| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم الحلوائي 

jasem8@maktoob.com

 

 

 

 

الأربعاء 4/5/ 2005

 

 

حدث هذا قبل نصف قرن - القسم الاول

أصعب عام في العهد الملكي المباد 

( 4- 4 )

                                                      

 جاسم الحلوائي

دخلنا سجن بعقوبة بعد الدوام. إستقبلنا السجانون، واقفين بصفين متقاربين، بالضرب والركل والشتائم وبتهديدات فظيعة، تتخللها نصيحة بإعطائنا "البراءة" باكراً، وقبل ان يأتي المدير، لكي نوفرعلى أنفسنا عناء التعذيب؛ وذلك أفضل لنا لأنه لايدخل هنا سجين جديد.  جاء المأمور بدلاً من المدير،بعد أن البسونا ملابس السجن، أخذوا ملابسنا وتركو لنا الداخليات فقط.  إعتدى المأمورعلينا ضرباً بعد أن رفضنا إعطاء "البراءة". وسرعان ما تجمّع علينا السجانون وأشبعونا ضرباً وركلا. بعدها اخذونا الى السجن الإنفرادي، ــ وهو سجن جديد تم بناؤه بإشراف النقطة الرابعة الأمريكية ــ. وطلبوا منا  السير بهدوء تام وفعلوا الشيء نفسه. وخلال الطريق كانوا يذًكروننا باللقاء في اليوم التالي بالمدير معتبرين إن ما شاهدناه قي ذلك اليوم مجرد سلاطة. زجّّوا بنا في غرفة صغيرة، في اعلاها فتحة صغيرة، أمرونا بأن لا نقترب منها. عرفنا لاحقا بان الخوف من مقابلة المدير في اليوم التالي كان سببا في إنهيار الكثير من المناضلين.

في اليوم التالي اخذونا فرادا الى المدير. عندما عرف بأني من كربلاء، إستكبر ذلك قائلاً:"هم كربلائي وهم شيوعي؟!". وبعد أن تأكد بأني غير مستعد لأعطاء "البراءة"  اعطى إشارة الى المأمور والسجانين الذين كانوا يقفون ورائي بالإعتداء عليّ؛ فإنهالواعليً ضرباُ وركلاً.  ولما عرف المدير يان سمعي ثقيل، اوعزإليهم،  وبصراحة، ان يضربوني على أذنيّ لكي أطرش.  ولم يقصر السجانون وخاصة المأمور عباس الجابر والذي كان يقًعر كفه امامي ويلوي رأسي ويضربني على اذني. ضربوني عشرات الضربات على كل إذن. وعلى اثر ذلك هبطت إمكانية سمعي  وحصل طنين في إذني ظلّ يلازمي الى يومنا هذا. أعادوني الى السجن الأنفرادي وأنا أشعر بالنجاح في الأمتحان. وضعوني هذه المرة في غرفة وحدي. بعد حوالي الساعة  فُتحت الباب الصغيرة، ومدّ السجان يده بصينية صغيرة فيها تبغ وسجائرطالبا مني أن أخذ حاجتي. إندهشت لهذه المعاملة الرؤوفة. إستفسرت من السجان مَن الذي أرسل ذلك؟ نهرني وطلب مني أن لا اسأل. أخذت عشرة سجائر، وخمّنت بانها من الرفاق.

بعد بضعة أيام نقلوني الى قسم آخر من السجن. نفس الغرفة الصغيرة (3×4 م)  والتي تقع في صفين متقابلين يفصلهما ممرلايتجاوزعرضه المترين.في هذا القسم يجري تفتيش يومي مزعج، يدخل السجانون وكأنهم يريدون إلقاء القبض على مجرم هارب اومادة خطيرة مهربة؛ فينكثون البطانيات وينثرون كيس الملابس لعلهم يجدون قلما أورصاصة قلم أوليجدوا ورقة بيضاء مهما صغر حجمها. فقد كان كل ذلك من الممنوعات فضلا عن الكتب والصحف. بعد هذا التفتيش ياتي المدير وبمعيته عدد من طاقم الأدارة؛ فيدخل جميع الغرف ليستفزأويعتدي على هذا اوذاك أوليجري تنقلات الى القلعة اوالى الانفرادي حسب هواه وتقديراته. كانت ابواب الغرف تفتح من الصباج حتى الساعة العاشرة مساء، وتغلق ساعتين ظهراً للقيلولة. كانت هناك سماعة يسمع منها راديو بغداد وفي اوقات محددة. كان السجناء يختلطون فيما بينهم قي الممر وفي الغرفة التي تستخدم لتوزيع الطعام أوفي غرفهم. تصلهم جريدة واحدة يوميا لقراءتها وإعادتها؛ فكانت تقرأ جماعيا، وكان يقرأها الفقيد مهدي عبد الكريم.

