| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم الحلوائي 

jasem8@maktoob.com

 

 

 

 

الثلاثاء 5/7/ 2005

 

 

حدث هذا قبل نصف قرن ــ القسم الرابع

 

عشية ثورة 14 تموز المجيدة

(2 ــ 5)

 

جاسم الحلوائي

عندما طلبت من جاسم الطويل أن يختفي ، لم أكن أعرف بأنه قد أعطى "براءة"، في صيف 1955 في عهد مدير شرطة كربلاء جواد أحمد ، وأخفى الأمر على الحزب . لقد إكتشفنا ذلك بعد ثورة 14 تموز. فقد أخبرنا الرفيق أحمد العلي، المستشار القانوني في  مديرية شرطة كربلاء ، بأن جاسم الطويل ورفيق آخر إسمه محمد علي حبوبة - و كان الأخير عضوا في اللجنة العمالية ، أما جاسم فكان عضو اللجنة  الحزبية التي كانت تقود منظمة مدينة كربلاء وكنت سكرتيرها -  قد أعطيا البراءة في عام 1955، وبإمكان قيادة المنظمة التأكد من ذلك . وفعلا ذهبت الى شعبة الأمن بصحبة الرفيق الحقوقي وبحضور مفوض الأمن (عبد الأمير علًو) . وقد إطلعت على السجل السري الذي يحوي صورهما وصيغة البراءة الشائعة . إستفسرنا من محمد علي حبوبة عن أسباب عدم ذكر قضية البراءة في الرسالة التي رفعها للحزب وطلب فيها إعادة إرتباطه؛[1] فإدعى بأنه تصور بأن ذلك لم يعد له اهمية  بعد الثورة ؟! وإستفسرنا من جاسم الطويل عن اسباب إخفاء البراءة على الحزب ، فأفاد بأنه كان يطرد من الحزب لو فعل ذلك ، في حين تمكن من مواصلة النضال  خلال أكثر من ثلاث سنوات .  ولم يجب على سؤالنا له : ماالذي كان يحصل لو إن الجميع أعطوا البراءة وواصلوا العمل في الحزب ؟ هل كانت حكومة نوري السعيد لا تبتدع وسيلة اخرى لإضعاف الحزب وشل قدراته الكفاحية ؟ قررت لجنة المدينة تنحية جاسم الطويل ومحمد علي حبوبة من مراكزهم الحزبية وإبقائهم أعضاءا في الحزب. [2]

كان مفوض الأمن (عبد الأمير علًو) يتصرف كالخادم خلال وجودي في شعبة الأمن . و لم يكن ينظر في عينيّ ، لأنه كان أحد الذين تلقيت منه الصفعات والركلات قبل الثورة . وخرجت من الدائرة رافضا عرضه بشرب الشاي . بعد ذلك أخبرني أحمد العلي ، بأن المفوض المذكور يشكو من أني لا أرد السلام عليه ، في حين كان متهما من قبل مسؤوليه بالتقصير تجاه الشيوعيين في العهد المباد ، ولهذا السبب نقل من مركز محافظة كربلاء الى خارجها .  أجبته : " لا اتمكن ان أبادله التحية" بعد ذلك فاتحني في الموضوع ، صديقي ورفيقي ومساعدي في اللجنة القيادية للمنظمة ، الشهيد علي النور ، وناقشني من وجهة نظر سياسية . فأخبرته بأني لست ضد كسب المفوض الى جانبنا ، ولكني شخصيا لا أتمكن من مجاملته . كيف يمكن أن أجامل شخصاً كان يضربني (راشديات وجلاليق) ؟ سألت علي النور، وأضفت ، انا إنسان ولديّ كرامتي . إتفقنا على غلق الموضوع . وفعلا لم يفاتحني احد به لاحقًا .

