نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. جمانة القروي

 

 

 

 

الثلاثاء 18 /4/ 2006

 

 

 

الملحن طالب غالي ..

وأحلام مؤجلة .. وآمال بعيدة المنال ...
 


د: جمانة القروي

من بصرة الجاحظ والسياب، من بين افياء النخيل وأشجار البرتقال، ومن غرين دجلة والفرات يولد وينشأ المبدعون. هذا الثغر الذي انجب العديد من مبدعي العراق من ملحنين وشعراء ومطربين حيث ما تزال إلحانهم وأصواتهم العذبة الرومانسية الشجية، تملأ قلوبنا شوقا وحنينا إلى الوطن البعيد.

الأستاذ طالب غالي واحد من الملحنين العراقيين البارزين الذين ظهروا في نهاية الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، صوت بصري ملون بنغمات آلام العراقيين وأنين عذاباتهم. أن أوتار عوده لم تضعف يوما، ولم تنكسر ريشته.. ومازالت أصابعه تداعب الأوتار بنفس الشغف والحنين الذي كان عندما كانت البصرة في أوج تألقها وبهائها. مدينته التي تسكن بين ثنايا روحه والتي لم يهجرها إلا مرغما. الآن وهو في غربته القاسية لم يتوقف يوما عن حبها، ولم يستطع تخطي الحنين إليها. يعيش على أمـــل اللقاء بها زاهية متألقة كما تركها منذ عقود مضت.
الملحن الأستاذ طالب غالي ولد ونشأ في محلة " المناوي باشا" وهي منطقة فلاحية تقع على نهر الخورة حيث قضى على ضفافه وفي مياهه معظم أوقاته مع أصدقاء الطفولة، لقد ترعرع في ظل عائلة فقيرة، وقد نشأ في ظل نظام أبوي تسلطي صارم إلا أن ذلك لم يمنعه من الغناء فكان لصوت والده الجميل وغنائه الحزين، أثره الكبير على عشقه للموسيقى .. ولموهبة والدته في ارتجال الشعر، في حبه وتعلقه في كتابة الشعر.
ومن هنا بدأنا الحديث، لنسأله، كيف كان تأثير البيئة .. والعائلة عليه ؟أخذ نفسا عميقا قبل أن يجيب :" لقد ولدت وكبرت في محيط فقير بين ناس أهم ما يميزهم البساطة والطيبة، كان هؤلاء الناس رقيقي المشاعر ودودين متعاونين على السراء والضراء، هذا التكامل والحب الذي نشأت فيه جعلني مرتبطا ومحبا للأرض والنخلة والإنسان. حب مازال وسيبقى متغلغلا في أعماقي واليه يعود الفضل في ما أنا عليه الآن. كنت أطرب عندما أسمع والدي وهو يغني لأنه كان يتمتع بصوت جميل جدا، وكثيرا ما كنت أصغي له، أما الوالدة فكانت ترتجل الشعر سيما في المناسبات الدينية، وكثيراً ما كنت أسمعها أيام عاشوراء. وكنت ما ازال في الصف الخامس الابتدائي عندما بدأت اكتب لها القصائد التي كانت ترتجلها مما حببّني بالشعر.." أشاح بنظره بعيدا،كأنه أراد بذلك إخفاء حنينه، وشوقه إلى مدينته ثم ابتسم مواصلا حديثه:" البصرة كما هو معروف ميناء يطل على العالم، نافذة مشرعة على مختلف ثقافات وأجناس العالــم. فيها من الفنون ألوان كثيرة ،هناك ما بين عشرة إلى خمسة عشر لونا غنائـــيا، على ســــبيل المثال " الخشــــابة، الهيوة، الذكر، التراتيل الحســـينية، الخ.. "، بالإضافة إلى البيئة الخضراء وبساتين النخيل التي كان لها باعتقادي كبير الأثر على حياتي، فما أن يشتد بي الحنين إلى البصرة حتى أتذكر تلك الأيام التي قضيتها وأنا أتسلق النخيل لقطف بعض رطبه، أو في ترديد الأغاني بصوت عال دون خوف من أبي، أما الليل فكان له طعمٌ آخر وسحرٌ عجيبٌ، حين يكون القمر وسط السماء ويشدو حفيف سعف النخيل مغنيا وعازفا إلحانا لا يمكن سماعها إلا هناك ..هكذا أجواء جعلت مني إنسانا رومانسيا وحالما دائما".

