| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم الحلفي

 

 

 

الخميس 13/11/ 2008



عطش الفاو ما أغربه!

جاسم الحلفي

عندما تقترب من مدنية الفاو، الغافية على البحر في أقصى جنوب العراق، وتتحدث مع أهلها الطيبين، تتضح لك مفارقات كثيرة. الأولى هي اكتناز ارض الفاو للنقيضين: الملح والخصوبة. والثانية هي أن موقع الفاو الاستراتيجي جعل المدينة منفذا للخير على العراق، وممرا للغزاة أيضا. أما الثالثة فهي حجم الثروات الهائلة في باطن أرضها من النفط والغاز، في وقت تشكو المدينة البطالة والبؤس. وهناك مفارقات أخرى أكثر غرابة!.
لم تكن الفاو بابا للغزاة، بل الحاجز الأول أمام جيوش الاحتلال، فهي عصية على مطامعهم، رغم استباحتها مرات عديدة. وأهلها لم ييسروا مهمات الطامعين، وكانوا أول المتصدين للمحتلين البريطانيين عندما وطأت إقدامهم ارض الفاو الطاهرة في شتاء عام 1914 بهدف جعلها بوابة لاحتلال العراق.
ان موقع المدينة الاستراتجي أصبح وبالاً عليها بدلا من ان يكون مفتاح خير على أهلها. فتهجر وهجر أهلها خلال الحرب العراقية – الإيرانية، وأصبحت بعد ان احتلتها القوات الإيرانية عام 1986 لغاية تحريرها منها عام 1988 ساحة حرب محرقة.
وما كادت تستكمل عملية إعادة بناء بعض المباني عام 1989 وما لبث ان عاد إليها من تمكن من ذلك، حتى أصبحت مجددا مسرحا لصفحات حرب الخليج الثانية، كما شهدت معارك طاحنة في الأيام الأولى من اجتياح قوات الاحتلال الأمريكي للعراق في ربيع 2003.
تزداد المفارقات وتتفاقم التناقضات أمامك عندما لم تجد أثرا لغابات النخيل، التي حدثك الأهل والأصحاب عنها. فمن أصل 1280000 نخلة يوجد الآن منها 40000 نخلة فقط!. فقد سويت بالأرض غابات النخل العامرة وتحولت الى سواتر للحرب، وزرعت فيها الألغام بدلا من أشجار الحناء التي عرفت المنطقة زراعتها منذ القدم.
ولا يتسع المجال للحديث التفصيلي عن معاناة الناس هناك جرءا ما لحق المدينة من مصائب خلال الحروب المتعاقبة، وما رافقها من أعمال تهجير، وما لحق بسكان المدينة من مهانة وإذلال قاسي. فقد منع النظام المقبور مواطني ناحيتي الخليج والبحار من زيارة ناحيتيهما. وبالمقابل وزعت قطع الأراضي السكنية بعد إعادة أعمار المدينة عام 1989 وفق أولويات لا إنسانية، وكما حددتها ذهنية النظام المقبور. تبدأ بضحايا الفاو، والبصرة، والعراق، وأصدقاء الرئيس وتنتهي بأهالي الفاو من " الموالين للثورة "، ضمن تراتيبية عجيبة تستثني من ذلك كل من انتمى، في يوم من الأيام، الى الحزب الشيوعي وحزب الدعوة!
وإذ لم ينصف النظام السابق أهالي الفاو بعد طول معاناتهم، نجد ان الوضع الحالي لم يشجع ساكنيها على العودة إليها، حيث لم يعد سوى 30 ألف من أصل 120 ألف مواطن سكنوها آنذاك.
اما المفارقة الكبرى فهي شكوى الفاو من العطش. فلم يعد الأمر مقتصرا على الأرض وحاجتها للسقي، بعد كانت الأنهار فيها، حتى وقت قريب، تشكل خريطة صعبة التفاصيل، لكنها أصبحت اليوم صحراء بلا غابات نخيل ولا أشجار حنّاء إذ تحولت الى أحراش صحراوية موحشة، بل ان أهالي الفاو هم من يعاني من العطش.
ان مواطني الفاو لا يطالبون ان تصبح مدينتهم سياحية كما كانت، ولا يطالبون بتعويضات يستحقوها، ولا بإنصافهم في سكن لائق بعدما خربت بيوتهم، ولا يطالبون بالإكثار من زراعية النخيل فيها كي تعود بساتينها العامرة، بل يطرحون مطالب ممكنة وملحة. وبصرف النظر عن كل ما يقدم من ذرائع ومبررات للإهمال الذي تعرضت له المدينة خلال السنوات الماضية، فالمدينة لا تعذر من يعلق عدم اكتراثه بمطالب الناس على شماعة الوضع الأمني وصعوباته، فأهلها طيبون وبعيدون عن التعصب والتطرف والإرهاب والغلواء، فالمدينة ولحسن الحظ لم تعرف التفجير والتفخيخ.
ان ما يطالب به أهالي الفاو هو الماء ليس للأرض التي تشكو عطشها، بل للإنسان الذي لم يجد غير الماء مالحا يستحيل الغسل فيه فكيف يا ترى شربه؟
لم ولن تفارقني صرخة ذاك الشيخ الجليل من (رأس الفيشة)، الذي سحنت الشمس بشرته السمراء وهو يستغيث مطالبا بـ "تنكرين" من ماء الشرب يوميا لناحية الخليج!
يبدو ان الوضع في الفاو ليس استثناء، فهل هناك من يفكر بإعادة الأمل الى هذه المدينة، وما يماثلها؟

 

free web counter