كان هذا القسم يضم حوالي عشرين سجيناً، قسم منهم جُدد وآخرون مغضوب عليهم من قبل المدير. وكان المسؤول الحزبي عبد علوان الطائي. أما جمهرة السجناء الكبيرة في سجن بعقوبة فكانت في القلعة (السجن القديم). في القسم الجديد لم يكن سوى واحد من منظمة "راية الشغيلة" وهو محمد ابو كالة. في اليوم الأول لوصولي الى القسم المذكور، أوصاني أبو كالة بان لا أخذ شيء من "الأنجازيين". وفعلا فقد رفضت ماعرضه عليّ وجدي شوكت سري من ملابس داخلية وقلت له :" نحن عندنا تنظيم!

 في إحدى الجولات التفتشية للمدير نقل بضعة سجناء من الإنفرادي الى سجن القلعة وكنت احدهم. وقد بدا لي بانه لم يكن يعرف بان تخليتي ستكون في اليوم التالي. في القلعة كان هناك حوالي 70ــ 80 سجينا، بينهم واحد من منظمة "راية الشغيلة" هو الشهيد حسن عوينة .كان عزيز محمد ومعه مجموعة من المنظمة قد نقلوا، بمعية مجموعة أكبر من رفاق الحزب، الى سجن نقرة السلمان الصحراوي، قبل وصولي ببضعة اشهر. وكانت واحدة من أمانيّ أن التقي بهم ولكن... لم أبق في القلعة سوى يوم واحد قضيت جلّ الوقت أتجول مع حسن في باحة السجن الكبيرة.وقد أخبرني حسن بأن هناك مفاوضات تجري بين قيادة المنظمة وقيادة "الأنجازيين".[1] في المساء وزعت المنظمة عصيراً على جميع السجناء بمناسبة إنهاء محكوميتي. في صباح اليوم التالي، رافقني حسن الى القاعة التي فيها المسؤول الحزبي كربم احمد الداود. فودعني (ابو سليم) بحرارة. سفرت الى كربلاء. واطلق سراحي بعد تهديد ووعيد من قبل الأمن.

عند خروجي من السجن في صيف 1955 تقرر إنتقالي الى النجف كتدبير صياني.

كانت إقامتي في بيت حسين سلطان (أبوعلي)، وفي الغرفة الصغيرة التي كانت تحوي أدوات ووسائل الحياكة. كنت أنام بجانب(الجومة) في حيز ضيّق؛ ولم يكن في البيت سوى غرفة واحدة اخرى هي، كما هو الحال بالنسبة لجميع العوائل الفقيرة، للطعام والنوم والضيوف والمعيشة. كان ابوعلي مختفياً لذلك كان يعمل حائكا في البيت. كانت الحالة المعيشية فقيرة جدا؛ فوجبة الظهر،والتي تعتبر الوجبة الرئيسية،كثيرا ما كانت (مرﮔة هوا)[2].

في بيت ابو علي قرأت كثيرا من الكتب ومن أهمها كتاب الإقتصاد السياسي لمؤلفه ليونتيف، وكان مكتوبا بخط جميل وواضح. لقد قرأته أكثر من مرة، ولم يكن هناك مَن أسأله عن الأمور الغامضة عليّ او التي لم أتمكن من إستيعابها؛ فأبوعلي داعية كبير بالنسبة للجماهير الكادحة في النجف؛ إلا إنه لم يكن يقرأ، وكانت ثقافته العامة والماركسية محدوده.

