمها الشعور القاتل بالفراغ الذي تركه والدها برحيله المفاجئ.. والحزن العميق الذي مازال في اعماقها كجرح لم يبرأ بعد رغم مرور سنوات طويلة واحداث كثيرة في حياتها.. !! اشارت عقارب الساعة الحائطية على انتهاء دوامها.. نطقت ببعض كلمات العزاء واعتذرت خارجة ...!! لفها الزحام ..وراحت تتأمل المارة غير المرئيين بوضوح في المدينة التي يكتنفها الظلام.. مضت في طريقها وهي غارقة في افكارها..


 

free web counter