| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جودت هوشيار

 

 

 

 

الأحد 17 / 6 / 2007

 


 

دروس و عبر من تجربة صحفية ناجحة


جودت هوشيار  - موسكو - بغداد

كلمة لا بد منها

ليس من السهل  على  أى صحفى حر و مستقل العمل فى صحيفة حزبية  مؤدلجة أو صحيفة رسمية  موجهة  تنطق بأسم حزب حاكم فى  ظل نظام شمولى  او استبدادى ، لا تنشر الا ما يوافق سياسة الحزب من أخبار مشوهة و منحازة و احكام جاهزة و آراء مسبقة  ان كانت صحيفة حزبية  او تعمل جاهدة  لتبييض عمل الحكومة و تجنب كل  ما يتسبب بأقلاقها أو يخالف مصالحها  و تلميع صورة ( القائد الضرورة )  ان كانت صحيفة حكومية .

و مما يزيد الطين الحذر الشديد  للمشرفين على الصحف الحزبية  و الحكومية  من  تناول أى  نقد  بناء يوجه الى الحزب  او الحكومة   او التطرق الى  موضوعات محرمة و ما أكثرها  فى ظل الأنظمة القمعية  مثل قضايا الفساد  و انتهاك حقوق الأنسان  و غياب الحريات العامة   و غيرها و ذلك  حفاظا على مناصبهم و امتيازاتهم و هم فى  العادة ملكيون أكثر من الملك . و الصحفى الشريف فى مثل هذه الصحف يكون امامه خياران كلاهما مر : اما ان يستسلم لمشيئة   السلطة و يخسر بذلك  نفسه و حرية التعبير عن آرائه و مواقفه  او يترك العمل الصحفى  و هو مصدر رزقه  الوحيد و مهنته المحببة التى كرس حياته من اجلها  .

و لكن    عندما   يشعر النظام الحاكم  بأن الأستمرار فى تكميم الأفواه  و قمع المعارضة و انتشار الأستياء  و التذمر بين أبناء الطبقات المسحوقة  يشكل خطرا  على استمراره فى الحكم يلجأ الى  اعطاء هامش من حرية النقد  للصحافة الحكومية  و  منح امتيازات اصدار صحف  جديدة  ( مستقلة )  شكلا و ممولة و موجهة من قبل  الحكومة  فعلا ، و ذلك لأمتصاص الغضب الشعبى  فى الداخل و تجميل صورة النظام فى الخارج .

 ولدينا مثل صارح على ذلك ، حبث لجأ النظام الصدامى فى أعوامه الأخيرة الى  اصدار عدد من الصحف الأسبوعية التى تتطرق الى  موضوعات  محرمة او تتناول بالنقد أعمال و قرارات  مسؤولين حكوميين  من الصف الثالث ( درجة مدير عام فما  دون ) .

 وهكذا كان  الوضع فى روسيا  فى  فترة ما بعد ( ذوبان الجليد ) حيث اظطرت السلطة السوفيتية تحت الضغط الشعبى و اشتداد عود حركة المنشقيين الى اعطاء هامش من  حرية التعبير الى  الصحف الثقافية على وجه الخصوص ، لأن المثقفين السوفييت كانوا فى طليعة من كان يتصدى للنظام الشمولى السوفييتى . و الفرق الجوهرى هنا بين الصحافة ( الأهلية  )  الصدامية الغبية  و بين الصحافة الروسية الرصينة الذكية ، ان العاملين فى صحف صدام كانوا من المرتزفة الذين دجنهم النظام الفاشى ، اما العاملون فى عدد من الصحف السوفيتية  الواسعة الأنتشار ، فقد كانوا من الكتاب و الصحفيين المتعطشين الى الحرية و المتطلعين الى مستقبل افضل لشعبهم .

كان هؤلاء الكتاب الروس من الذكاء بحيث يصعب و ضعهم فى خانة ( المعارضين ) للنظام القائم  و من المهارة  المهنية بحيث  تعجز معها الرقابة الحكومية  الصارمة  عن  ايجاد  مآخذ على  المفالات و التحقيقات المنشورة فى صحفهم .

و سنتطرق فى الفقرات اللاحقة لتجربة صحفية ناجحة و فريدة ، ربما لا تتكرر فى اى مكان أو زمان  آخر و لكنها زاخرة بالدروس و العبر.

فألى الصحفيين العراقيين  و العرب الأحرار الذين أرغمتهم الظروف على العمل فى    الصحافة الحزبية و الحكومية فى بلادنا أهدى هذا المقال .

                    ***************************** 

صحيفة روسية أسهمت فى صنع الأحداث و تغيير الواقع

 لا تكتسب  الصحيفة – أى صحيفة – أهميتها و نفوذها من سعة  انتشارها  و حضورها فى الساحة الأعلامية فحسب ، وانما أيضا و ربما فى المقام الأول  من مدى تأثيرها فى اتجاهات الرأى العام و تعبيرها عما يشغل اذهان القراء من قضايا تمس حياتهم و مستقبلهم و مدى اسهامها فى تغيير الواقع نحو الأفضل .