  وبالإرتباط مع تواتر الأخبار حول وحدة الحزب سمّى حسين سلطان مولودتهم (بشرى) تيمناً بتلك الأخبار. وتلاحقت الأعوام وتدافعت الأحداث وإذا بي أذهب يوما في عام 1976 مع بعض إخوتي لأخطب بشرى الى أخى خليل والذي تسلسله ما قبل الأخير بين إخوتي. لقد صادف خليل وبشرى بعض العرا قيل أمام إقترانهما، ولكن حبهما كان أقوى من أية عراقبل، فتزوجا، وهما يعيشان سعيدين مع أبنائهم الستة.

كلفت مرة أن اجلب بريدا من بغداد.اتصلت بفتاح الحلاق الذي أعرفه من كربلاء فسلمني حقيبة سفر كبيرة. وصلت الى مدينة النجف مساءُ فوجئت بوجود تعزية حسينية في الساحة التي في طريقي الى البيت.شعرت بخطورة المرور بالساحة التي كان جميع الحضور فيها جالسين، ولم يسمع أي صوت فيها سوى صوت القاريء. وعادة ما يتواجد رجالات الأمن في هذه الأماكن. كنت أمام خيارين، أما العودة و إحتمال جلب إنتباه الآخرين، وأما المجازفة والسير في طريقي بهدوء معتمداًعلى لامعقولية تصرفي. إخترت الحل الثاني ونجحت. الغريب في الأمر أن يكلف مناضل لأول مرة قي حياته بمثل هذه المهمة، ولا يُعلّم كيف يتصرف وماذا يقول في هذه الحالة او تلك، خاصة وإن السيارات كانت تتعرض للتفتيش، وكان قد القي القبض على خضرالصراف، قبل مدة ليست بالبعيدة في نفس هذا الطريق ، ومعه حقيبة  مشابهة لحقيبتي في نقطة سيطرة. وليس غريباً أن لا يطرح المناضل، الذي يكلف لأول مرة بمثل هذه المهمة الخطرة، أسئلة يمكن أن تفسّر بانه خائف. وقد علمت بأن الحقيبة التي جلبتها من بغداد كانت تحوي على بريد متراكم لمدة 3ـ 4 أشهر!؟

×    ×   ×

واصلت الطغمة الحاكمة بقيادة نور ي السعيد هجومها على الحركة الوطنية في عام 1955 وتمكنت من الدخول في احلاف عسكرية تبلورت في حلف المعاهدة المركزية (السنتو) حلف بغداد. لقد كانت الحركة الوطنية في جزر؛ فلم تتمكن من التصدي الفعّال لإحباط مساعي الحكومة لعقد الحلف. والغريب في الأمر إن قيادة الحزب لم تكن ترى جزراً في الحركة، بل كانت ترى بأن هناك غلياناً ووضعاًً ثوريا ناضجاً للقيام بإنتفاضة. " لقد اعطى(حميد عثمان) امراً الى لجنة بغداد للقيام يإنتفاضة تطيح بحكومة المراسيم والأرهاب وحلف بغداد..."[3] وكأن الإنتفاضة يمكن أن تقوم بطلب هذا القائد أو الحزب. بدون توفرشروطها الموضوعية والذاتية، والتي أحدها إستعداد جماهير غفيرة، لاعهد لها بالعمل السياسي، للنزول الى الشارع . وتنفيذا لتلك الأوامرخرج ما يعرف ﺒ"المظاهرات الخاطفة" حيث زج بكوادر وأعضاء الحزب فيها لتثوير الجماهير، ولكن دون جدوى. "لقد عرضت المظاهرات الخاطفة لجنة بغداد وكوادرها الهامة الي الخطر, فالقي القبض على اللجنة ومسؤولها كريم أحمد..."[4] ولم تتمكن تلك الفعاليات اليسارية الأنعزالية أن تحرك الجماهير وإستمر الجزر في الحركة الوطنية طيلة عام 1955 .


[1] ـ نسبة الى نشرة داخلية كان الحزب يصدرها بإسم "الإنجاز".

[2] ـ مركة الهوا، عبارة عن قليل من البصل المقلي بالزيت وماء وخبزمقطع .

[3] ـ ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد . " سلام عادل ، سيرة مناضل " الجزء الاول  ص 91 .

[4] ـ المصدر السابق، ص99