| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جودت هوشيار

 

 

 

الثلاثاء 30/12/ 2008



عودة ظاهرة بشير مشير

جودت هوشيار

بشير مشير من أطرف و أظرف الشخصيات فى تأريخ الثقافة الكردية الحديثة ، رغم أنه لم يكن يربطه بالثقافة أى رابط ماعدا صداقته الوطيدة مع أغلب المثقفين الكرد و بخاصة الكناب و الشعراء و الصحفيين منهم .

كان بشير مشير يمتلك محل خياطة فى منطقة الحيدرخانة فى وسط مدينة بغداد فى خمسينات و ستينات القرن الماضى ثم حوله الى مكتبة صغيرة لبيع الكتب و الصحف .

و لم يكن شاعرا او كاتبا او صحفيا أو حتى مثقفا او متعلما على درجة من المعرفة العلمية ، و لكنه كان يمتلك تلك الموهبة النادرة التى يفتقر اليها معظم المثقفين الكرد و غير الكرد وهى السخرية اللاذعة و روح الفكاهة و الدعابة ، حيث لم يكن يمر اسبوع من دون أن تظهر للوجود احدى حكاياته الساخرة او دعابة من دعاباته و نوادره التى كانت تنتشر بين المثقفين الكرد المقيمين فى بغداد انتشار النار فى الهشيم و منها تنتقل الى مدن كردستان . و الطريف فى الأمر ان بشير مشير –رحمه الله – كان يطلب من أصدقائه الكتاب و الصحفيين الكرد تدوين حكاياته اللاذعة و قصصه الساخرة و الفكاهية او المقالات المعبرة عن آرائه القومية و نشرها فى صحف بغداد بأسمه .

و يجمع كناب سيرة بشير مشير اته كان قوميا متعصبا ان خاطبته باللغة العربية و قلت له مثلا : صباح الخير ، يرد عليك باللغة الكردية ( روز باش ) أى نهارك سعيد . و لكننا نعتقد ان ذلك يعود الى بساطته و عفويته واخلاصه العميق لوطنه و شعبه المظلوم و أن وطنيته الصادقة كانت تدفعه الى اختراع القصص و الحكايات الخيالية و المبالغة فى تصوير كل ما يمت الى الكرد بصلة و كان يعتقد أنه بذلك يسدى خدمة جليلة الى قضية شعبه العادلة. .. و قد استغل بعض الكتاب رغبة بشير مشير فى الشهرة وأخذوا ينشرون المقالات النارية المطالبة بحقوق الكرد و ينشرونها بأسمه ،

ولما كان معظم ما يرويه و يتحدث عنه بشير مشير يتعلق بأمجاد الكرد فى الماضى و الظلم الذى لحق بهم فى الحاضر من جراء السياسات الشوفينية المتبعة من قبل دول التقسيم ، فقد جلب له ما نشر من نوادره و آرائه - فى العهد الملكى و بعدالأنقلاب الفاشى فى 8 شباط عام 1963 - الكثير من المتاعب و المشاكل ، حيث سجن بسبب بعض تلك الكتابات المنشورة بأسمه ولكنه ظل صامدا أمام كل ما صادفه من اضطهاد و ملاحقة .

فى أواخر الخمسينات لم يكن أجمالى عدد السكان الكرد فى أجزاء كردستان وفى البلدان الأخرى مجتمعة يزيد عن(20 ) مليون شخص و لكن بشير مشير كان يصر على القول ان العدد الأجمالى للسكان الكرد فى العالم لا يقل عن ( 50 ) مليون نسمة بالتمام والكمال ! و كان أصدقائه من المثقفين الكرد يقولون له ان هذا العدد مبالغ فيه يا كاكه بشير ولكن الكاكه كان يرد عليهم بالقول : ( ان عدد نفوس الصين أكثر من مليار نسمة ، فهل يعقل ان لا يكون بينهم ثلاثون مليون كردى ) .

ربما يتساءل القارىء : ما الذى ذكرنا ببشير مشير ؟

و جوابا على هذا التساؤل نقول : اذا كان لدينا فى الخمسينات و الستينات بشير مشير واحد ، فأن الساحة السياسية و الثقافية الكردية يزخر اليوم بعشرات النماذج الكاريكاتيرية لظاهرة بشير مشير و التى تتمثل فى المبالغة الشديدة و الآراء السطحية الساذجة حول كل ما يتعلق بماضى الكرد و حاضرهم .

