| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جودت هوشيار

 

 

 

                                                                                        الأحد 21/8/ 2011

 

عودة الوعى الى المثقفين العراقيين

جودت هوشيار

يذكر الكاتب الروسى ايليا ايرنبورغ ( 1893 – 1967 ) فى مذكراته التى نشرها قبيل و فاته ، تحت عنوان " الناس و الأعوام و الحياة " ، أن الجيش الهتلرى لم يلق مقاومة حقيقية فى الأيام الأولى للأجتياح الألمانى للأراضى السوفيتية – فى حزيران عام 1941 - لا من قبل الجيش السوفييتى و لا من قبل السكان المحليين ، ويرجع السبب فى ذلك – كما يقول الكاتب – الى ان الروس كانوا يعتبرون الألمان أمة متحضرة و متقدمة و لم يكونوا يتوقعون أبدا ان يلجأ الجيش الألمانى الى أساليب وحشية سٍواء فى معاملة أسرى الحرب أو السكان المدنيين

و لكن لم تمض سوى أيام معدودات على الغزو حتى قامت القوات الألمانية بأعدام أسرى الحرب بالجملة و أبادة و حرق البلدات و القرى الروسية خلال تقدمها فى عمق الأراضى السوفيتية . و وقف الروس مذهولين أمام الجرائم الفاشستية التى تقشعر لها الأبدان .و كانت هذه الجرائم سببا فى ازالة الغشاوة عن أعين المخدوعين بالدعاية الألمانية و أعين المثقفين الرومانسيين المعجبين بالفلسفة و الأدب الألمانيين و أخذت مشاعر الأعجاب و الأفتتان تتحول تدريجيا الى غضب عارم و عزيمة قوية لطرد الغزاة و أدى الى أندفاع الشعب السوفييتى بشبابه و رجاله و نسائه للتطوع فى الجيش الأحمر و الألتحاق بجبهات القتال او زيادة ساعات العمل و وتائر الأنتاج فى جبهات العمل لتأمين أحتياجات الجيش من الأسلحة و العتاد و الذخيرة و الآليات و المؤن و المتطلبات الأخرى .

و هب الشعب السوفيتى كله للدفاع عن وطنه و مساندة الجيش الأحمر فى صموده البطولى و تشكلت فى المناطق المحتلة مقاومة شعبية مسلحة واسعة النطاق كبدت القوات الغازية خسائر فادحة ، و كانت معركة موسكو فى شتاء عام 1941 بداية لهزيمة الجيش الفاشستى و تقهقره على كل الجبهات و الذى انتهى بالنصر المؤزر للجيش السوفيتى و التوقيع على وثيقة أستسلام الجيش الهتلرى فى برلين فى 6 أيار عام 1945 .

و ها هو التأريخ يعيد نفسه من بعض الوجوه و تتكرر التجربة الأليمة فى العراق بعد حوالى سبعين عاما و لكن فى ظروف أخرى مختلفة . لقد كان المثقفون العراقيون مقتنعين تماما أن الشعب العراقى - الذى قدم تضحيات سخية فى النضال ضد الدكتاتورية – ليس بمقدوره اسقاط هذا النظام من دون عون عسكرى خارجى ، و قبلوا على مضض بالأجتياح الأميركى و كان يحدوهم الأمل فى أقامة نظام ديمقراطى ، يضمن الحرية و المساواة و يحقق العدالة الأجتماعية لكافة العراقيين ، بصرف النظر عن أنتماءاتهم القومية و الدينية و الطائفية و يحقق سيادة القانون ويعمل على تحديث المجتمع العراقى الذى تخلف كثيرا عن ركب التقدم الحضارى بسسب حروب صدام العبثية و سياسته الرعناء ،

هذه الآمال راودت أذهان المثقفين العراقيين و هم يتذكرون التجربتين الألمانية و اليابانية ، حيث لم يتدخل الأحتلال الأميركى فى شؤون البلاد الداخلية و تركت الأمر للشعبين الألمانى و اليابانى لأعادة بناء ما خربته الحرب العالمية الثانية و قدمت لهما مساعدات مادية و معنوية هائلة للنهوض من جديد .