كانت بساتين كربلاء ملاذي عندما تضيّق السلطات الخناق عليّ في المدينة . كانت لدينا خلية حزبية فلاحية، أغلب أعضائها يقيمون في (الجرية) مركز ناحية الحسينية. وكنت أصلها مشيا على الأقدام خلال ساعة وخمسة عشردقيقة. وكنت أقضي النهار في بستان الشهيد عيسى وهو أحد أعضاء الخلية المذكورة ، ويقع بستانه على الشارع العام، وفي الليل ، حيث تكثر مداهمات الشرطة عادة ، كنت أبتعد عن هذه المنطقة ، التي يسهل على الشرطة الوصول اليها ، وأذهب الى مزرعة رفيق آخر إسمه هاشم المسعودي، التي تبعد عن بيت عيسى حوالي الساعة ، وتقع في منطقة وعرة ، تتجنبها الشرطة . وكنت اشعر بالأمان التام في هذه المنطقة. وفي أحد الأيام ، خلال إختفائي في هذه المنطقة ، بُعيد أنتفاضة تشرين الثاني 1956، تحركت نحو مزرعة هاشم عند غروب الشمس . وما أن ابتعدت عن بستان عيسى ببضعة كيلومترات حتى لاحظت من بعيد كلبا كبير الحجم ، يشبه الذئب ، يركض بقوة نحوي وبإستقامة عجيبة فاتحا شدقيه الى أقصى حد وبشكل يثير الرعب . المكان الذي كنت فيه ، كان أشبه بصحراء خال من أي مكان أحتمي فيه . أصبحت أمام معركة لا قبل لي فيها . كنت أحمل عصا قوية وطويلة نسبياً صممت إدخالها في فم الكلب إن هاجمني؟! عندما صرنا وجها لوجه على مبعدة حوالي 150 متراً ، دنوت من الأرض متظاهراً بأني أتناول حجرا لأضربه ، وإذا بالكلب يقف في مكانه ، في حين بقيت سائرا في طريقي لا أحيد عنه . وبعد برهة وجيزة قفل الكلب عائدا في طريقه الذي أتى منه ، وأنا بين مصدق ومكذب عيني بإنتهاء هذه المحنة ، بهذه الحيلة البسيطة والشائعة. 

بعد مضي بعض الوقت وعندما أصبح الظلام دامساً ضاعت عليّ ملامح الطريق ، أخذت أشك بصواب الإتجاه الذي أنا سائر فيه ؛ فإنحرفت بإتجاه آخر ، وما أن سرت بعض الوقت حتى شككت أيضا بإتجاهي الجديد ، فتوقفت . تلفتّ الى الجهات الأربع فلم أجد أي شيء يساعدني على تحسس طريقي . لقد ضعت!. لم يكن بمقدوري السير بأي إتجاه كان ، خشية الإبتعاد عن هدفي . لم انس تلك اللحظات التي مرت علي وأنا في تلك الحالة أحدّق في الظلام تائها في جو بارد جداً وممطر. وأنا في هذه الحالة وإذا بي الاحظ وميضا عن بعد ، ومن ثم شاهدت ناراً تظهر وتختفي . قررت التوجه نحو مصدر النار غير آبه مَن هم الذين سأصادفهم ، المهم إنهم بشر. بعد فترة قصيرة إختفت النار؛ فبقيت أمشي محافظا على إتجاهي . سرت مدة معينة ، وإذا بي أسمع نباح كلاب  سرعان ما توجهت نحوي، وأحاطت بي ، كإحاطة السوار بالمعصم ، دون أن تهاجمني. فجأة سمعت صوت إمرأة تنادي(مِنهو؟) مَن القادم؟ أجبت (صِديج) صديق ؛ فنهرت الكلاب التي كفت عن النباح وإبتعدت وهي تهز ذيولها تعبيرا عن إمتثالها للأمر!. تعجبت أن أجد نفسي غير بعيد عن بيت هاشم المسعودي، ومع ذلك لم أكن أراه بسبب الظلام . رحب هاشم بي  كعادته . غذوا النار الخافتة بحطب جديد وسرعان ما شعرت بالدفء ، ورحت استمع للأخبارمن راديو يعمل على بطارية كبيرة . لم أخبرهاشم بما جرى لي وما عانيته في طريقي . لقد نوهت له بأني كدت أن أضيع طريقي بسبب الظلام . لأن الحديث عن الخوف من كلب متوجه لمهاجمتك أوالخوف وأنت ضائع في ظلام دامس في الصحراء لايشير الى شجاعة المرء ، حسب القيم السائدة في الريف ، بل وقد يعرض المتحدث بها نفسه للسخرية من الآخرين .   