الأستاذ طالب غالي فنان متعدد المواهب، فتلحين الأغاني والقصائد لم تكن موهبته الوحيدة إنما سبقها بكتابته للشعر حيث كان ما يزال في الصف السادس الابتدائي عندما نظم أول قصيدة شعرية بسيطة، وتطور بعد ذلك في كتابة الشعر من خلال قراءته المتواصلة للشعر الجاهلي والمعلقات وشعر العصر الإسلامي والعصر الأموي والعباسي والشعر الحديث. كان عمره لا يتجاوز الخامسة عندما انضم مع أقرانه في الذهاب إلى الجامع لختم القرآن، وفي سن السادسة دخل المدرسة الابتدائية في " المناوي باشا " ثم استمر بدراسته في "متوسطة العشار" وشاءت الصدف أن فتحت دار المعلمين الابتدائية في البصرة بنفس العام الذي أنهى به دراسته، ولضيق الحالة المادية لعائلته واختصارا للوقت دخل الدار ليتخرج منها بعد ذلك ويساعد في إعالة إخوانه. وفي دار المعلمين أخذت حياتــه منحى آخر واتجه إلى الأدب والشعر، حيث وجد في معلم اللغـــة العربيـــة الأستاذ رزوق فرج رزوق التشجيع وحيث نشرت له أول قصيدة في نشـــرة الدار.
كان لابد من سؤاله عن هذه المرحلة من حياته وعن مدى تأثره بالشاعر السياب.. وقبل أن يُجيب أخذ يلقي بعض أبيات من قصيدته ." كانت قصيدتي تلك انعكاساً واضـــحاً على تأثري بالشاعر السياب وحبي الكبير لشعره ، حيث أرى في شعره جوانب عديدة ومختلفة من سعادة وحزن وحب ولوعة الفراق والكثير من الحرمان والفشل بالإضافة إلى رومانسيته المستفيضة وتصويره لكل المباهج والمعاناة بهذا الشكل المبدع المثير. لقد واصلت كتابة الشعر وكان لأستاذي ( رزوق فرج ) دوره الكبير والفضل في تعميق حبي للشعر والاطلاع على شعراء آخرين مثل الجواهري". في بداية سنوات الشباب التقيت بالشاعر والصديق الصكَار الذي شجعني على الاستمرار في كتابة الشعر، وكان يتابع ما اكتبه ويبدي ملاحظاته فيه. في عام 1974 صدر لي ديوان شعر بعنوان " حكاية لطائر النورس" عن وزارة الثقافة والاعلام، كما أن لي العديد من القصائد التي لم يتسن لي حتى اللحظة جمعها وطبعها في ديوان جديد.
المحطة الرئيسية والمهمة في حياة الأستاذ طالب غالي " الموسيقى والألحان " لذلك سألناه، متى بدأ اهتمامك بالموسيقى وما هي قصتك معها ؟ حاول جاهدا أن يرسم ابتسامة على شفتيه قبل أن يقول " بدأ اهتمامي بالموسيقى بعد أن تعلمت العزف على العود، كان ذلك عام 1958، أثناء دراستي في دار المعلمين حيث تلقينا دروسا في الموسيقى، أحسست بعدها بتعلقي بالعود وبدأت أعزف عليه وأغني، لا سيما أن تلك الفترة شهدت ظهور المطرب عبد الحليم حافظ الذي تأثرت به وقدمت بعض أغانيه على المسرح. أما في مجال الموسيقى فقد كان للفنان حميد البصري أثره الكبير علي حيث أفدت منه الكثير من المقامات وتفرعاتها. وواصلت التمرين والعزف ومعايشة الفرق الفنية وتعلمت الموسيقى بدافع ذاتي، وما اندم عليه لحد الآن هو أني لم اذهب إلى بغداد لدراسة الموسيقى في معاهد متخصصة ".. ثم يواصل حديثه قائلا:" عندما تشكلت الفرقة البصرية عام 1964 كنت أحد أعضائها، وقد لحنت للفرقة العديد من