هنالك أساتذة جامعات و كتاب و اعلاميون كرد ، همهم الأكبر البحث فى ثنايا صفحات التأريخ و فى الثقافات الأخرى و فى وسائل الأعلام العربية و الأجنبية عن أية اشارة مهما كانت بسيطة و عابرة لها علاقة بالكرد و بخاصة فى سير العباقرة و العلماء المسلمين و غير المسلمين و تضخيم ذلك على نحو غير معقول ، لا يقبله العقل او المنطق.

أعرف ان هذا المقال سيجابه بسيل من الأنتقادات و الردود الأنفعالية السطحية و لكن لا احد يستطيع ان يزايد علينا فى هذا المجال فقد قضينا نصف عمرنا فى التنقيب فى ثنايا المخطوطات الكردية و التراث الكردى و استجلاء كنوزها الرائعة و ابراز الدور الكردى فى الحضارة الأسلامية و تقديمها الى القراء الكرد والعرب .

يقول المستشرق الروسى الراحل ( كراجكوفسكى ) : لا توجد حضارة يمكن ان نطلق عليها اسم ( الحضارة العربية ) و لكن ثمة ( حضارة اسلامية ) أسهمت فيها الشعوب الأسلامية قاطبة . ومما لا شك فيه وكما بينا فى دراسات سابقة ، كان للكرد دور مشرف و أساسى فى بناء هذه الحضارة . و لكن هذا لا يبرر على الأطلاق ، تلك النزعة السطحية – التى تنم عن الجهل و السذاجة – فى جعل كل عظيم من عظماء التأريخ القريب و البعيد كردى الأصل ، لمجرد تشابه اسمه مع أى اسم كردى أو أية اشارة أخرى تنم عن علاقته بالكرد مهما كانت عابرة و واهية.

ولعل أطرف ما قرأته هذه الأيام - وهو الذى دعانى الى كتابة هذه السطور – مقال نشرفى احدى الصحف الكردية المركزية - او القومية على حد تعبير الأخوة المصريين - يزعم فيه الكاتب " ان سيدنا آدم كان كرديا و يتكلم اللغة الكردية و أن اسم ( آدم ) مشتق من كلمة ( واديم ) أى سآتى حالا وهى رد آدم على نداء ( حواء ) تعال لنأكل التفاح . هذه ليست اسطورة أو نكتة بل كلام جدى ينسب لأحد الملالى تارة و الى بشير مشير تارة أخرى .

و قبل ذلك قرأت مقالا لكاتبة كردية فى صحيفة محلية رصينة عن وجود قرية فى صعيد مصر تحمل اسم ( كوند ) أى القرية باللغة الكردية و أن الكرد قد سكنوا صعيد مصر منذ مئات السنين .

و قد بلغ بها الحماس حد جمع المعلومات حول اهل القرية و اجدادهم الكرد – على حد زعمها - من اجل اثبات نظريتها الجديدة و لكن دون جدوى و لما يأست من الحصول على اية معلومة تؤيد زعمها ، قالت ان اهل القرية قد استعربوا و نسوا لغتهم الكردية ،

كما زعم كاتب آخر ان زوجة نبوخذ نصر كانت كردية الأصل و ان الجنائن المعلقة قد شيدت من اجل خلق اجواء فى بابل تشبه اجواء كردستان .

وقبل فترة وجيزة ذهب وفد اعلامى كردى الى كوريا الجنوبية للأطلاع على جوانب الحياة فى هذا البلد و بخاصة فى مجال وسائل الأعلام المختلفة و بدلا من دراسة التجربة الكورية فى تحديث المجتمع و التقدم السريع فى كافة مجالات الحياة و استخلاص ما يفيد مجتمعنا و ثقافتنا المعاصرة من تجارب و دروس و تمتين التعاون الثقافى و الأعلامى بين البلدين و الشعبين ، راح احد اعضاء الوفد يسأل عن كورد كوريا الجنوبية وبعد بحث طويل و مضنى - على حد تعبيره – تمكن من العثور على بعض اللاجئين الكرد فى هذا البلد النائى و نشر على صفحات الصحف المحلية ريبورتاجات و تحقيقات مسهبة معززة بالصور عن لا جئين كرد يمتهنون بعض الحرف البسيطة فى هذا البلد البعيد ، بل ان احدهم يقدم لزبائنه الكوريين و الشرقيين كباب اربيل الشهير .