عدت الى المدينة خلسة . وكنت قد إستلمت بريدا حزبيا يتضمن نشرة إخبارية عن إنتفاضة مدينة الحي . كنا نستنسخ النشرات الإخبارية ونوزعها . فباشرنا ، انا وأخي حميد ، بإستنساخ النشرة الجديدة ، عندما زارني، وفق موعد مسبق ، أحد الرفاق في البيت وإسمه جليل أسد ، . ولم يمرعلى وجوده عندنا اكثر من نصف ساعة ، حتى  دوهم بيتنا من قبل الشرطة وذلك في مساء 9 شباط 1957، والقي القبض علي وعلى جليل أسد وأخي حميد الذي كان عمره 16 عاما . عثروا على النشرة الإخبارية . أنكرنا في التحقيق عائدية النشرة ومستنسخاتها. تعرضنا للضرب والشتم ووجهت إلينا تهمة وفق المادة 98 ـ آ التي تخص الشيوعية ، رغم إن النشرة ألإخبارية لم تكن لها اية علاقة بالشيوعية . بعد بضعة أسابيع سفرنا  الى مدينة الديوانية لتقديمنا الى المجلس العرفي العسكري . فقد كانت البلاد تعيش في ظل الأحكام العرفية. قدمنا الى المجلس في اليوم التالي لوصولنا بدون محامي للدفاع عنا . القى المدعي العام مطالعة مختصرة طالبا إدانتنا... باشرت بالدفاع قائلا:ً "سيدي إن هذه ألأوراق لاتعود لنا ، علما بان مضمونها ، بحدود إطلاعنا على ذلك في التحقيق ،لا علاقة له بالشيوعية . أوقفني رئيس المحكمة صارخا في وجهي" أسكت" ! وأصدر حكمه بالسجن ثلاث سنوات علي وعلى جليل أسد ،  وأحدعشر شهرا سجن وسنة مراقبة على أخي حميد . رحلنا في اليوم التالي الى سجن الحلة تمهيدا لتسفيرنا الى سجن بعقوبة .

أدخلونا الإنفرادي في سجن الحلة . نفس المكان المخصص للمحكومين بالإعدام ، والذي قضيت فيه محكوميتي في الأشهر الأولى من عام 1955، عندما كان المجرم عبد الجبار أيوب مديرا للسجن . وقد بلغونا بأننا سنسفر في اليوم التالي الى سجن بعقوبة. في المساء كنا جالسين في الغرفة  مع بضعة سجناء آخرين، وإذا بأخي قاسم ينتصب في باب الغرفة ، إندهشنا للصدفة ، تعانقنا ، أنا وأخي حميد ،  معه بحرارة ، وعرفنا منه بأن الشرطة قد القت القبض عليه لأنه محكوم غيابيا  لمدة ثلاثة أشهر ، وسيقضيها في سجن الحلة ، أي إننا سنتفارق في اليوم التالي . أقمنا "حفلة" توديع غنى فيها قاسم (أبوذية) تناسب الموقف الذي كنا فيه ــ لقاء قصير جدا سيعقبه فراق طويل. وقد إندهشت لصوته الجميل والشجي والذى لم أكن قد سمعته سابقاً. في اليوم التالي توجهنا أنا وأخي حميد وإبن دعوتنا جليل أسد الى موقف السراي ومنه الى سجن بعقوبة ، لملاقاة الجلاد علي زين العابدين.

يتبع


[1] ـ شارك محمد علي حبوبة مع حسن النقاش في كتابة بيان، يحبذ الشيوعية، وتوزيعه على عناوين عديدة في كربلاء وذلك عام 1946. وبسبب ذلك حكم على محمد علي سنتين سحن وعلى حسن النقاش ثلاث سنوات وعلى جعفر القاضي، الذي طبع البيان بالآلة الكاتية، سنة واحدة. وعلى أثر الضربة التي وجهت لتنظيمات الحزب عام 1948 هرب النقاش ومحمد علي الى الإتحاد السوفيتي. وعاد الأخير الى العراق قبل ثورة 14 تموز.

[2] ـ بالمناسبة، في النصف الثاني من عام 1979 وخلال تعرض الحزب الشيوعي لأشرس حملة قمعية من قبل النظام البعثي الساقط،، أوعزنا، لضمان إدامة العمل، للرفاق العاملين في الأجهزة الفنية والبيوت الحزبية والمراسلين بإعطاء التعهد لكي يفلتوا من أيدي العدو،وسرعان ما إنكشفت الخطة فأخذ الأمن يطلب من الذين يلقى القبض عليهم، الموعد الحزبى ومكانه، أولا وقبل كل شيء، وإلا فإنه يتعرض لأساليب البعث الفاشية في التعذيب فورا وبدون تأخير. فالعلاقة بين الأجهزة القمعية والقو ى التي تتعرض للقمع لم تكن ولايمكن أن تكون لعبة ذكاء وغباء كما يظن بعض مدعي الذكاء. إنها صراع بين قوة غاشمة بإمكانيات غيرمحدودة تريد أن تجبر المرء على المساومة، بأي شكل من الأشكال، وحدها الأدنى إخراج المناضل من حلبة النضال من جهة، وإرادة إنسان يأبى المساومة على حساب رفاقه ومعتقداته وقضية شعبه وعلى حريته كإنسان من جهة أخرى.