الأغاني الجديدة التي كتبت كلماتها، وقدمت على مسارح البصرة. ثم سافرت إلى بغداد عام 1968 واشتركت في برنامـــج " وجوه جديدة" بأغنية " العيون النرجسية ". بعد عودتي إلى البصرة ضمّنا لقاء جمع الفنانين والأدباء لمناقشة تقديم عمل موسيقي كبير يتخطى الأغنية الفردية وقد حضر هذا اللقاء محمد سعيد الصكار، ياسين النصير، حميد البصري، قصي البصري وعلي العضب وانا وحينها انبثقت فكرة تقديم اوبريت غنائي"
لم يكن الأوبريت أو المسرحية الغنائية قد عرفت في العراق قبل ظهور"بيادر خير" هذا الأوبريت يعتبر اللبنة الأولى المهمة والمؤثرة في تاريخ المسرح الغنائي العراقي وعلامة من علاماته المميزة. ماذا تقول عن تجربتك في مجال الأوبريت؟ تلمع عيناه ببريق غريب، و كأنه يغور عميقا في الزمن البعيد حيث يستجمع ذلك الماضي الذي ما تزال تفاصيله واضحة جلية المعالم أمام عينيه .. ثم يقول " قبل أي شي احب أن أوضح بأن المسرحية الغنائية تختلف عن الأوبريت والكثير يخلط بينهما، الأوبريت يطغي عليه الجانب الغنائي على جانب الكلام أو الحوار، والعكس صحيح بالنسبة للمسرحية الغنائية، آنذاك كانت مشكلة نزوح الفلاحين من الريف إلى المدينة والعمل فيها كأجراء في حدائق البيوت أو ما يسمى " بالبستنجي" فكان لابد من طرح هذه المشكلة بأسلوب جديد، وقد لاقت هذه الفكرة استحسان المجموعة فعكف يأسين النصير على كتابة السيناريو وكتب أشعارها علي العضب، وفي عام 1969 حيث قدم هذا العمل في بغداد على مسرح قاعة الخلد. لاقى أوبريت" بيادر خير" نجاحا كبيرا جدا. ضم هذا العمل بين 60 إلى 70 مشتركاً بين فتاة وفتى ولم يكن أياً منهم محترفا، عدا المخرج الذي كان قد تخرج توا من معهد الفنون الجميلة " قصي البصري". شارك الفنان فؤاد سالم بأداء بعض الأغاني كما شاركت " أم لنا " زوجتي في أغنية ( اللولوّة ) كما شاركت الفنانة شوقية زوجة حميد البصري في العمل أيضا. سكت لبرهة .. وأخذ يدندن بالحان ذلك الأوبريت الذي مازال عالقا في أذهان الكثيرين ممن زامن تلك السنوات" موش آنه الجنت أزرع حنطة .. أزرع وردات..." ويستطرد الفنان طالب غالي في كلامه قائلا:" لقد شاركت في هذا العمل بدور " رويهي" الفلاح النازح من الريف إلى المدينة للأسف أن الأجيال اللاحقة لا تعرف عن هذا الأوبريت شيئا، فقد حجب النظام السابق كل شئ له مضامين ومعانٍ سامية. بعد نجاح هذا الأوبريت ، فكرنا بطرح قضية العمال، الذين كانوا يشكلون شريحة كبيرة في المجتمع وبدأنا بالتحضير لفكرة أوبريت " المطرقة " الذي كتب نصه شعرا علي العضب وأخرجه قصي البصري وقمت بتلحين هذا العمل. كان زمن عرض الأوبريت لا يتجاوز الساعتين، إلا أننا استغرقنا في تلحين أشعاره ليالي مضنية طويلة لعدة الشهور، وقد تم عرضه لأول مرة في 1/5/ 1970 بمناسبة عيد العمال العالمي في بغداد على مسرح قاعة الخلد وكان له صدى كبيرا لتناوله لنضال الطبقة العاملة وحرمانها من حقوقها والتضحيات الجسيمة التي قدمتها على مر التاريخ. كان العمل مؤثرا جدا ومس مشاعر