الديمقراطية و احترام حقوق الأنسان و سيادة القانون . و ينظرون بأعجاب الى التقدم العلمى – التكنولوجى الأميركى و الى نمط الحياة الأميركية و آفاقها الرحبة التى تفسح المجال لكل فرد فى تحقيق ذاته و بناء مستقبله .و كان الأعتقاد السائد أن القوات الأميركية ستنسحب بعد أنجاز مهمتها فى العراق أى اسقاط نظام صدام و أنجاز عملية التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل و سيشهد البلاد تحولا ديمقراطيا و أقتصادا مزدهرا . و ما الى ذلك من الأوهام الجميلة .

و لم يكن هؤلاء المثقفون يرون أميركا الثانية – ان صح التغبير – او الوجه الآخر لأميركا و السياسة العدوانية للمحافظين الجدد . لم يتذكر أى مثقف عراقى قبل الغزو حرب فيتنام القذرة و الجرائم البشعة التى ارتكبها (اليانكى) فى هذا البلد . كما نسى او تناسى مساندة أميركا لكل النظم الدكتاتورية فى أميركا اللاتينية وفى العالم العربى و مناطق أخرى فى العالم و لم يكن اى منهم يشك فى قرارة نفسه أن صدام كان رجل أميركا فى المنطقة - بعد سقوط النظام الشاهنشاهى فى أيران - قبل ان يخرج عن طوره و يفكر فى الأستيلاء على الثروات النفطية لدول الخليج و يسعى الى زعامة العالم العربى . و لأن الولايات المتحدة لا تفكر الا فى مصالحها الستراتيجية و خاصة بعد أن تحول مركز الثقل العالمى الى الخليج العربى و المحيطين الهندى و الهادىء ، و لم يكن اسقاط النظام الدكتاتورى الا من اجل تأمين هذه المصالح و ليس حبا فى العراق و العراقيين .

لقد خدع المثقفون العراقيون أنفسهم أو خدعوا بآلة الدعاية الأميركية التى تهيمن على الأعلام العالمى الى حد كبير. وربما كان أحد اسباب سقوطهم فى الفخ الأميركى هوأن المعارضة العراقية علقت كل آمالها على التدخل العسكرى الأميركى . ، كما أن العراقيين عموما كانوا متلهفين لأسقاط نظام فاشى أرتكب جرائم الأبادة الجماعية و زج بمئات الألوف من شبابهم و رجالهم فى أتون حروبه الدموية و قد أبتهجوا حقا بسقوطه و لم يكن مهما من أسقط الصنم ولكن المهم هو زوال عهده الأسود البغيض .

وفى الفترة التى أعقبت سقوط النظام الدكتاتورى و رغم أن كل الدلائل كانت تفضح أهداف الغزاة أبتداءا من التشجيع على تدمير المؤسسات الحكومية و نهب و سلب محتوياتها و القضاء على الذاكرة التأريخية للعراق والعراقيين و وصولا الى ترك الحدود مفتوحة لكل ارهابى المنطقة و العالم من اجل نقل المعركة ضد الأرهاب الى بلاد الرافدين ليكتوى الشعب العراقى بنارها و تبقى الولايات المتحدة بعيدة عن كل تهديد أرهابى محتمل و رغم تشكيل ما يسمى مجلس الحكم على اسس عرقية وطائفية و طابعه الديكورى الشكلى - حيث لم يكن يحكم قط بل ينفذ أوامر بريمر - و حل الجيش العراقى و لجؤ المحتل الى تأسيس أحزاب و منظمات كارتونية و نهب ثروات البلاد ، حيث ان واردات النفط العراقى و منذ أكثر من ثمان سنوات تذهب الى صندوق تنمية العراق فى واشنطن و الذى تتحكم فيه الأدارة الأميركية و ليس الحكومة العراقية .