و انطلاقا من هذه الحقائق ، يمكننا القول ان الدور الذى   صحيفة " ليتراتورنايا غازيتا " أى " الصحيفة الأدبية " الروسية فى التحولات الجذرية التى شهدها المجتمع الروسى خلال العقود الثلاثة الماضية ، لا نظير له فى تأريخ الصحافة   العا لمية   

تأسست " ليتراتورنايا غازيتا " فى عام 1926 كصحيفة تمثل الأدب السوفييتى الوليد ، ثم اصبحت الصحيفة المركزية الناطقة بأسم " اتحاد الكتاب السوفييت "  بعد تأسيس الأتحاد المذكور فى عام 1934 . و قد ظلت طوال أكثر من ربع قرن محدودة التأثير و النفوذ فى ظل الرقابة الأيديولوجية المتزمتة .

و بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى السوفييتى الذى انعقد فى اكتوبرعام 1956 و خطاب خروشوف الشهير فى هذا المؤتمر حول الجرائم الدموية للعهد الستالينى ، وفى أجواء الأنفتاح النسبى فى فترة ما عرف ب(  ذوبان الجليد ) حدث تحول مهم فى سياسة الجريدة و توجهاتها و طرأ تغيير كبير فى تحريرها و اخراجها . وصدر أول عدد من الصحيفة فى عهدها الجديد مع بداية عام 1957.

لقد اراد المخططون الآيديولوجيون فى قيادة الحزب آنذاك ايجاد ( صمام أمان ) لتصريف بخار الغليان الذى طال احتباسه و مخاطبة المثقف الذكى و المستقل التفكير الذى تنتابه الشكوك حول مصداقية الصحافة الرسمية و ما تنشره حول الأنجازات المتتالية فى شتى الميادين . و لكن الواقع أرحب دائما مما يفكر فيه المخططون، فقد تحولت الصحيفة تدريجيا الى منتدى فكرى للمثقفين الروس و اصبحت صفحاتها ميدانا  للحوار الفكرى الخصب بين هؤلاء المثقفين و أخذت تنشر نتاجات الكتاب المستقلين فكريا الذين لم تكن السلطة تنظر اليهم بعين الأرتياح و تتناول بالنقد و التحليل ما تحجم الصحافة الرسمية عن الخوض فيه أو التطرق اليه و تثير قضايا تتحاشاها تلك الصحافة و تنظر الى ما وراء الأفق من فوق رؤوس الرقباء الذين لم يكن يفارقهم التفاؤل الحزبى السطحى .

و استطاعت " ليتراتورنايا غازيتا "  بمعالجاتها الذكية و لغتها غير المباشرة الحفاظ على خط التوازن الدقيق بين المسموح و الممنوع و خاضت مغامرة معقدة و جريئة فى آن معا و انتصرت على الرقابة فى نهاية المطاف .

و رغم ان ( ليتراتورنايا غازيتا ) ظلت صحيفة سوفيتيت تنطق بأسم اتحاد الكتاب السوفييت و لم تكن قادرة أن لا تكون كذلك  و بصرف النظر عن اسمها ، الا أنها أصبحت من الناحية العملية لسان حال المثقفين الروس بكل جدارة . و يمكن القول أن هذه الصحيفة هيأت الأجواء للتغييرات التى حدثت فى الأتحاد السوفييتى فى ما بعد و نعنى بذلك " البريسترويكا " و ما أعقبها من تحولات جذرية و الأنتقال من النظام الشمولى على النمط السوفييتى  الى الرأسمالية الليبرالية .

و بعد انهيار الأتحاد السوفييتى و ظهور صحف منافسة كثيرة و تردى الوضع الأقتصادى فى البلاد و انحياز " ليتراتورنايا غازيتا "  الكامل الى التيار الليبرالى، تقلص توزيعها من خمسة ملايين الى اقل من ربع مليون نسخة .

 وكان هذا نتيجة حتمية ، ليس لأن القارىء العادى لم يكن قادرا على شراء الخبز ،ناهيك عن اقتناء الصحيفة ، بل لأن  " ليتراتورنايا غازيتا "  أنساقت كثيرا و أوغلت فى التأييد المطلق للنخبة الحاكمة الجديدة التى رفعت شعارات الديمقراطية الليبرالية و الأقتصاد الحر  ، فى وقت كان الفساد الأدارى يستشرى فى أجهزة الدولة. و يعانى فيه المواطنون من ضنك العيش نتيجة لتراجع الأنتاج الصناعى و الزراعى و ارتفاع أسعار السلع الضرورية و الخدمات  .

و قد اعترف - رئيس تحرير الصحيفة – فى مقاله الأفتتاحى لمناسبة مرور ( 50 ) عاما على صدور الصحيفة بشكلها الجديد ، بأن هيئة تحرير الصحيفة لم تلحظ على الفور أنحراف الليبراليين و لم تفتح صفحاتها – كما كان الأمر فى أواخر العهد السوفييتى – للآراء الأخرى ووعد بتصحيح هذا الخطأ الفادح و ذلك  بجعل الصحيفة مفتوحة من جديد لكل المثقفين ، جامعا على صفحاتها  كتابا من شتى الأتجاهات و التيارات السياسية  و الأيديولوجية و الأدبية و الفنية و معبرة عن كل تعقيدات المرحلة الراهنة التى يمر بها المجتمع الروسى .

 و أردف قائلا : ان حرية الكلمة لا تعنى ، حرية فرض رأى معين على الآخرين ، بل اتاحة الفرصة لكل انسان أن يعبر عن رأيه الخاص حول كل ما يجرى حوله و له مساس مباشر بحياته و مستقبله و على " ليتراتورنايا غازيتا " أن تكون محاورا ذكيا لكل مفكر و مثقف و من دون هذا الحوارتظل الصحيفة مجرد أوراق ميتة لا قيمة لها على الأطلاق .