وأحاسيس الناس على اختلاف طبقاتهم، ومن هنا بدأ النظام المقبور بمحاربتنا وحاول بشتى الطرق إغراءنا، وتشتيت العلاقة. بعد محاولات عديدة نجح في جذب بعض عناصر الفرقة إلى صفوفه، إلا أن ذلك لم يؤثرعلينا، وكنا ننوي التحدي بأوبريت جديد بعنوان "الطريق"، الذي كتب من قبل عدد من الشعراء، منهم المرحوم الشاعر مصطفى عبد الله، وعبد الكريم كاصد، والشاعر عبد الخالق " للأسف لم اعد اذكر اسمه الكامل"، كان من المفروض أن يقدم عام 1974، ولكن السلطة الفاشية بدأت بشن هجومها على كل عمل تقدمي حينذاك، فتوقف العمل ولم يظهر للنور. ندت عنه آهة لتلك المعاناة والقسوة والبطش لأنهم كانوا يطمحون لتقديم أعمال فنية موسيقية ذات مستوى فني رفيع شكلا ومضمونا. لذلك حاولت العبور معه إلى الضفة الأخرى من الحديث إلا انه أبى ذلك وواصل حديثه بانفعال بات واضحا على نبرات صوته: " لقد عملت في تلك السنوات وواظبت على تلحين الأغاني السياسية، ليس لمطمح مادي ابتغيه وإنما كنت اعمل من اجل تقديم فن راق على صعيد الموسيقى والشعر، وان تكون لنا أجيال متذوقة وعارفة بهذا الفن. بجانب ذلك قمت أيضا بتلحين الأغاني للعديد من المسرحيات، سيما تلك التي كانت تقدم في يوم المسرح العالمي، واهم مسرحية غنائية لحنتها كانت مسرحية " العروسة بهية "، حيث كتب أشعارها علي العضب وأخرجها قصي البصري عام 1971 وعرضت على مسارح البصرة. صمت محاولا تذكر بعض من أبيات أشعار تلك المسرحية.. حاول لكن الذاكرة خانته، في بادئ الآمر، أراد إكمال حديثه لكن بعض مقاطع و كلمات المسرحية كانت تخرج من بين شفتيه، متناثرة .. إلا انه لم يتوانَ عن شحن ذاكرته .. وسرعان ما اخذ يشدو بصوته الجميل .. " ياعروسة يا بهية صارت زفتج سالوفات.. ياسين العريس الأسمر .. أتحنى بدمه بليلة عرسه وصارت وناته حجايات .. شنكلللكم يا تعبانين يا فلاحين .. كتلوا ياسين إلمِن عدكم.. كتلوا ياسين ".
عجبا، لهذه الذاكرة التي ما تزال غضه طرية.. فبعد اكثر من ثلاثين عاما وما تزال هذه الأبيات عالقة في ذهنه لحد الآن. كما لحن أغنية للمسرحية الغنائية " ليالي الحصاد" التي اداها الفنان المرحوم رياض أحمد وكانت من اخراج قصي البصري، كذلك لحن أغنية لمسرحية " المفتاح" من إخراج الفنان لطيف صالح، كما قام بتلحين بعض المقاطع الموسيقية والغنائية لمسرحية " مؤسسة الجنون" لمحمود درويش، كل ذلك كان عام 1973. تم تســـجيل بعض الأغاني لفؤاد ســـالم منها أغنية "عمي يا بو مركب" من كلمات كريم العراقي، بعد ذلك لحن لسعدون جابر أغنية " هللّه هللّه يا سمه" و " أم راشد" من كلمات طاهر سلمان، كما غنت الفنانة المعروفة مائدة نزهت له أغنية " طاح النده ياكصيبة" وهي من كلمات الشاعر المبدع أبو سرحان.
عندما اشتدت الهجمةعلى القوى الوطنية والديموقراطية، المحبة لخير ورفاه وتقدم الشعب العراقي، ولم ينجُ مبدع أو فنان أو مثقف من بطش الدكتاتورية المقبورة.