و رغم ان الحكومات العراقية المتعاقية التى تشكلت منذ الغزو و لحد الآن تأتمر بأوامر واشنطن و لا تملك الحرية فيما تفعل و خاصة فى قضايا الأمن و الأقتصاد .رغم كل ذلك و قف المثقفون موقف المتردد ، و ظلوا يخدعون أنفسهم بأن كل ذلك ناجم عن أخطاء بريمر . و هذا الأعتقاد ينم عن سذاجة مفرطة أو لنقل بأن هؤلاء كانوا ما يزالون متشبثين بآمالهم التى تتناقض تماما و ما يحدث على أرض الواقع من تمزيق للنسيج الأجتماعى العراقى وتشجيع للزمر الأسلاموية الرجعية حتى النخاع و التى فرضت على العراقيين – بقوة السلاح و القتل و الذبح و الأختطاف و التهجير – نمط عيش ظلامى متخلف الى أبعد الحدود .

و يبدو ان هؤلاء المثقفين لم يكونوا مستعدين للتخلى عن أحلامهم الجميلة و صدقوا الأكذوبة الكبرى ، بأن بريمر هو الذى تسبب فى كل ( الأخطاء الأميركية فى العراق ) .و كانوا يقيسون الأمور على وفق ما يجرى فى الوطن العربى حيث ينفرد الحاكم المطلق فى اتخاذ قرارات مصيرية دون الأحتكام الى رأى البرلمان او الرأى العام . اما فى الدول الغربية المتقدمة و منها الولايات المتحدة فأن الأمر مختلف تماما ، لا شىء يحدث مصادفة و لا قرار يتخذ بشكل فردى دون استشارة جهات متعددة و ضمن السياسة المقررة . و من السخف المطلق اعتبار كل القرارات الخطيرة التى اتخذها بريمر أخطاءا شخصية ، لأنه لا يوجد قرارات شخصية فى دولة مثل الولايات المتحدة الأميركية .و قد يكون سبب تضليل المثقفين العراقيين لأنفسهم هو أن أزلام العهد البائد و أصحاب كوبونات النفط من سياسيين و أعلاميين مرتزقة من كل صنف و لون قد وقفوا ضد التدخل الأميركى لأسقاط صدام و لم يشأ هولاء المثقفون أن يصطفوا الى جانب المنتفعين من النظام الدكتاتورى الغاشم .

ان الشعب العراقى بأسره أصيب بخيبة أمل شديدة تحولت الى استياء عام و غضب عارم لما قام به جيش الأحتلال من جرائم حرب و جرائم ضد الأنسانية بحق المدنيين العراقيين المسالمين ( تذكروا : مشاهد التعذيب الجنسى والجسدى فى سجن أبو غريب و أغتصاب فتاة فى عمر الزهور فى المحمودية و أبادة عائلتها بالكامل و قتل عشرات الأبرياء فى حديثة و أطلاق النار على المارة فى ساحة النسور من قبل ما يسمى شركة بلاك ووتر الأمنية ، التى جندت أعتى المجرمين لأستباحة الدم العراقى لأتفه الأسباب و غيرها من الجرائم ،

لقد عانى الشعب العراقى كثيرا فى ظل الدكتاتورية الصدامية و لكن الأوضاع العامة فى العراق لم تتحسن بعد الغزو ، بل اصبحت حياة العراقيين أشبه بالجحيم . لا أعمار و لا تنمية و لا ديمقراطية . انتخابات شكلية و برلمان لا تمتلك أدنى سلطة رقابية و حكومة عاجزة ، خائرة القوى تتسلح ببلاغة المالكى و وعوده التضليلية الكاذبة ، عوضا عن العمل و البناء و الأنتاج .