و جاء فى موقع الكترونى كردى ان محافظة كردفان السودانية كردية و أن سكان دارفور أكراد و أن اسم هضبة جولان السورية كردى لأن ( جولا ن او كولان ) أسم أحد الأشهر الكردية و الأغرب من ذلك كله ما ورد فى هذا الموقع عن وجود ( 70 ) ألف كردى بين سكان أسبانيا الأصلاء ..

و يقول كاتب أسمه محمد امين بنجويني : سمعت ( البروفيسور !!! ) بشير مشير يقول : وصلنا كتاب من باكستان عن البلوج ( كورد كهل نامه ) باللغة الأوردوية و ترجم الى الكردية يؤكد بان البلوج اكراد . !

و كثيرا ما نقرأ فى صحافتنا المحلية بأن المخرج المصرى الفلانى او الكاتب التركى الشهير او الشاعر العربى المعروف صرح بأنه يعتز بقوميته الكردية و جاء الى ارض الآباء و الأجداد لشم هواء كردستان العليل و يتذوق لبن اربيل الشهير و هو الذى لا يعرف كلمة كردية واحدة و لم يسبق له الأشارة الى أصله الكردى لا من فريب و لا من بعيد و لم يخرج فيلما او كتب رواية او نشر قصيدة له علاقة بالكرد و لكنه على غرار كثير من الكتاب و الشعراء و الأعلاميين العرب الذين يسيل لعابهم للكرم الكردى ، لا مانع لديه ان يقول ما يثلج صدور بعض الأعلاميين الكرد الذين يعتقدون بأن مثل هذا الكلام يخدم القضية الكردية المشروعة.

و لا يقتصر الأمر على الأعلاميين و الكتاب ، بل أن معظم المثقفين الكرد معجبون ببشير مشير أيما أعجاب و يكنون له أعمق مشاعر الود و المحبة و الأجلال .

وقد حدثنى صديق عزيز يحتل موقعا رفيعا فى شركة ألمانية ، بأنه و مجموعة من المثقفين الكرد من محبى بشير مشير قد شكلوا جمعية فى ألمانيا تحمل أسم ( البشيريون ) و أن المهمة الأساسية للجمعية هى السير على منوال المرحوم بشير مشير و تشجيح روح الفكاهة و الدعابة بين أعضاء الجمعية ، ولا شك بأن هذه الجمعية هى أعجب و أطرف جمعية كردية على الأطلاق .

و لا شك أن السخرية و النكات اللاذعة سلاح ماض بيد الشعوب المضطهدة لمقاومة الظلم أينما كان و بخاصة فى ظل الأتظمة القمعية ، لذا يمكن تفسير لجؤ المثقفين الكرد الى استخدام هذا السلاح لتعرية النظام الملكى الفاسد و نظام صدام الفاشى فى العراق ، دفاعا عن الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردى ، و لكن من غير المفهوم اللجؤ الى أختلاق ما لا وجود له على ارض الواقع و المبالغة فى ما هو موجود فعلا . و لم يكن الأختلاق أو المبالغة سلاحا فى يوم من الأيام ، بل اسلوب يسىء الى من يمارسه و يقلل من أهمية ما يقول او يحاول أثباته و جذب الأنظار اليه ..

ايها المثقفون الكرد : لقد صبرنا و تحملنا الكثير مما هو فوق طاقة البشر و قطعنا اشواطا طويلة و حدنا و لم يكن لنا من نصير اوصديق سوى جبالنا الشماء . لسنا بحاجة الى اكراد الدولار و لا الى انتزاع المشاهير من شعوبهم و لا الى أختراع القصص و الحكايات مهما كانت لطيفة و مسلية ، فما هو موجود فى تأريخنا و تراثنا يشرف أى شعب ، والمهم ما نفعله اليوم و ليس فقط ما كنا نفعله فى الماضى .

دعونا من هذه الترجسية و لنركز جهودنا على ما يفيد شعبنا و يضمن حقوق أبنائه و حريتهم و تحقيق تطلعاتهم الأنسانية فى غد أفضل .
 

free web counter