غادر الملحن طالب غالي مدينته الحبيبة التي كان لا يطيق فراقها أيام، واضطر إلى الرحيل إلى المنافي فكانت دمشق أولى محطاته، لكنه آثر الرحيل إلى الكويت لقربها من البصرة !!
وما أن استقر في الكويت حتى بدأ مشواره المفعم بالإبداع والألحان الجميلة فكانت الكويت إحدى أهم المحطات المهمة في حياة الفنان الملحن طالب غالي حيث التعاون المشترك والمثمر مع الفنان المبدع فؤاد سالم، واستمرت رحلة الإبداع هذه لأعوام عديدة، لذلك توجب سؤاله عنها. ندت ضحكة قصيرة وحزينة قبل أن يقول: " لما غادرت البصرة الحبيبة حملتهــــــا في داخلي وبين طيات وثنايـــــــا جسدي، وفي الكويت شعرت باني أتنفس ذلك العبق الطيب الذي يفوح من ثرى مدينتي القريبة البعيدة، ورغم معاناتي الشديدة لبعد عائلتي عني في ظل نظام لا يرحم إلا أن هذه الفترة تعتبر من اخصب الفترات الفنية لي والتي استمرت منذ عام 1979 ولغاية 1985 حيث لحنت حوالي خمساً وعشرين أغنية للفنان فؤاد سالم على مدى تلك السنوات. أهم ما قدمناه سوية رائعة بدر شاكر السياب " غريب على الخليج،" التي تم توزيعها من قبل الفنان الراحل شعبان أبو السعد. كانت أبيات هذه القصيدة تعبر تماما عن حالتي لذلك أعتقد أني أعطيتها الإحساس الحقيقي وأنا اعتز بها كثيرا واعتبرها من أهم أعمالي، وكذلك قصيدة الجواهري الكبير " دجلة الخير".
بعد أن غادرفؤاد سالم الكويت افتقدته كثيرا حيث كنت اعرف أبعاد صوته وأتحسس مواقعــــه القوية. كما كنا نتبادل الرأي والخبرة في اختيار الكلمات والألحان، لذلك شعرت بفراغ كبير بعد رحيله. الحقيقة أن انتاجي لم يقتصر على تلحين الاغاني الفردية فحسب إنما خضت تجربة المسرح الغنائي للأطفال، إذ لحنت ثلاث مســــــرحيات غنائية للأطفال أهمها مسرحية "سند ريلا " التي كتب كلمات أغانيها الأديب فلاح هاشم والتي تضمنت ثلاثة عشر لحنا والتي حازت على جوائز لاحسن نص وإخراج والحان عام 1985، ثم مسرحية " الطنطل يضحك " التي كتب كلمات اغنياتها حيدر البطاط، والمسرحية الثالثة كانت باسم " سندس" وكتب كلماتها فلاح هاشم. وتعتبر هذه المسرحيات باكورة الأعمال المسرحية الغنائية للأطفال في الكويت، حيث لم يعرف هذا الفن هناك سابقا. كما قدمت ألحانا عديدة ومتفرقة لبعض المطربين ومنهم قحطان العطار الذي ترك الكويت قبل أن يتسنى له غناؤها. كما عملت مع مؤسسة " الإنتاج البرامجي " و قمت بتلحين المقدمات والنهايات الغنائية لما يزيد عن أربع مسلسلات منها على ما اذكر "الحوت الأبيض"، "جورجي" بصوت ابنتي لنا و " بومبو" بصوت ابنتي سنا.
في عام 1990 حلت كارثة الغزو العراقي للكويت، فغادر هو وعائلته حتى استقر أخيرا في الدانمارك. و ها هي العائلة الواحدة تتفرق كما هو حال آلاف العوائل العراقية التي يحمل أفرادها جنسيات مختلفة .. ويتكلم أولادهم لغات متعددة... بعد أن شقوا طريقهم في الحياة ليستقر كل واحد منهم في بلد ما .