و رغم صولات الفرسان و زئير الأسد و فحيح الثعبان ! لا أمن و لا أمان فى عراق اليوم . و كيف يتحقق الأمن و الأمان ، اذا كانت القوى الأمنية تتكون أساسا من ميليشيات الأحزاب الدينية التى تنفذ الأجندة الأيرانية فى العراق . هذه الميليشيات - الى جانب الأرهاب السلفى القادم من دول الجوار - هى التى تتحكم برقاب العراقيين و تقتلهم بالقنابل المزروعة و الكواتم فى وضح النهار و أمام أنظار الحكومة فى قلب العاصمة بغداد و فى المحافظات الأخرى الخاضعة لسيطرة الحكومة المركزية . صحيح أن تحسنا طفيفا قد طرأ على الوضع الأمنى و لكن ذلك حدث بفضل تغيير الستراتيجية الأميركية فى العراق ( تشكيل الصحوات ) و تقسيم بغداد الى مناطق طائفية شبه معزولة بعضها عن البعض الآخر بالجدران الكونكريتية العالية و ليس بفضل الصولات و الحملات الأمنية المالكية الأستعراضية ..

معظم المثقفين العراقيين يدركون اليوم ان لا أمل يرتجى من حكومة المالكى ، التى أهدرت حوالى (400) مليار دولار خلال السنوات الخمس الماضية فى مشاريع وهمية او مشاريع فاشلة نفذت بأسعار خيالية ، حيث ذهب الجزء الأكبر من هذا المبلغ الى جيوب أمراء الفساد و المنتفعين من الحكم الرجعى و تحولت الى حسابات بنكية و عمارات و قصور فى الخارج .

كل نواحى الحياة قاتمة و كئيبة فى عراق المالكى و لا وجود لدولة حقيقية ، بل زمر تتقاسم الغنائم و تتخذ من الدين ستارا لأرتكاب الكبائر و الموبقات و تفرض على الناس نمطا متخلفا من الحياة أشبه بالقرون الوسطى . الزمر الحاكمة تتدخل فى حياة الناس و اسلوب حياتهم . كل هذا يحدث فى القرن الواحد و العشرين و فى عصر التحولات الديمقراطية فى المنطقة و العالم .

ولا حاجة بنا الى و صف حكم المالكى لأن العراقيين قد خبروا هذا الحكم من خلال معانتهم اليومية . و انتهاك أبسط حقوقهم الأنسانية التى نص عليها المواثيق و العهود العالمية الخاصة بحقوق الأنسان . و عبثا يحاول المالكى تسخير كل امكانات الدولة المادية للبقاء فى الحكم و تلميع صورته . لأن نهايته ، لن يكون أفضل من الطغاة الذين كنستهم ثورات الربيع العربى الى مزبلة التأريخ .

الأغلبية الساحقة من المثقفين العراقيين خبروا الحياة فى ظل حكومة المالكى الرجعية المتخلفة و عرفوا الحقيقة المرة : انهم كانوا مخدوعين بالوعود المعسولة للمالكى و الدجالين الآخرين ، رافعى الشعارات الكاذبة. و من يتابع ما ينشر فى الفضاء الثقافى و الأعلامى العراقى ( فى الداخل و الخارج ) يرى بوضوح تحولا كبيرا فى توجهات الكتاب و الأعلاميين و آرائهم التى تختلف تماما عما كانوا يروجون له ، عقب سقوط النظام الديكتاتورى و بأملون فى تحقيقه . و الأمثلة على ذلك جد كثيرة . و لم يبق حول المالكى و رهطه الحاكم أى مثقف حقيقى ، سوى شلة من أشباه المثقفين و أنصاف المتعلمين من مزورى الشهادات و الأنتهازيين و الوصوليين و الفاشلين اللاهثين وراء فتات الموائد .

عودة الوعى الى الأغلبية الساحقة من المثقفين العراقيين بارقة أمل حقيقية و ضؤ ينير النفق المظلم الذى دخل فيه العراق . فتحية لكل المثقفين و المبدعين العراقيين الذين يناضلون اليوم من اجل الحرية و الكرامة الأنسانية و حياة أفضل لهم و لسائر العراقيين و العراقيات .

 

 

free web counter