سألناه عن مرحلة استقراره وأعماله، في المنفى الأخير " الدانمارك". نظر إلى البعيد حيث أثارت هذه الحقيقة ألما وحزنا عميقين لم يستطع إخفاءهما قبل أن يقول: " نتيجة للرحلة المريرة تلك كان لابد من التأمل فترة من الزمن، لكني آمنت بالواقع وأذعنت مرغما له، وما أن شعرت بنوع من الاستقرار حتى استعدت نشاطي الموسيقي والشعري. بدأت بترجمة حبي وحنيني إلى الوطن وبعدي عنه بالحان موسيقية وكلمات كنت اكتبها أحيانا. ما أزال انزف لمغادرتي ربوع ذلك الوطن الحبيب وحرماني منه ظلما. لقد شعرت بغربتي الحقيقية يوم وصلت الدانمارك فكان كل شيء يختلف، اللغة وأسلوب الحياة والجو.. الكثير الكثير، حيث ترجمت معاناتي بشكل الحان واشعار، كانت بمثابة خزين من الألم والحنين ولوعــــة الفراق ، وقد سكبت فيها كل معاناتي واغترابي عن وطني .." حاول تذكر إحدى أغانيه لكن الذاكرة خانته مرة أخرى، فالتفت إلى أم لنا رفيقة دربه وحياته، وحاولت هي الأخرى استرجاع اللحن .. ثم رويدا رويدا .. بدأت تدندن به وفجأة تذكر اللحن فلمعت عيناه بفرح طفولي، وطفح ووجهه بالبشر واحتضن عوده وانطلق يغني بصوته الشجي وبنفس القوة التي تتمتع بها حنجرته " خل يجري دمع الحزن يذكرنا بالأحباب والوطن وآلامه"، و " الله يا وطني عليك كم ألتظي شوقا إليك"، ثم واصل حديثه الشيق قائلا: " في المنفى حيث لا مجال ولا قنوات لتقديم نتاجاتنا الجديدة والتي تحمل همومنا وتطلعاتنا للاهل والوطن وجدنا في الدعوات التي توجهها الجاليات العراقية في بلدان المنافي المتعددة بعضا من مجالات التعبير وتقديم الأغاني الجديدة، وإن لم تكن تفي بطموحاتنا. ففي الدنمارك انجزت ألحان العديد من القصائد لشعراء عراقيين سعدي يوسف، كريم كاصد، محمد سعيد الصكار، خلدون جاويد وغيرهم. من غرائب الأمور ان تمنع اغانينا في الإذاعة العراقية تحت نظام صدام وأن نجد إن الحكومة الحالية لم تلتفت إلينا ولم تنصفنا كذلك، وقد ساهمت من ضمن مجموعة ملحنين عراقيين موجودين في الخارج أيضا في صياغة نشيد وطني جديد للعراق والذي دعت إليه وزارة الثقافة العراقية قبل عامين، ولكن لم يتم اشعارنا باستلام النشيد ولا حتى ذكر اسماء الذين شاركوا بالمسابقة. قاطعته مضطرة لأساله، ما هي حكاية قصيدة أنشودة المطر التي كنت قد لحنت مقاطع منها، لكنها لم تظهر للنور؟
" كما هو معروف أن قصيدة أنشودة المطر للسياب طويلة جدا فاخترت بعض المقاطع التي تصلح للتلحين وقد شرعت في تلحينها عام 1986 في الكويت، ولم يكن بالعمل اليسير وقد أنجزتها عام 1990 قبل غزو الكويت. وبعد الترحال والشتات، ثم الاستقرار في الدانمارك عدت إليها واعدت صياغة العديد من المقاطع الموسيقية التي كلفتني الكثير من الجهد والتعب، حيث إنها تتضمن " كورال أطفال " و" كورال نسائي " ثم " كورال رجالي"، ما يميزها أنها ذات طابع أوبرإلي فهي تتكون من سبع مقاطع، كل منها يختلف عن الآخر إيقاعا ومقاما، سجلتها على حسابي الخاص في سوريا، وللأسف لم يكن التسجيل بالمستوي الذي كنت أحلم به لأسباب مادية. من الممكن أيضا أن تظهر على شكل لوحات راقصة مسرحية، ولكن هيهات، هذا حلم اعتقد انه بعيد المنال.!! " صمت قليلا وتناول عوده وأخذ يغني بعض ألحانه الجميلة المفعمة بالحنين والشوق والحب. وما أن توقف عن العزف وعاد إلى هدوئه حتى سألته؛- مادمنا بصدد الألحان والقصائد والأشعار هل أخبرتنا عن الفرق بين تلحين القصيدة الفصحى والقصيدة العامية، وأيهما أقرب إلى نفسك؟
" لعلاقتي الوثيقة والحميمة بالشعر العمودي والشعر الحر أجد أن القصائد من هذا النوع هي اقرب إلى نفسي، ربما لأني أنا أيضا أكتب الشعر وهذا ما يجعلني أفهم ما يريد الشاعر قوله من وراء السطور ومن خلال الأبيات التي يكتبها وهكذا تجدني أتلاقى، أتمازج مع الشعر الفصيح اكثر، برغم صعوبته في التلحين، بالإضافة إلى صوره المركزة والمكثفة وله تقنية خاصة، وهذا طبعا لا يتنافى مع وجود أشعار باللهجـــة العامية شديدة العذوبـــــة والجماليــــة. القصيدة العامية مثل الحبيبة المألوفة التي تعرف أغوارها وخلجاتها، لكن القصيدة الفصحى هي كالحبيبة البعيدة المهيبة. التي يجب أن نكون مستعدين ومتهيئين لها إحساسا وشكلا. لذلك فأنها تفتح أمامي مجال أرحب وأوسع وخيال أستطيع التحليق به وأنتقل معه من نغم إلى آخر"
لقد لحن للعديد من الشعراء في البصرة أو في المنافي التي انتقل اليها اغان ما تزال في الذاكرة. من اهم وأحلى محطات الفنان والشاعر المبدع طالب غالي الحياتية الحب الكبير الذي كان يترصده عندما ركب القطار متوجها إلى بغداد في رحلة طلابية عام 1959 حيث كانت تجلس سلمى زوجته ورفيقة حياته ودربه وام اولاده التي خطفت قلبه من أول وهلة، وما تزال محتفظة به . فسألته عن تاثير هذا الحب على نتاجه الفني؟ مقتحمة هذا الجانب الذي ربما يكون له الكثير من الخصوصية، لكن الفنان طالب غالي وكعادته أجاب بصراحته المعهودة. وبكلمات واضحة وصوت صاف عميق، عمق الزمن الماضي وسنواته ورومانسيته التي لم ولن تغادره ابدا؛ " الحب بحد ذاته يعني العطاء والابداع، الاستمرارية في الحياة التفاؤل، العنفوان .. باعتقادي الحب هو السند القوي والمتين الذي يجعل للحياة معنى رغــم كل المحن والانكسارات التي قد تصيب الانسان. لقد كنت قد رسمت في ذهني صورة حبيبة العمر، وما ان التقيت" ام لنا" زوجتي حتى دفعني الحب نحوها، ومن اللقاء الاول احسست بشئ ما يشدني اليها. انها محرك حياتي ولها الفضل الكبير في كل ما كتبته ولحنته، فهي أول من يسمع ألحاني ويقرأ قصائدي، وبفضلها عبرنا المحن والصعاب الكبيرة التي واجهتنا. وأهم شئ في الحب الكبير الذي يربطنا هو انعكاسه على أولادنا فبصماته وآثاره واضحة عليهم جميعا، فعلاقتهم مع بعضهم شــديدة الحميمية، وهذا أثمن وأجمل ما حققناه. لا زلت وسأبقى ماحييت أعوم في بحر الرومانسية التي لا استطيع التخلي عنها ابدا، وهذه ايضا ألقت بظلالها على الاولاد الذين نشأوا يحبون الموسيقى والرسم والكتابة" .
كيف لا ووالدهم من وضع الحانا عذبة تمس شغاف القلب وتحلق بنا إلى نخيل العراق وتحملنا لأرضنا الطيبة...
وبعد...الا يحق لمثل هكذا فنان مبدع ، اعطى حياته .. وشبابه للموسيقى والشعر .. أن نحقق له حلمه المتواضع البسيط ، بأن ترى قصائده والحانه النور؟